الصهيونية كما رآها «عبد الوهاب المسيري»
في كتابه «الصهيونية والحضارة الغربية»، يُفنِّد عبد الوهاب المسيري «يهودية» الفكر الصهيوني، ويتتبَّع جذوره، والتي يعتقد أنها ارتدادت طبيعية للحضارة الغربية والتطورات التي طرأت على المجتمع الاستهلاكي الإقطاعي الغربي.
فالصهيونية حسب المسيري هي فكرة ذات جذور غربية بالأساس، ظهرت من بعض المفكرين الغربيين كحل لما يُسمى بـ «المسألة اليهودية»، والتي كانت تشغل المجتمع الأوروبي بعد الثورة الصناعية، ثم أُضيفت لهذه الفكرة بعض الديباجات اليهودية ليصبح البعد اليهودي لهذه الفكرة هو زخرفي تبريري وُضِعَ من أجل قدرته التعبوية.
يُعلِّق المسيري على ذلك قائلاً:
المسألة اليهودية
المسألة اليهودية باختصار هي أزمة الوضع الاجتماعي لليهود في المجتمعات الغربية بعد تحولها إلى مجتمعات رأسمالية، ففي زمن الإقطاع كانت الجاليات اليهودية في أوروبا عبارة عن جماعات وظيفية مالية تعيش على حواف المجتمع، وليس لها اتصال إلا بالطبقة الحاكمة التي تتبعها مباشرة وتضطلع لها بوظائف تتطلب الموضوعية والحياد، كالتجارة والمراباة.
ويُعلِّق المسيري على جذور هذا الدور الوظيفي بالقول:
لكن وضع اليهود المستقر داخل المجتمع الإقطاعي الثابت قد اهتز بعد تحول المجتمعات الغربية إلى الرأسمالية في القرن الخامس عشر الميلادي، ما أدى إلى ظهور اتحادات من التجار الدوليين المسيحيين كـ «العصبة الهانسية» شمال ألمانيا، و«اتحاد لندن» في إنجلترا، والأساطيل التجارية القوية التابعة لجنوة والبندقية، ما أضعف قبضة اليهود على التجارة الدولية واضطرهم إلى الاشتغال بالتجارة الداخلية والإقراض بالربا، ولكن حركة التاريخ كانت تأخذ مجراها، فظهرت طبقات التجار المحليين والمصارف المحلية التي أخذت دور التاجر والمُرابي اليهودي، وبهذا تحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية بلا وظيفة، فهذه المرة ليسوا على هامش المجتمع وحسب وإنما صاروا عبئاً حقيقياً عليه لا دور لهم فيه.
الحل الاستعماري
من بين أكبر الأزمات التي خلَّفها تحول المجتمعات الغربية إلى الرأسمالية، مشكلة الانفجار السكاني، وقد كان الحل الأوروبي لهذه المشكلة هو: الاستعمار. فتم نقل الفائض البشري الأوروبي ليستوطن آسيا وأفريقيا والأمريكيتين، ويقيم الجيوب الاستعمارية هناك، وكانت الجزائر وجنوب أفريقيا أبرز شاهدتين على الاستعمار الاستيطاني الأوروبي.
وعلى نفس المنوال قامت كل من فرنسا وبريطانيا بطرد الجاليات اليهودية مطلع القرن السابع عشر وبقي منهم عدد قليل اندمجوا مع بقية السكان دون أي تميز حضاري أو مهني، وكانت الجاليات اليهودية المطرودة تُهاجر شرقاً نحو المجتمعات التي لا يزال النظام الإقطاعي فيها ثابتاً (بولندا مثلاً).
كما ظهرت في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر جماعة «الأليانس»، التي تُطالِب بتهجير اليهود إلى الولايات المتحدة من أجل إنقاذهم، لكن لم يهاجر أي منهم إلى فلسطين، لأن «حلم العودة» حسب الدين اليهودي -ورغم أنه قديم قدم اليهودية ذاتها كما يقول المسيري- لا يتم عن طريق الأفراد وإنما عن طريق «الماشيح»، أي المسيح المخلص، وأي يهودي يعود إلى فلسطين بغرض الاستيطان وليس التعبُّد فإنه يرتكب جريمة «الدحيكات هاكتس»، أي التعجيل بالنهاية بدلاً من انتظار إرادة الإله، وهذا ما يُفسر وجود 14 ألف يهودي في فلسطين عام 1914 من جملة 16 مليون يهودي يعيشون حول العالم رغم تقدم الثورة الصناعية التي ربطت أطراف العالم بعضه ببعض.
ظهور الفكر الاسترجاعي
تبلورت فكرة اقتطاع أرض الميعاد لصالح اليهود (الفكر الصهيوني) على يد مفكرين استعماريين غربيين، وذلك قبل أن يتحدث عنها مفكرون الصهيونية بعشرات السنين، ذلك أن الحاخامية اليهودية تُحرِّم العودة إلى فلسطين وتعتبرها فعلاً من أفعال الهرطقة التي لا تُغتَفَر.
وفي بدايات القرن السابع عشر ظهرت «لعقيدة الاسترجاعية» في صفوف البروتستانتية المسيحية، والتي تبشِّر بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين لكي يتحقق الخلاص ويعود المسيح المخلِّص ويتم تنصيرهم «في أرض أجدادهم»، وعلى الرغم من أن دُعاة الفكر الاسترجاعي لم يكونوا قوة سياسية أساسية في ذلك الوقت، إلا أنهم استطاعوا تسويق فكرتهم بين الساسة البريطانيين على أنها وسيلة لطرد الأتراك العثمانيين من الشرق الأوسط، فالتوطين أو الاستيطان سوف يخدم المصالح الربانية والإمبريالية في الوقت نفسه.
يقول المسيري إن إنجلترا (البروتستانتية)، والتي كانت أكبر قوة استعمارية خصوصاً في القرنين الـ 18 والـ 19، كانت أيضا مرتعاً خصباً للأفكار الاسترجاعية، والتي كان من أبرز مُنظِّريها:
- اللورد بالمرستون: وزير خارجية بريطانيا، والذي عرض على السلطان العثماني عام 1840 توطين اليهود في فلسطين لكبح جماح مخططات محمد علي باشا التوسعية.
- اللورد شافتسبري السابع: وهو من أهم الشخصيات الإنجليزية في القرن الـ 19، وزعيم حزب الإنجيليين الذي كان يهدف إلى «تنصير اليهود»، بالإضافة إلى أنه كان يترأس صندوق استكشاف فلسطين، الذي حاول الربط بين آثار فلسطين وفكرته الإنجيلية الاسترجاعية.
- اللورد لورانس أويفانت: الدبلوماسي البريطاني وعضو مجلس العموم البريطاني في القرن الـ 19 وصاحب كتاب «أرض جلعاد» الذي يدعو فيه إلى توطين اليهود في فلسطين وشرق الأردن من أجل إنقاذ الدولة العثمانية، وذلك عن طريق إدخال عنصر اقتصادي نَشِط يتمثل في شركة استيطانية قوامها من اليهود.
تبلور الفكر الصهيوني
يقول المسيري إن ثيودور هرتزل مؤسس الوكالة اليهودية عندما ذهب ليقابل ملك ألمانيا «فيلهلم الثاني» ويعرض عليه مشروعه، اعتقدوا أنه مُبشِّر مسيحي بين اليهود، يحاول تنصيرهم لأنه يحاول توطينهم في فلسطين.
وكان هذا طبيعياً جداً، حيث كانت استجابة اليهود للفكر الاسترجاعي الداعي لتوطينهم في فلسطين فاترة لوقت طويل، ولم يرتفع صوت يهودي مؤيد للفكرة. لكن مع انتصاف القرن الـ 19، ومع تفاقم المسألة اليهودية في شرق أوروبا، ومع انتشار الفكر الإمبريالي الداعي إلى نقل الفائض البشري الأوروبي ليستوطن مناطق أخرى من العالم، بدأ بعض المفكرين اليهود في الاستجابة لفكرة «دولة صهيون»، من منطلق أن هذا الشعب (الشعب اليهودي) مرتبط بأرض فلسطين ارتباطاً عضوياً، وسيظل منبوذاً وطُفيلياً ما بقي في الشتات، ومن هذه الفكرة ظهرت مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، في تجاهل تام لحقيقة وجود شعب عربي يعيش على هذه الأرض.
طوَّر هرتزل الفكرة الاسترجاعية المسيحية التي كانت تدعو لتوظيف اليهود في فلسطين لصالح الغرب، وذلك إلى خطاب صهيوني مراوغ يخاطب القوى العظمى بأن اقتطاع فلسطين سوف يوفر لهم 10 ملايين عميل في المشرق العربي، ويخاطب يهود العالم بأن ذلك هو حلم العودة المذكور في الكتاب المقدس، وأن الشعب اليهودي مرتبط بهذه الأرض ارتباطاً عضوياً، وسيظل مكروهاً من كل الشعوب في المنفى بسبب قداسته. لذا، لا بد له من العودة إلى الأرض الوحيدة التي تصلح للخلاص.
ومن ناحية أخرى، تمَّ توجيه خطاب مُغاير للعمال والعلمانيين اليهود، بأن الهجرة إلى أرض فلسطين هي الحل الوحيد لحل الأزمة الطبقية التي تواجههم في أوروبا، ولتكوين مجتمع متساوٍ في فلسطين. كما أن بسبب الهوية الإثنية العضوية لا يمكن أن تتحقق إلا في أرضه.
وعلى نفس المنوال يشرح المسيري كيف صاغت الحركات الصهيونية -على اختلاف توجهاتها من اليسار إلى اليمين- مثل هذه الاعتذارات، من أجل استيطان فلسطين، فهذا الاستيطان لم يكن عن طريق الاستعمار والعنف وإنما عن طريق القانون الدولي العام متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية السياسية)، أو تنفيذاً للوعد الإلهي (في الصياغة الصهيوينة الدينية)، أو بسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية القومية).
وبهذا تنوعت التبريرات والديباجات داخل الحركة الصهيونية بين الديني والعلماني واليساري، ولكنها اتفقت جميعاً حسب المسيري على «ارتباط الشعب اليهودي عضوياً بالأرض»، أما القوى الإمبريالية الغربية فقد اتفقت على عودة اليهود للعب دور الجماعة الوظيفية كما كانوا في زمن الإقطاع، ولكن هذا الدور الوظيفي سوف يكون على شكل «دولة إسرائيل».
ولكن ليست الإمبريالية وحدها هي المُبرر الغربي عن الصهيونية –وإن كانت أبرز هذه المبررات– فقد خصَّص المسيري في كتابه باباً للحديث عن المبررات الغربية المختلفة لهذه الفكرة، منها ما هو إنجيلي وعرقي وسياسي، كما خصَّص أبواباً أخرى للحديث عن الأيديولوجيات والرؤى المختلفة لزعماء الحركة الصهيونية. وفي نهاية الكتاب يُخصِّص المسيري باباً لتبيان الديباجات المشتركة بين الكيان الصهيوني والجيوب الاستيطانية في جنوب أفريقيا، من حيث شرعية وجودها وقومياتها المصطنعة.
وربما ما يمكن أن نخلص إليه من هذا الكتاب، هو الخلط الشديد في ظهور هذه الحركة بين ما هو إنجيلي كالفكرة الاسترجاعية، وما هو مجتمعي كالمسألة اليهودية، وما هو سياسي كرغبة أوروبا في تصدير أزمة جالياتها اليهودية إلى الشرق.