قصة حديقة الحيوانات: كيف أصبحت مصر مقبرةً للتراث؟
البداية فرعونية بالطبع…
حيث كان تبجيل الحيوانات وتقديسها وعبادتها وتحنيطها إلى جانب الملوك، ويعود تاريخ إنشاء أول حديقة حيوان مصرية إلى 1500 ق.م، بمرسوم من الملكة حتشبسوت، وتمثل المنحوتات الجدارية المصرية منذ عام 2500 ق.م دليلًا على إرسال الحكام رحلات صيد؛ لاكتشاف وجلب الحيوانات، مثل الزراف والفيلة والطيور والقردة والزواحف؛ لوضعها في أماكن تشبه الحدائق البرية؛ ليشاهدها العامة كدليل على شجاعة الفرعون ورجاله.
«زرافة» فرنسا و«سراي الجيزة»
يقول مؤرخون إن مصر عرفت حدائق الحيوانات في عهد خمارويه؛ حيث بنى دورًا للسباع والفهود والنمور والفيلة التي جلبها ليأنس بها. وفي عهد محمد علي، كان قصره بشبرا الخيمة أشبه بحدیقة حیوان مصغرة؛ إذ ضم غزلانًا وزرافات أهدى إحداها للفرنسيين.
وفي عهد سعيد باشا، بنى قصرًا مساحته 30 فدانًا، وعقب وفاته اشتراه الخديوِ إسماعيل وأنفق عليه أكثر من مليون جنيه، وهو مبلغ يوضح ضخامة ما تم عمله بالقصر الصغير، حتى زادت مساحته عن 460 فدانًا، وسُمي «سراي الجيزة».
وكان أحد أفخم ممتلكات السراي الخديوية لإسماعيل؛ لروعة معماره الإسلامي، وتصميماته الداخلية، وحدائقه الهائلة التي ضمَّت أنواعًا نادرة من الزهور والنباتات وأقفاصًا للطيور والحيوانات النادرة، بإشراف متخصصين في تنسيق البساتين جلبهم الخديوِ من الأستانة؛ لتصميم جبلايات وبِرَك فخمة، وتنسيق وتزيين ممراته وحدائقه، وكان من أشهرها «حدائق الحريم» أو «حدائق البهجة» كما أُطلق عليها؛ إذ ضمت عجائب شملت الطرق المعبدة بالحصى الملون المجلوب من جزيرة (رودس) اليونانية، وكانت ممراتها محاطة بأطر من الأرابيسك والفسيفساء الرومانية، وضمت بركة تتوسطها جزيرة رخامية، أصبحت فيما بعد «جزيرة الشاي»، وعدة كهوف وقنوات مائية مرصعة تسبح فيها النباتات المائية والأسماك، وتربطها جسور خشبية، مع درابزين مغطى بالمخمل؛ حتى لا يؤذي أصابع حريم الخديوِ.
«حدوتة الجنينة»
فكر إسماعيل في إنشاء حديقة للحيوانات، بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869، لكن ضيق الوقت لم يمكِّنه من ذلك، وفي عام 1874 تقرر تحويل حدائق الحريم إلى حديقة حيوان؛ لما تحويه من نباتات وحيوانات وطيور نادرة جلبها إسماعيل، وبعد خلعه اقتُطع من مساحة السراي 50 فدانًا؛ ليعاد تنسيقها لعرض الحيوانات والطيور، ضمن المنطقة التي خُصصت لحديقة الحيوان، وفي عام 1875 تبرعت الأميرة فاطمة إسماعيل بجزء آخر من حدائق السراي؛ لتُضمَّ إلى حديقة الحيوان، وفي عام 1890، استُخدم «مبنى الحريم» كمتحف للآثار المصرية، عقب غرق متحف بولاق، حتى افتتاح المتحف الحالي بميدان التحرير عام 1902.
وتحت إدارة النقيب ستانلي فلاور، المسئول عن الحيوانات، افتُتحت الحديقة في 1 مارس/آذار 1891، في عهد الخديوِ توفيق كحديقة نباتية، وضمت «جوهرة تاج حدائق أفريقيا» أهم وأندر الأشجار والنباتات التي جلبها إسماعيل من الهند وأفريقيا الوسطى وأمريكا الجنوبية، كما ضمت قرابة 6 آلاف حيوان من نحو 175 نوعًا، منها 180 طائرًا أصليًّا، و78 حيوانًا من ممتلكات إسماعيل الخاصة، لتصبح الحديقة معرضًا ضخمًا للحياة البرية، يضم عددًا من الحيوانات والطيور المنقرضة، ومنها الكبش الأروي، والماعز الجبلي، والغزال المصري، وأنواع نادرة من التماسيح والأبقار الوحشية.
عام 1934، أُنشئت جامعة القاهرة، لتقتطع جزءًا من الحديقة، وفصل طريق نهضة مصر حديقة الأورمان عنها، وفي عام 1938، أُضيفت إليها حدائق الأورمان القبلية، لتزيد مساحتها من 50 إلى 80 فدانًا، وفي أواخر السبعينيات انتقلت ملكية الحدائق إلى الدولة؛ كتسوية جزئية لديون إسماعيل، وبِيع الجزء الجنوبي من حديقة «السلامليك»؛ لبناء منازل فخمة «على النيل»، بينما تم الاحتفاظ بحدائق الحريم «الحرملك».
التراث النادر للحديقة
تضم الحديقة أشجارًا تخطى عمرها قرنًا من الزمان، وبنايات أثرية مسجلة ضمن قوائم التراث المصري، منها البوابات الأربع للحديقة، والسور الحديدي، ومغارة الشمع، وأعمدة المدخل الملكي، وبيت الفيل، وبيت الدببة.
وتضم الحديقة خمسة تلال (جبلايات)؛ أكبرها جبلاية القلعة، التي بناها المهندس التركي «سايبوس» عام 1867، وتتميز بروعة البناء، ومزينة بمجموعة من التماثيل للديناصورات والتماسيح والطيور، وصخور مرجانية، وأخشاب وأحجار صحراوية، ومكسوة بشعاب مرجانية من البحر الأحمر، وكان يصل إليها مجرى من النيل؛ لتروي نفسها كشلال طبيعي، وخلفها حوض استخدمه الخديوِ كحمام سباحة، واستُخدم فيما بعد كحوض للبجع الأبيض.
وهناك جبلاية الشمعدان، والطريق الملكي المؤدي إليها، وجزيرة الشاي، التي أُنشئت كاستراحة خاصة للخديوِ إسماعيل في حديقة الوالدة باشا، ثم صارت استراحة للملك فاروق، و«الكشك الياباني»، وهو متحف مقتنيات أُنشئ عام 1924 بمناسبة زيارة ولي عهد اليابان لمصر، وتلَّان صناعيان يربطهما أحد أهم وأعرق الجسور الحديدية المعلَّقة؛ ليتيح مشاهدة الحيوانات من أعلى كأول منطقة مشاهدة مرتفعة في حديقة حيوان، وأشرف على تنفيذه مهندس برج إيفل، الفرنسي «جوستاف إيفل»، عام 1879، قبل بناء برج إيفل.
وهناك «متحف الحيوان» الذي بُني عام 1906، وافتُتح عام 1914؛ لعرض الحيوانات المحنَّطة والهياكل العظمية، ويضم مكتبة ومعهدًا علميًّا لدراسة سلوك الحيوانات، وطعامها وتأثرها بالبيئة، وحالتها النفسية والجثمانية، ومشرحة للحيوانات، ووحدة للسموم.
الإهمال يضرب الحديقة
في الثمانينيات، كانت الحديقة ثالث أكبر حدائق العالم، بعد حديقتي لندن البريطانية وسان دييجو الأمريكية، وفي التسعينيات تفشى الإهمال فيها، ولم تعد أثرًا، بل صارت أثرًا بعد عين، فتدهور طابعها العمراني الفريد، بعدما ساد الاهتمام بالجانب الترفيهي على حساب الأثري والتراثي، فاهتمت إدارة الحديقة بالتلوين والرسم على الوجوه، والفشار وغزل البنات.
بدأ الإهمال يتراكم بتوقف التطوير والتجديد، وفقدان الحديقة لغالبية الأنواع التي ضمَّتها، ولم يتم تعويضها؛ لأن الميزانية بالكاد تكفي للتغذية والصيانة، كما افتقد مديروها الشعور بقيمتها النباتية والبيئية والتراثية، فانتشر القبح بتجديد منشآتها بما لا يتناسب مع طبيعة معمارها التراثي، وساد التعامل مع الحيوانات كأنها في سيرك، وقُطعت أشجار نادرة، واشتكى نشطاء حقوق الحيوان من أقفاص «العصر الفيكتوري»، التي تعرض الحيوانات فقط، لكنها ليست بيئات مخصصة لها، فضلًا عن جهل حراس الحيوانات بمعاملتها وصحتها.
ضمت الحديقة فصائل متعددة تطلبت اهتمامًا خاصًّا، وكميات أطعمة، ورعاية بيطرية، واهتمام بطبيعتها الحيوانية والنباتية والتراثية الفريدة، وهو ما يفسر جانبًا من جوانب إهمالها، في ظل عدم تخصيص استثمارات ومخصصات مالية للحديقة، واعتبارها مجرد «بند» من بنود وزارة الزراعة التي تتبعها إداريًّا.
فضيحة دولية
بعد 4 سنوات فقط من انضمامها للرابطة العالمية لحدائق الحيوان وحدائق الأحياء المائية (WAZA)، تلقت الحديقة تحذيرًا بإقصائها من الرابطة؛ لعدم تطبيقها المعايير الدولية، وعدم توفير البيئة الملائمة للحيوانات، وهددت الوكالة بإلغاء تصنيف حدائق الحيوان بمصر، ووقف التعامل معها إقليميًّا وعالميًّا، ثم أعلنت الرابطة خروج الحديقة من عضويتها عام 2004؛ بسبب عدم تسديد رسوم العضوية، وتجاهل توصيات الرابطة، وموت أغلبية الحيوانات النادرة، وقلة الحيوانات المتبقية، ومعاناتها من سوء المعاملة والتقييد بالسلاسل، والحبس، وقسوة الحراس، وتدني كفاءة المعالجين البيطريين، ومضايقات الزائرين، وضعف التأمين والاحتياطات.
وفي «عريضة» دعمها أكثر من 1500 شخص، وُصفت الحديقة بأنها سجن ومعسكر تعذيب للحيوانات، ووصفتها الإندنبدنت عام 2013 بأنها «جحيم للحيوانات»، منتقدة تعليق مديرها على موت «زرافة» مختنقة بقوله ضاحكًا: «إنها شنقت نفسها دون قصد بعد تشابكها في سلك داخل حديقتها، ونجري تحقيقات لمعرفة من سيشنق بدلًا من الزرافة!» كما رصدت الصحيفة تلوث أجواء الحديقة بالغاز المسيل للدموع من اشتباكات ميدان النهضة بين الإخوان والشرطة.
الإهمال الفاحش
كان إهمال الحديقة فاحشًا؛ فقد تعرضت للتدمير لثلاثة عقود متتالية، وكان يسيرًا أن تشتري أحد حيواناتها من أحد «حراس الحيوانات»، مهما كانت فصيلته «حتى لو عايز فيل صغير»، وخيَّم الخراب على المتحف والقاعة الملكية، وعام 2007 اتُهم المشرف على حدائق الحيوان بالاستيلاء على مقتنيات الاستراحات الملكية بالحديقة من مشغولات ذهبية، وتحف نادرة، وأثاث، ونُشرت أخبار مماثلة عام 2018 عن استبدال مقتنيات الاستراحة الملكية، وعرضها بأحد المزادات، لكن الوزارة نفت وجود الاستراحة الملكية، وادَّعت أنها مجرد غرفة عادية كانت مخصصة كاستراحة لوزير تموين أسبق؛ ليكون قريبًا من الوزارة!
كما أُغلق «كوبري إيفل»؛ بحجة الحفاظ على أثريته، فتهالكت حاله، وأُغلق المتحف الحيواني لأكثر من 18 عامًا، وجزيرة الشاي وبحيرة البجع أُغلقتا لمدة سبع سنوات؛ لعدم تخصيص ميزانية لتجديدهما، وتسبب إهمال تأمين الحديقة في نشوب حريق بالجبلاية؛ نتيجة إلقاء عامل سيجارة مشتعلة، فضلًا عن سرقات عدة، منها ناقة مغربية ذُبحت لاستخدام أجزائها في «السحر الأسود»، وذُبحت أخرى بعد أن سرقها جزار تسلل ليلًا إلى الحديقة، وسرق فردا أمن بالحديقة غزالتين وطاوسًا، وسُرقت 5 نسور، و10 سلاحف.
عام 2006، أُغلقت الحديقة شهرين بعد نفوق عشرات الطيور؛ بسبب إنفلوانزا الطيور، ومن 2013 إلى 2019 فقدت الحديقة حوالي 14 حيوانًا، بعضها نادر، كآخِر أنثى للخرتيت الأبيض بالشرق الأوسط، وآخِر أنثى فيل أفريقي بالحديقة، ولم تكن كلها أسباب مرضيَّة؛ حيث تسبب الإهمال في وفاة ثلاث إناث دببة بعد أربع ساعات من شجارهن تحت نظر الحراس، واختناق «زرافة» علقت رأسها في سلة الطعام، وكان أكتوبر/تشرين الأول 2019 شهرًا كارثيًّا، حيث نفقت آخر أفيال الحديقة، ومرضت آخر زرافاتها، ونشب حريقان، واختفى حيوان «لاما» حديث الولادة، عُثر عليه بعد يومين محشورًا بجوار قفص أحد الحيوانات.
«جناب المسئول»
عانت الحديقة بشدة من اختيار قيادات لا تدرك كيفية التعامل مع معلم تاريخي وأثري دولي فاق عمره قرنًا وربعًا، ومن أمثلة ذلك تصريحات أحد مسئوليها بأن أبرز مشكلاتها «عدم بيع جلود الحيوانات، فضلًا عن رفض وزارة المالية دعم الحديقة»، وربما لأنه «لواء طبيب» فقد اقترح تخصيص يوم تزيد فيه أسعار التذاكر، وهو ما تقرر في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، برفع سعر تذكرة الحديقة إلى 65 جنيهًا يوم الثلاثاء، على أن تظل بسعرها (5 جنيهات) بقية أيام الأسبوع.
كما علَّق أحد مديريها على الخروج من التصنيف العالمي بأن «الحديقة لا تحتاج لهذا التصنيف، والعودة إليه تتطلب أن تكون الحديقة حرة (مفتوحة)، بتوفير البيئة المناسبة للحيوانات دون تقييد وأقفاص» ولكن المشكلة تكمن –من وجهة نظر سيادته- في أن «تصميم الحديقة قديم، ولا يمكن توسيعها، كما أن الحديقة المفتوحة تصل رسوم دخولها إلى 500 جنيه، في حين أن رسم دخول الحديقة 5 جنيهات فقط».
كل تلك التصريحات تدل على عدم الاحترافية، والجهل بقدرات المكان وإمكاناته، والتعلل بنقص الموارد وقلة الإيرادات، وهي علل حكومية بيروقراطية مصرية متوارثة اجتمعت مع الإهمال؛ لتكوِّن ما يشبه المؤامرة على إحدى الوجهات الحضارية التراثية، وأدت إلى نتيجة طبيعية ومنطقية، بخروج الحديقة من التصنيف العالمي، في «عيد ميلادها» الـ 127، وهي نتيجة تتكرر «بالكربون» مع الآثار المصرية؛ للاستهانة بقيمة التراث، وتحول المسئولين إلى مجرد موظفين، لا متخصصين يحفظون تراثًا ووسيلة حضارية للجذب السياحي والدراسات العلمية والثقافية؛ لكونهم لا يدركون أن تدهور الحديقة لا يؤثر فقط على الحيوانات، بل يؤثر على الوعي الثقافي والتراثي، وعلى الحديقة كمنطقة جذب عامة، وبيئة صحية للحيوانات، وثروة حيوانية ونباتية نادرة.
«البيه المستثمر»
ينسب البعض تدهور الحديقة إلى تبعيتها لوزير الزراعة منذ عام 1996؛ فمنذ حينها بدأ تشويه الحديقة، وإهمال مقتنياتها، وخفض ميزانيتها، وتجاهل تطويرها؛ لتُباع لرجال أعمال، أو تقل كفاءتها في مقابل حدائق الحيوان الإماراتية.
وفي زيارة وصفها محرر صحفي بـ «الكابوس»، أخبره عامل بالحديقة أن إغلاقها «سيجعل جمال مبارك يبيعها للوليد بن طلال؛ لتحويلها إلى فرع لفندق (فور سيزون)، وسينقل الحيوانات إلى حديقة أخرى بمدينة 6 أكتوبر».
في عام 2011، قُدِّر ما تحتاجه الحديقة للتطوير بـ 10 ملايين دولار، وهو رقم صغير مقارنة بـ 550 مليون دولار أُنفقت على المتحف المصري الجديد، في ظل أن الحديقة وجهة سياحية وأثرية طبيعية يمكن أن تدر الملايين أرباحًا، لكنها ليست ضمن خريطة المستثمرين «الخلايجة» المهيمنين على التنمية العقارية والسياحية في مصر، والذين أُشيعت أقاويل عن دورهم في نقل الحديقة إلى العاصمة الإدارية الجديدة؛ للاستفادة من موقعها المميز في مشروع عقاري ضخم، وهو ما نفاه مجلس الوزراء؛ لأن الحديقة مسجلة كأثر تاريخي يستحيل التصرف فيه.
«مانشيتات التطوير»
يمكن رصد تطوير الحديقة في افتتاح المتحف الحيواني عام 2015، بعد تطويره بعرض المحنطات بلا أقفاص فيما يشبه المتحف المفتوح، وفي 2018 أُعلن عن مشروع لضخ المياه الباردة في أنابيب أسفل أقفاص الدببة؛ لتوفير مناخ ملائم لها، وفي 2019، أُعلن عن تنفيذ محطة لتحويل نفايات الحيوانات إلى طاقة (غاز حيوي)، وكلها أمور تطويرية بسيطة ومتأخرة.
قبلها في 2018، أُعلن عن تشكيل «لجنة مختصة» لإنشاء خريطة رقمية؛ لتطوير الحدائق التاريخية والأثرية؛ لاستغلالها سياحيًّا واستثماريًّا، وكلها أمور بيروقراطية لا تهتم بالتراث بقدر اهتمامها بـ «تستيف الأوراق»، تحت مُسمَّى حصر وإعداد أرشيف قومي، وقاعدة بيانات للحدائق، ووضع خطط لتجديد بنيتها التحتية، ورفع كفاءة مبيت الحيوانات، وعمل بيت للزواحف وآخر للأسود؛ لعرضها بشكل حر، من خلال ميزانية حكومية مليونية، وُصفت بـ «خطة طموحة» لإحياء الحدائق التراثية، وكلها «مانشيتات» صحفية نُشرت لثلاثة أعوام متتالية؛ لتشيد بدور الحكومة في «مجرد وضع» خطة تطوير. وبالتزامن، نشر أستوديو (CUBE) للتصميمات الهندسية في فبراير/شباط 2019، خطة لتطوير الحديقة، بتجهيز فريق إدارة مؤهل، وإعادة إحيائها؛ لتواكب المعايير العالمية، مع الحفاظ على معالمها التاريخية الفريدة.
ولكن أهم ما يعوق هذه الأمور «التطويرية» هو الإهمال والبيروقراطية الحكوميين، بدايةً من ضعف التسويق والإعلان؛ فالموقع الرسمي للحديقة وصفحة الفيسبوك «لا تسر عدوًّا ولا حبيبًا»، مرورًا بضياع خرائط البنية التحتية، ونهايةً بقوانين المباني التراثية التي يتم اختراقها والتحايل عليها مرارًا، وهو ما تسبب في هدم وتشويه عدد كبير من المباني التراثية، كما أن الحدائق تتبع جهات مختلفة، وتتفرق مسئوليتها بين وزارات الزراعة والري والآثار، والمحافظات والمحليات، فضلًا عن التعديات، وعدم وجود ميزانيات للتطوير، وإسقاط الدولة هذه الحدائق من استثماراتها ومشروعاتها القومية، بالرغم من أنها ثروة تراثية عالمية يرتادها أكثر من 3 ملايين زائر سنويًّا، وتحقق إيرادات عالية، بلغت 600 ألف جنيه يوم شم النسيم فقط.
وهذا ما يدفع باتجاه وضعها على الخريطة السياحية المصرية، كمصدر دخل، وعامل جذب سياحي واستثماري مميز، ومكان ترفيهي وبيئي فريد تراثيًّا وطبيعيًّا، في ظل أن قيمة الحديقة وحيواناتها ونباتاتها وآثارها تُقدر بمليارات الجنيهات، ويمكن الاستفادة من مخلفات الحيوانات والمزروعات بتحويلها إلى أسمدة عضوية.
ما زالت بصمات التاريخ المحفورة بحديقة الحيوان بالجيزة تحارب الزمن والإهمال؛ لتحافظ على مكانتها المتفردة وسط الآثار المصرية؛ بسبب طبيعتها البيئية الفريدة، وكما أن «مصر مقبرة الغزاة» فإنها أيضًا مقبرة التراث؛ إذ لا مكان للتراث على أرض مصر، أرض التراث، وربما هذا هو تعريف المفارقة وسخرية القدر.