مسلسل «زيزينيا»: قراءة في وجوه قديمة
في مسلسله «زيزينيا» والذي عرض للمرة الأولى عام 1997، يختار «أسامة أنور عكاشة» كنقطة انطلاق فترة من أكثر فترات التاريخ الحديث صخبًا واضطرابًا، النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين. الحرب العالمية الثانية تلقي بظلالها على مدينة الرب، الإسكندرية في أوج مجدها الكوزموبوليتاني حيث يتعايش سويًا خليط من الجنسيات والأعراق في لحظة من التاريخ منحت المدينة استثنائيتها.
ثلاثية «زيزنيا» الناقصة –لم يتم إنتاج الجزء الثالث منها- من أعمال عكاشة ذات النفس الملحمي، تمامًا مثل خماسية «ليالي الحلمية» والتي ترصد حراك المجتمع المصري والتغيرات الطارئة عليه في الفترة التي تمتد من نهاية الملكية وحتى تسعينات القرن الماضي. هنا في زيزينيا يعيد عكاشة كتابة تاريخ المدينة التي طالما شكلت له إلهامًا وعشقًا لا ينتهي.
يعيد كتابة تاريخها السياسي والاجتماعي راصدًا حركة شخصياته الواقعية ضمن سياقها التاريخي. وحين تتوجه الدراما نحو التاريخ فإنها لا تفعل ذلك من أجل التأريخ، بل باعتبارها فنًا يتكئ على التاريخ ليقدم رؤيته للتاريخ والراهن معًا. فالتاريخ ليس زمنًا مضى وانتهى بل يعيش فينا ويسكن هويتنا.
نحاول خلال المساحة التالية أن نرسم بورتريهات ثلاثة لشخصيات الرواية الرئيسية وهم؛ «بشر عامر عبد الظاهر»، و«عبد الفتاح الضرغامي»، و«عايدة». شخصيات على اختلافها يجمعها قدر واحد هو قدر الحيرة والتيه، هذا إلى جانب بحث محموم عن الذات.
بشر عامر عبد الظاهر: أنا السؤال والجواب
يقول المسرحي الأمريكي «آرثر ميلر»؛ «الدراما العظيمة هي دراما الأسئلة الكبيرة».
بشر هو واحد من أسئلة عكاشة الكبيرة التي شكلت هاجسًا له، طرحه مرارًا عبر سردياته وأهمها «أرابيسك: أيام حسن النعماني»، عن الشخصية المصرية، هويتها، وتكوينها. بشر هو سؤال الهوية وجوابها لكنه جواب حائر وغامض قدر سؤاله.
هذا ما يراه عكاشة متأثرًا بالعلامة جمال حمدان في كتابه «شخصية مصر»، لذا يقدم في زيزينيا تشكيلة من الشخصيات المصرية الأصيلة وإن جرى في عروقها دماء غير مصرية. بشر، الشخصية الرئيسية في المسلسل، هو التجلي الأبرز لذلك حيث يجمع في شخصيته الشرق والغرب معًا؛أب مصري وأم إيطالية. شخصية ممزقة بتناقضاتها الموروثة،قدره أن يظل حائرًا هكذا دون مرسى كبحر أضاع شاطئيه.
هذا الصدع المفتوح داخله يلقي بظلاله على كل علاقاته. وحيد هو رغم صخب عالمه،علاقته الشائكة بعايدة وتعقد مسارها يعيدنا أيضًا إلى حيرته إزاء ذاته وتناقضاته الداخلية. شكه في ذاته يجد مساره إلى العلاقة التي تربطه بعايدة فيسممها. كأنه كان يريد أن يمحو كل الظلال التي لامستها قبله، كان يريد شيئًا نقيًا ليس بالمعنى الأخلاقي طبعًا بل شيئًا نقيًا وصافيًا عكس هويته المختلطة.
عبد الفتاح ضرغام: شوق الدرويش وحيرة العاشق
رباعية الإسكندرية – لورانس داريل.
هذا الحب الذي يضربه كصاعقة أو يأخذه كوجد الصوفي، يعبث بمصيره كقدر مرصود. من مدرس فقير إلى ولي يلتمس الناس منه البركة وقضاء الحاجات. حائر بين ذاته القديمة وما آل اليه، بين ضعفه الخاص وضراعة الذين يلجأون إليه.
مختنقٌ تحت بردته الخضراء، تحت عباءة الولاية، ومحمومٌ بحبه المستحيل لعايدة،يهرب من قدره الجديد باحثًا عن ذاته، يجد شيئًا من المعنى لحكايته حين يشارك في المقاومة ضد المحتل لكن وجهها يظل يطارده دومًا كقدر أو لعنة.
يمكننا أن نرى في استحالة الحب بينهما، استحالة الحب بين مدرس فقير وسيدة من سيدات المجتمع السكندري، مجازًا عن الطبقية المستشرية في المجتمع. فالتفسير الطبقي كان دائمًا أحد مكونات وعي عكاشة ورؤيته للعالم. هناك حكاية من الفلكلور الصيني عن فتى قروي يقع في حب حائكة ثياب سماوية وقد قضت المسافة الشاسعة بينهما أن يتقابلا كل عام مرة واحدة، فكانا كل عام يتقابلان بمساعدة طيور «الماجاباي» والتي كانت تبني بأجسادها طريقًا بين الأرض والسماء. أما هنا فلا شيء بين السماء والأرض غير شوق العاشق وتباريح حلمه المستحيل.
عايدة: فراشة النار
بين بشر وعبد الفتاح تقف عايدة كوجه ثالث لذات الحيرة. حياتها جرح مفتوح تسعى لالتئامه عبر عشاق عابرين. رغم اجتهاد عكاشة في رسم تاريخها النفسي يظل جرحها عصيًا عن التفسير وأكبر من أن يحاط به.
تحمل عايدة ظلالاً من بطلة «الجرادة» لتشيكوف، وظلالاً من «جوستين» للورانس داريل. في سلوكها المدمر للذاتيمكن أن نرى صدى كلمات لورانس داريل في رباعية الإسكندرية عن نسائها وعن شهوتهم للألم والتي تعادل شهوتهم للحب. قصة الحب التي تجمع عايدة وبشر هي حلقة في سلسلة قصص الحب المنذورة للفشل في سرديات «أسامة أنور عكاشة». عايدة فراشة النار معذِّبة ومعذَّبة،تغوي كل من يقترب أن يحترق بنورها، بينما تحترق هي بنارها في نهاية المطاف.
تبدو شخصيات عكاشة الثلاث ضحية قدرها الخاص وفريسة في قبضة الزمان والمكان.