الصهيونية واليهودية: أيهما سيقضي على الآخر أولًا؟
كانت هذه كلمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي أقامه في أكتوبر الماضي، مستندًا بذلك على نبوءة شعياء في العهد القديم حول خراب مصر، وانتصار أبناء النور الممثل في الشعب اليهودي على أبناء الظلام، والذي يمثلهم سائر الشعوب الأخرى!
بالنظر لجذور الحركة الصهيونية تاريخيًا، نجد إنه وَجَبَ لإضفاء المشروعية على الحركة الصهيونية توظيف بعض الأفكار الدينية؛ للحفاظ على مصدر لا ينتهي من المعاني «السامية» المؤججة لمشاعر الجماهير والموحدة لها كما حرصت الحركة حتى وإن كان ذلك عكس توجه آباء الحركة أنفسهم ودوافع الحركة الأولية، لكن جرى توظيف الدين لأسباب أبعد من المعتقد الديني نفسه ليصل الأمر أحيانًا إلى تجاوز غموض بَعض النبوءات التوراتية لوضع أفق جديد ومشروعية صهيونية جديدة!
تَوظِيف الدين لمشروعية الحركة الصهيونية
قبل أن يُعطِي آرثر جيمس بلفور رئيس الوزراء والسياسي البريطاني وعده للحركة الصهيونية «نَاظرًا بعين العطف» للشعب اليهودي كما نص بيانه الرسمي، فإنه سبق له أن سن ما عُرف بقانون الغرباء؛ للحد من انتشار الجاليات اليهودية في الدول الأوروبية وبريطانيا خاصة، بعدما تطرّق إلى ما تقابله الجماعات اليهودية -حسب القانون- من صعوبة الاندماج في المجتمع الأوروبي المستنير!
لم يكن ذلك بعيدًا عن الواقع الملموس حيث عرفت المجتمعات اليهودية في العالم وأوروبا خاصة ما عُرف بنظام «الغيتو» وهو أقرب للمجتمعات المغلقة داخل الدولة حيث تحتوي على أفكار وتَقاليد أصولية تتخلف عن مواكبة تطور المجتمع الأوروبي آنذاك، بل كانت تشكل جماعة على هامش الزمن بالكلية، لذا قامت بعض الحركات اليهودية لإعادة اندماج اليهود في المجتمع الأوروبي.
فقد شُكلت في القرن السابع والثامن عشر جماعة لحل مشكلة الانعزال اليهودي على يد مجموعة يهودية علمانية بقيادة موسى مندلسون الفيلسوف الألماني، متأثرة بالمناخ الأوروبي وحركة التنوير والإصلاح الديني لمارتن لوثر، وسميت الجماعة اليهودية آنذاك بـ«الهسكالاه» أي التنوير اليهودي-)، أخذت هذه الجماعة في تأكيد دَور العقل وإخراج الجماعات اليهودية من الأساطير الدينية وخاصة فكرة المُخلّص، وما تؤدي إليه تلك المعتقدات من تشدد معاداة السامية تجاههم لما باتوا يمثلونه من جسم غريب منعزل داخل أوروبا.
اعتقد زعماء حركة الهسكالاه أن معاداة السامية ستنتهي بالحركة الإصلاحية، خاصة لما يشهده العالم من ازدهار قيم الإخاء والإنسانية؛ تنازلت الحركة بدورها عن أسطورة الشعب المختار وأرض الميعاد معتقدة أنها لن تؤدي إلا إلى المزيد من عزلة الشعب اليهودي في الدول الأوروبية و مزيد من الاضطهاد من قِبل معاداة السامية، حتى أن أحد الإصلاحيين، ويُدعى إسرائيل جاكبسون، ببناء كنيسٍ اأطلق عليه اسم الهيكل عام 1818م وهو قائم حتى الآن في مدينة هامبورغ الألمانية، قدّم هذا البناء دلالة دينية جديدة بعيدًا عن ذلك الهيكل الآخر الذي يحلمون ببنائه في القدس، شهد الكنيس أول صلاة يهودية إصلاحية بصيغ مسيحية، وذلك لتعميق الانتماء الوطني الأوروبي.
وفي الـ29 من أغسطس عام 1897 انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا لتظهر الصهيونية كحركة ممتدة من الهسكالاه من حيث الاتجاه العلماني ولكنها مناقضة لها من حيث الدوافع، حيث رفضت الصهيونية قيم التنوير والأسُس العقلية وفصل الدين عن الحياة الاجتماعية في أوروبا، وذهبت لتأكيد الهوية العرقية القومية وتوظيف وتأكيد المعتقدات الدينية وإعادة تأكيد ما رفضته حركة الهسكالاه حول فكرة المخلص وأرض الميعاد سعيًا من الحركة الصهيونية لتوحيد طوائف الشعب اليهودي لصالح أهداف الحركة الاستيطانية.
صنّفت بعض الكتابات هرتزل نفسه بأنه «لاديني» ورغم ذلك فإنه وجد في الأفكار الدينية سندًا جيدًا لاستقطاب الجماعات اليهودية المحافظة والفقراء من اليهود.
ووفقًا لما ذُكر في بيان المؤتمر فإن الحركة الصهيونية سعت لتوظيف الدين بشكل مباشر لتعزيز انتشارها بزعم «الترويج بالوسائل المناسبة للمزارعين والحرفيين والصناعيين اليهود وتقوية وتعزيز الشعور القومي»، في النهاية انفضّ هذا المؤتمر بانتخاب تيودور هرتزل رئيسًا للمنظمة.
أخذت الحركة الصهيونية كلمة صهيوني إلى أبعاد أكثر عمومية وبصورة أكثر إجرائية لتغذية أهدافها، آخذة الكلمة من حقل الدلالة الدينية الضيق التي تشير إليه إلى دلالة أكثر اتساعًا متجاوزة بذلك إجراءات حركة الإصلاحيين الدينية، ولم تختص الصهيونية بأبناء الدين اليهودي نفسه لحل إشكالاته لصالح القيم التنويرية، بل امتدت إلى تشكيل هوية جديدة تستوعب كل أوجه الاختلاف العقائدي والديني أحيانًا، بإمداد سبل التعاون مع أصحاب الديانات والتيارات الأخرى؛ تحت مظلة واحدة بمزاعم المعتقدات الأسطورية، وذلك لأهداف استعمارية متطرفة!
للمفارقة قُوبلت الصهيونية بترحيب أكبر من الهسكالاه في الدول الأوروبية ونالت تأييدًا من البرجوازية اليهودية الأوروبية لما تقدمه من حل إشكاليات الجاليات اليهودية الفقيرة من روسيا وشرق أوروبا من خلال تهجير كامل لليهود إلى خارج أوروبا.
كما أكد هرتزل على اختياره لفلسطين لما تؤكده من دوافع قومية وتعزيز الشعور الديني بما يخدم أهدافه في توحيد الجالية اليهودية وانضمام المحافظين اليهود له بعدما وجدوا في الحركة العلمانية أهدافًا مناسبة لأفكارهم الدينية.
ووفقًا لما أوضحه هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية» عند مقارنته بين اختيار الأرجنتين وفلسطين وطنًا فقال «إن الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة وهي تمتد على مساحات شاسعة وفيها عدد قليل من السكان ومناخها معتدل، وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها.. أما فلسطين فهي وطننا التاريخي الذي لا تمحى ذكراه، إن اسم فلسطين في حد ذاته يجتذب شعبنا بقوة ذات فاعلية رائعة» .
وفي فقرة أخرى من مذكراته أوضحَ أسبابًا أخرى لمساعدة العالم في قيام دولتهم داخل فلسطين من أجل الحفاظ على مصالحهم الاستعمارية، يقول هرتزل «سوف نشكل جزءًا من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية. وعلينا كدولة طبيعية أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا».
إشكاليات المعتقد اليهودي حول المخلص
يشير مفهوم الخلاص في المعتقد اليهودي إلى قدوم إنسان من نسل داود وإقامة مملكة الرب وتخليص الشعب اليهودي من ويلاته، واعتمدت الحركة الصهيونية على فكرة المُخلص كفكرة جوهرية كما أوصى هرتزل لتوحيد المجتمع اليهودي وخاصة المحافظين منهم وإقناعهم بالهجرة إلى فلسطين ذلك بعد أن تخلصت الهسكالاه من ذلك الإرث اليهودي!
إلا أن المُخلص أو المشياح في العبرية يحمل إشكالية لاهوتية داخل الدين اليهودي وإشكاليات أخرى مازالت قائمة بين الحركات اليهودية سعت الحركة الصهيونية لتجاوزها تعزيزًا للشعور القومي اليهودي.
يأتي تضارب مفهوم المُخلص عند التعمق في رؤية اليهود أنفسهم إلى مفهوم المشياح تاريخًيا، حيث أنه ارتبط بمدلول عادي، فهو يشتق لغوياً من فعل (مسح) وكان يستعمل لمبايعة الملوك إذ يأتي الكاهن الأكبر لمسح رأس الملك الجديد بالزيت المقدس قبل تتويجه، وهكذا كان كل ملك يسمى مسيحًا.
ثم برز مفهوم قدوم المُخلص بشكل أكبر بعدما تعرض اليهود للسبي البابلي فأصبح حلم الشعب اليهودي بكل طوائفه أن يأتي ملك فذ مُخلص معه القوة والبركة معجز يُعِيد الأمجاد السالفة فيكون هو الملك بحق، حتى أصبحت ركنًا من العقيدة اليهودية، و للمفارقة لا يوجد نص واضح يؤكد تلك المزاعم خاصة في أسفار موسى الخمسة الأساسية.
يستند اعتقاد قدوم المشياح على عِدة نصوص من أهمها نص ذُكر في سِفر التكوين (49/10) «لا يزول الصولجان من يهوذا ولا عصا القيادة من بين قدميه، إلى أن يأتي صاحبها (شَالِيُو) وتطيعه الشعوب».
اختلف الباحثون حول شَالِيُو وجاء في التفسير الرسمي للحاخامية اليهودية بفرنسا تقرأ (شَالِيُو) بمعناه المسالم، بينما يذكر دكتور حسن ظاظا في كتابه «الفكر الديني الإسرائيلي» أن المسألة لا تعدو أن تكون حديثًا عن ذرية يهوذا التي ينتمي إليها داوود وسليمان حيث كانت الوحيدة في التاريخ اليهودي لها صولجان وحق في التشريع، حيث أخذت فيه عادة بركة شيخ القبيلة شكلها الشعري وإنها جاءت في سفر التكوين الذي كان يبارك فيه يعقوب الأسباط -أي الذرية- وذلك ما ذهب إليه أيضًا عالِم العَقيدة السويسري لوسيان غوتييه، أي أنه كان نصًا عن حدث في زمن العبرانيين القديم، وليس نبوءة خالصة كما تم توظيفها متجاوزة خلافها بين الطوائف اليهودية، خاصة الصهيونية واليهود الأصوليين.
عزز تلك الادعاءات الدينية للحركة الصهيونية الحاخام إبراهام إسحاق هكوكين كوك الذي عمل على إضفاء الطابع الديني وتعزيز الروح اليهودية للحركة الصهيونية العلمانية، بالرغم من أنه يتنافى مع اتجاه اليهود التاريخي من حيث الاعتقاد بالانتظار خارج التاريخ والزمن في «الغيتو» حتى يأتي المُخلص.
شكّل بعد ذلك المُخلص أو المشياح جوهر الصراع بين الصهيونية واليهودية التقليدية المنعزلة لما مثلته الصهيونية من تهديد لوضع المحافظين الديني، فبينما اعتقدت اليهودية الأصولية ما قبل حركات الإصلاح والصهيونية الخلاص حدثًا إعجازيًا خارج مسار التاريخ يساعدها على التمسك بعزلتها حتى يأتي المشياح وتفويض من الرب لدخول فلسطين وإعادة الهيكل، اعتقدت الإصلاحية المتمثلة في الهسكالاه بأن فترة الخلاص يمكن أن تكون يوتوبيا إنسانية من خلال الإخاء والتضامن.
أما الصهيونية فلقد ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما حثّت اليهود على إقامة الدولة بأنفسهم تمهيدًا لقدوم المشياح، مما يهدد أسس التفكير اليهودي الأصولي بأكمله، ونجد ذلك الجدل قائمًا حتى الآن بين الصهيونية واليهود التقليديين، وخاصة في الخطاب العام لليهود المناهضين للحركة الصهيونية كحركة ناطوري كارتا الأصولية المعاصرة.
تحالف إسرائيل مع أعداء السامية
تبقى مشكلة اليهود المتجذرة في الحضارة الأوروبية موجودة في عالمنا المعاصر بشكل كبير، وهو ما حاولت الصهيونية استغلاله ولو عبر التعاون مع النازية واليمين المتطرف المعاصر المُعادي للسّامية للمساعدة في تهجير اليهود إلى فلسطين بشكل منهجي ممتد منذ وَعد بلفور، مما يجعل الأهداف الدينية بمنأى تمامًا عن حركة التوطين حيث نجدها تخدم أهدافًا قومية خالصة في المقام الأول وأهدافًا أوروبية لمعاداة السامية!
كشف سلافوي جيجك الفيلسوف السياسي في مقالة له نشرها في 2015، أن هذا التعاون بدأ منذ سبتمبر 1937 حين التقى أدولف أيخمان، أحد المسؤولين الكبار في الرايخ الثالث الألماني، وفايفل بوكلس الناشط في صفوف الهاغانا، في اجتماع بالقاهرة انتهى بالاتفاق على تسهيل هجرة ما يقرب على 110 ألف يهودي وذلك في 20 أغسطس 1938 وتابع ذلك عدة هجرات إلى دول المحور والدول المحتلة حينها، وكان يهدف بذلك لخطة جعل ألمانيا خالية من اليهود.
وبناءً على ذلك يرى جيجك أن الصهيونية الحديثة هي بالفعل معادية للسامية وهو الاتجاه الذي لا يكفُّ عن التبلور داخل إسرائيل ويؤدي لتوثيق التعاون بينها وبين اليمين المتطرف الأوروبي المعادي للسامية من جانب آخر، وهو ما تجلّى خلال زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى فرنسا لإحياء ذكرى ضحايا عمليات القتل في متجر بباريس في عام 2015، فصرّح قائلًا إن «إسرائيل تفتح ذراعيها لليهود الفرنسيين» رغبة منه في جذب المزيد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين وهو ما يتطابق مع أهداف أحزاب اليمين الأوروبية المعادية للسامية.
علّقت صحيفة gazeta wyborsza اليومية في بولندا على تصريحات نتنياهو قائلة «إسرائيل تريد فرنسا بلا يهود» وكذلك الفرنسيين المعادين للسامية أيضًا، وهو موقف قريب من سياستهم القديمة مع النازية التي اتفق فيها الطرفان على رعاية عمليات تهجير واسعة لتخليص أوروبا من إحدى مشاكلها الاجتماعية الرئيسية وهم اليهود.
في مقال آخر منشور لزئيف ستيرنهيل -مؤرخ وأستاذ في الجامعة العبرية بالقدس- عام 2019 تحت عنوان «لماذا يحب بنيامين نتنياهو اليمين المتطرف الأوربي؟» ذكر أن نقطة الالتقاء بين الجانبين خاصة اليمين الإسرائيلي وشرق أوروبا المعروفة أكثر بمعاداة السامية، بأن الحكومة الإسرائيلية تجد التعاون مع معاداة السامية من الأحزاب اليمينية المتطرفة طريقًا لمواجهة قيم الليبرالية الغربية، كما تجد الحكومات اليمينية في إسرائيل نموذجًا جيدًا للغرب اليميني في كيفية التعامل مع العرب والمسلمين، وخاصة أن اليهودية أصبحت تمثل عرقًا يمينيًا هي الأخرى وليست يهودية مهددة للشأن الأوروبي الداخلي كما كانت في القرن المنصرم!
لذا من البديهي أن نجد دعاوى دائمة مثل دعوى بتسلئيل سموتريش وزير المالية ورئيس حزب الصهيونية الدينية الإسرائيلي، لإقامة مناطق عازلة حول مستوطنات الضفة ومنع العرب من الاقتراب منها، وتأكيد ذلك كلما تقدم الزمن وتصاعدت طرق المواجهة ضد إسرائيل؛ لأن الخطاب الصهيوني ذاته يتغذى على مفهوم الغيتو لاستمراره وانطلق منه لتوحيد الطوائف الدينية لصالح الحركة.
نجد في النهاية أن الحركة الصهيونية قد شَكّلت معتقلًا جديدًا لأبناء الديانة اليهودية و لم تلتفت إلى أي من التفسيرات الدينية الغامضة بمزيد من العقلانية سوى توظيف أعمى لصالح الحركة والتوطين الإسرائيلي القومي في الأراضي الفلسطينية، متسببة في سجن الديانة اليهودية في حالة عدائية دائمة مع سائر الشعوب الأخرى حاكمة عليها بالبقاء في الغيتو ما تبقى من عمرها، فلن تستطيع الحركة الصهيونية أن تتصور أبناء الشعوب الأخرى سوى غرباء مدمرين بما في ذلك حركات التنوير أو أية محاولة جديدة لها رغم ادعاءات الحكومات الإسرائيلية بعكس ذلك منذ بدء الحركة الصهيونية.