زين الدين زيدان:عندما تخجل المستديرة من عظمة لاعب
وكم علمتُهُ نظم القوافي فلما قال قافية هجاني!
في 23 يونيو/حزيران من عام 1972 لم تكن تعلم مدينة مارسيليا أن صرخة ذلك الطفل الذي خرج من بطن أمه مبصرًا نور الحياة -كطفل خامس لأبويه إسماعيل و مليكة- ستتحول لصرخة فرح بعد سبعة عشر عامًا في ملعب «ميشيل دورنانو» احتفالاً بأول أهداف ذلك الشاب في مسيرته الكروية مع نادي «كان» ضد نادي «مارسيليا» أحد عمالقة فرنسا آنذاك، بل لم تكن تعلم فرنسا أن صرخات ذلك الشاب ذي السبعة عشر ربيعًا في ذلك الوقت ما هي إلا إيذان بميلاد أحد أهم أساطير الكرة الفرنسية في تاريخها إن لم تكن الأسطورة الأبرز. ولمَ لا وهو من جلب لهم الذهب في 98 ثم قرر الذود عنهم مرة أخرى في بداية القرن الحالي في أمستردام بعدما جلب لهم اليورو في نهائي ملحمي، نهائي كان كفيلاً بالرد على الكثيرين ممن زعموا أن فوز فرنسا بكأس العالم كان من قبيل المصادفة ولأن الارض دائمًا ما تميل لأصحابها. نعم، إنه زين الدين زيدان، الماضي والحاضر والمستقبل لأبناء فرنسا حتى الآن.
القطة السوداء التي تحوّلت لأسطورة ذهبية خالصة
بدأت الرحلة من محطة قطار مدينة كان الفرنسية عام 1989 عندما انضم زيدان للفريق الأول للنادي بعد معاناة لمدة ثلاث سنوات من مضايقات عدة؛ كونه مهاجرًا عربيًا جزائريًا، ثم توقف القطار بعد ذلك في محطة مدينة « بوردو».
في تلك الفترة كان زيدان أحد النجوم البارزة في سماء القارة العجوز وبالفعل سعت إدارة نيوكاستل الإنجليزي للتعاقد معه، ولكنهم تراجعوا لاعتقادهم -كأغلب جماهير فرنسا- بعدم قدرة زيدان على تحمل صعوبة الدوري الإنجليزي. بعد ذلك شد زيزو رحاله إلى تورينو ليلتحق بالسيدة العجوز لتنهال عليه الصحافة الفرنسية بالهجوم والتشويه، لدرجة أنهم نعتوه بـ «القطة السوداء» نظرًا لقناعة الكثيرين في فرنسا بأن تألق زيدان مع بوردو كان مجرد قبلة من قبلات الحياة التي ستذهب آثارها سريعًا بعد أول مباراة في الكالشيو الذي طالما اشتهر بعنفه وصلابة دفاعاته.
يقول زيدان في إحدى لقاءاته الصحفية إنه لم يجد مبررًا في تلك الآونة لذلك الهجوم من قبل الصحافة، خاصة بعد تخليه عن قميص الأخضر الجزائري لتمثيل الديوك الفرنسية. لكن من الواضح أن ذلك لم يكن شفيعًا له لدى جماهير الديوك الفرنسية؛ لذلك كان عليه بذل المزيد لإقناعهم، لكن « المزيد » الذي قصده زيزو لم يكن أحد يتوقعه، ولا حتى زيزو نفسه!.
بوردو؟!، تورينو؟!، مدريد؟!، لا يهم طالما متعة التحكم بالكرة ثابتة
كارلو أنشيلوتي مادحًا زيدان مع اليوفنتوس
حقق زيزو كل شيء مع اليوفي؛ الكالشيو وكأس السوبر الإيطالي وكأس الإنتركونتننتال، ووصل لنهائي دوري الأبطال ولكنه خسره أمام أبناء السيجنال إيدونا بارك بثلاثية ذهبية في نهائي ميونيخ الشهير. لكن زيزو وبالرغم من كل هذه الإنجازات لم ينسى «المزيد»، ذلك «المزيد» الذي سيحقق حلمه القديم؛ ألا وهو تخليد اسمه كأسطورة فرنسية بقناعة تامة لأبناء العاصمة الباريسية، قناعة لا يشوبها تشكيك في قدراته أو استمالة لأصله العربي، فعاد زيدان و دخل كأس العالم عام 1998 كأهم لاعب في المنتخب ورفع الكأس مع رفاقه بعدما تغلب على المرشح الأول للبطولة حينئذ -المنتخب البرازيلي- بثلاثية تاريخية أحرز منها زيدان هدفاه الرأسيان الشهيران، وبذلك حصل زيدان على أهم جائزتين شخصيتين ذلك العام «الكرة الذهبية، وجائزة الفيفا لأفضل لاعب في العالم». في العام التالي خفت بريق زيزو قليلاً؛ نظرًا للتألق غير العادي من الساحر البرازيلي ريفالدو، ولكن سرعان ما عاد زيزو لقيادة بلاده لتحقيق يورو 2000 والانتقال بعدها إلى الملكي، ريال مدريد، وهنا تكتب فصول جديدة في ملحمة زيزو الخاصة.
لم يكن رحيل زيدان إلى ريال مدريد في ذلك الوقت لأسباب مالية خالصة باعتبارها الصفقة الأغلى في التاريخ وحسب، ولكنه كان تحديًا جديدًا للأسطورة الفرنسية لرفع ذات الأذنين التي استعصت عليه مع اليوفي في نهائي ميونخ، والذي اعتبره الأسوأ في حياته حسب تصريحات زيدان، لكني أظن أن رأي زيدان قد اختلف حتمًا بعد نهائي 2006 ونهايته الحزينة!.
الأخ الأكبر
صولات زيدان في الملاعب الإسبانية لم تبهر فقط التراس سور في البرنابيو، ولكنها أيضًا أبهرت زملاءه، فقد كان راؤول دائم التأكيد في لقاءاته الصحفية على أنهم يعاملون زيدان كالأخ الأكبر الذي يجيد التصرف في أي مكان وتحت أي ضغط في الملعب، فقط أعط الكرة لزيدان وتمركز في مكان جيد وسترى الفارق!، ولعل المثال الأشهر لتلك المقولة هي مباراة الحسم لبطولة الليجا عام 2003 حينما صنع زيدان كل الفارق ومرر لرونالدو هدف الحسم في مباراة 3-1 الشهيرة.
https://www.youtube.com/watch?v=7ULzUE9wR-Y&t=399s
في تلك المباراة يقول رونالدو إن كل لاعبي الريال كانوا في حالة توتر بعد هدف أتلتيك بلباو وصمت الملعب بالرغم من تقدم الميرينجي في النتيجة، إلا أن المؤشرات كانت تقول إن المباراة تذهب في اتجاه آخر، فزيدان يهدر انفرادًا في العارضة والحكَم يتغاضى عن ركلة جزاء واضحة للويس فيجو، ومع ذلك فزيدان يذهب لكل لاعب في أي طرف من أطراف الملعب يستلم منه الكرة وكأنه يقول له «لا تخف سنحسمها الليلة»، وبالفعل بعد لحظات مرر زيدان الكرة إلى رونالدو وكانت كرة الحسم، الهدف الثالث الذي قتل المباراة، بعدها التقطت الكاميرات زيدان وهو يضحك في أكثر من تمريرة وكأنه يؤكد على زملائه مرة أخرى «ألم أقل لكم سنحسمها الليلة؟!»، مواقف خالدة ومباريات تاريخية جعلت من زيزو مثلاً أعلى ونموذجًا لكل لاعب يمتلك تلك المهارة النادرة في التحكم في الكرة أمثال مسعود أوزيل وإيدين هازارد.
جماهير أرسنال الإنجليزي تغني لمسعود أوزيل وتقارنه بالمايسترو الفرنسي
عودًا حميدًا
في 2010 أراد جوزيه مورينيو تهدئة أوضاع الفريق في غرفة ملابس البرنابيو، فطلب تعيين زيزو كمستشار فني للفريق. ومع قدوم المخضرم الإيطالي كارلو أنشيلوتي، استعان بزيدان كمدرب عام للفريق فبدأت الجماهير في البرنابيو باستعادة ذكريات الماضي القريب، هنا كان يركض زيدان بكل سلاسة بالكرة ويمرر لهذا اللاعب ليحرز هدفًا ولذاك الناشئ ليكسبه الثقة، ويراوغ تلك المراوغة فينتزع آهات الجماهير في الملعب، وها هو يُعبّر عن ذلك بانفعالاته الهادئة وإيماءاته الواضحة مع كل هجمة للفريق وهو يجلس بجوار الثعلب الإيطالي على دكة البدلاء. يجلس بجانب أنشيلوتي ولكنه يجذب أنظار الجميع، فالكل متشوق لرؤية زيدان مرتديًا ثوب المدير الفني؛ هل سيكون بنفس عظمة اللاعب؟ هل سيكتشف مواهب بارزة؟ كيف سيتعامل مع هجوم الإعلام إن جرؤ الإعلام على ذلك؟، ولعل أبرز ما يبرهن كلامي هي لقطة زيزو الشهيرة وهو يوجه فيها اللاعبين في نهائي الشامبيونزليج أمام أشباح سيميوني وأنشيلوتي يقف بجانبه وكأنه هو المدرب العام وزيزو هو الرجل الأول في الفريق!، يوم تمنى الكثيرون أن يأتي ومع تولي رفائيل بينيتيث لزمام الأمور أدرك معظم عشاق الميرينجي أن ذلك اليوم ليس ببعيد وأن زيدان قادم قريبًا!.
فرحة مشوبة بتردد، وخجل!
كانت نتائج زيدان مع الكاستيا سيئة للغاية، بل كانت هناك فضائح في بعض مبارايات الفريق الرديف، ولكن المتابعين انقسموا إلى جزأين؛ الأول نسي ضعف نتائج الفريق الرديف في ظل تدهور الفريق الأول مع الإسباني بينيتيز، أما الجزء الثاني -وعلى رأسهم فلورينتينو بيريز- تناسى الأمر برمته لأن المسؤول هو « زيزو» ، فمن يجرؤ على نقد المايسترو خاصة في تلك الظروف التي تدفعه بشكل أو بآخر لقيادة الفريق الأول في ظل استمرار رفض الاستثنائي جوزيه مورينيو مجرد التفكير في العودة إلى مدريد أو بالأحرى العودة إلى صحافة إسبانيا!.
ظلت حالة الفريق الأول في تدهور تام، بينما النتائج أغلبها يشير إلى تعادلات كانت هي السمة الأبرز لتلك الحقبة الكروية السوداء للفريق الملكي مع مبررات واهية في كل مرة من المدرب الإسباني، حتى جاء يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2015 وعنونت الصحف في صفحاتها الأولى في اليوم التالي « الفريق الكتالوني يقسو على الريال برباعية في قلب البرنابيو ». كان من المفترض أن تكون تلك المباراة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، ولكن الحقيقة أنها كانت زلزالاً في قلب العاصمة مدريد؛ نتيجة كادت أن تتضاعف لولا رحمة الله بقلوب عشاق الميرينجي، وبالطبع رحيل رفائيل بينيتيز.
الرجل الأول
فاز زيزو في أول مباراة له مع الريال بخماسية نظيفة ضد ديبورتيفو لاكورونيا، ولكن ثمة شيء غير طبيعي في الملعب، فالريال يفوز بخماسية وبعدها بثنائية ومن بعدها ثلاثية، ولكن الأداء غير مقنع. ليس هذا أداء أنشيلوتي الذي طالما تغنى بزيدان وقال إنه أضاف إليه الكثير في عالم التدريب، ولا حتى هذا هو الأداء مع مورينيو الذي أعاد للأذهان هيبة الفريق الملكي في القارة العجوز، بدأ الشك يتسلل رويدًا رويدًا إلى قلوب عشاق الفريق الأبيض، وبدأت تعود إلى الأذهان مرة أخرى تجرية زيزو مع الكاستيا، ولكن زيدان يفوز ويسير بخطى ثابتة في جدول ترتيب الليجا، بل إنه فاز على برشلونة في قلب الكامب نو في مباراة شهدت من المعجزات ما يكفي للحديث عنه لسنين قادمة، وقرر التمادي في هذا المشوار المجنون فحقق الحادية العشر، وفي الموسم الحالي صنع أكبر سلسلة لا هزيمة في تاريخ نادي العاصمة مع تفوق تكتيكي واضح على إنريكي وسيميوني في الليجا، فأصبحت جماهير الريال في حيرة من أمرها؛ أتقف بجانب زيزو بهذا الأداء لأن شخصية زيزو ونتائجه وتحقيق أفضل بداية في تاريخ الليجا الحديث تجبرهم على ذلك، أم أن لالتراس سور رأي آخر كما كان الحال مع الاستثنائي مورينيو بعد أسبوع واحد فقط من جلبه الليجا من معقل الكامب نو؟!.