يعد مسلسل «زينب والعرش»والذي عرض للمرة الأولى عام 1980، تحفة منسية من كلاسيكيات الدراما العربية عن رواية تحمل ذات الاسم للروائي والصحفي الكبير «فتحي غانم». كتب غانم رفقة «صلاح حافظ»سيناريو وحوار النص التليفزيوني، بإخراج «يحيى العلمي»وبأداءات عظيمة من ممثلين بقيمة «محمود مرسي»، و«كمال الشناوي»، و«سهير رمزي»، و«صلاح قابيل»، و«حسن يوسف».

يمثل مسلسل «زينب والعرش»بانوراما موسعة لحركة المجتمع المصري عبر فترة زمنية تمتد من نهاية عهد الملكية، مرورًا بقيام ثورة يوليو/تموز 1952، وحتى هزيمة يونيو/حزيران 1967. رصد الإحساس باختلاف القيم وتغيرها والاختلالات الاجتماعية القائمة عبر حشد من الشخصيات تتصارع على النفوذ والسلطة يقدمها فتحي غانم من خلال عالمه الأثير «عالم الصحافة»والذي سبق أن تناوله أيضًا في رائعته «الرجل الذي فقد ظله».

بإمكاننا أن نعتبر نص «زينب والعرش»هو البورتريه الأكثر صدقًا وقسوة لهذا العالم الغامض والذي يضيئه لنا غانم بخبرته الطويلة في عالم الصحافة بدهاليزه وكواليسه وعلاقته المريبة بالسلطة كاشفًا عن غابة من حيوانات بشرية، متوحشة وأليفة. يمثل المسلسلأيضًا هجائية واضحة لدولة يوليو ونزوعها المخابراتي باعتبارها دولة التنظيمات والتقارير السرية. على لسان شخصية عبد الهادي النجار (محمود مرسي) يتحدث غانم عن ثورة يوليو بشكل لم يجرؤ أحد أن يتحدث به من قبل في عمل تليفزيوني.

ما يميز نص فتحي غانمهو قدرته الفذة على نحت شخصيات درامية معقدة ومليئة بالظلال، من لحم ودم الواقع على غرار ما يقوله «ستانسلافسكي»:

الشخصيات الدرامية كما في الرسم لا تنال لونًا واحدًا بل تتحول مهما كان نوعها إلى نماذج للكينونة، نماذج لتمثيل السلوك الإنساني.

يستطيع غانم بذكاء التقاط التفاصيل القادرة على التعبير عما هو جوهري وأصيل في حياة شخصياته. «زينب والعرش»نص عن النفس البشرية وتعقيداتها وصراعها الطويل مع ذاتها ومع الواقع على غرار روايات دوستويفسكي والذي يعتبره غانم معلمه الأول، وصرح بأنه كتب رواية «زينب والعرش»، التي تقترب من الألف صفحة، بينما يجوس في مخيلته شبح دوستويفسكي.

اقرأ أيضًا: «فتحي غانم»: الروائي الثري متعدد الأوجه

فيما تبقى من مساحة هذا المقال نحاول رسم بورتريهات لشخصيات النص الرئيسية، عبد الهادي النجار، ويوسف منصور (حسن يوسف)، وزينب (سهير رمزي). في رواية مدارها السلطة بدلالة العرش الذي يسكن عنوان النص، تعتبر شخصية الأب بالنسبة للشخصيات الثلاث إرثًا مكبلًا تحاول أن تفلت من ظله الثقيل الذي يحكمها من العالم الآخر.


عبد الهادي النجار

من رواية «زينب والعرش»

يصفه غانم بأنه الشيطان الأكبر في غابة الشياطين. يقدمه النص كأكبر صحفي في مصر في ذلك الوقت مما جعله دائمًا عرضة للتأويل، البعض رأى فيه «محمد حسنين هيكل» والبعض رآه «مصطفى أمين»، وحاول فتحي غانمطيلة الوقت أن ينفي ذلك، لكن الطريف أن مصطفى أمين نفسه قال: «أنا عبد الهادي النجار».

عبد الهادي النجار شخصية «دستويفسكية»جدًا. يكاد يكون ظلًا لمقولة دستويفسكي في روايته الإخوة كرامازوف «إذا كان الله غير موجود فإن كل شيء مباح»لذلك هو يرى أن الحقيقة الوحيدة في هذا العالم هي مصلحتك الشخصية، ومن أجلها بإمكانك أن تفعل أي شيء. تخلص من أبيه ومن كل الأوهام دفعة واحدة. ترك ذلك في روحه هوة عظيمه لا يملؤها غير شبقه المحموم للسلطة.

علاقته بـ«يوسف منصور»هي علاقة ببراءته المغدورة. وبالمثل علاقته بزينب التي ترده إلى أوهامه التي ظن أنه تخلص منها للأبد. المرأة التي أحبها كما لم يحب أحدًا في حياته. يقف تحت بيتها في الليل، يدور حوله كالمجذوب. معها يشعر بإنسانيته أو ما تبقى منها مثلما يقول ليوسف ذات مرة «حتى لو جاء يوم رأيتني فيه حيوانًا قذرًا، أدوسك أنت تحت أقدامي، تذكر أني كنت صاحب قلب أحب وأني تشبثت لحظة بسور بيت من أحب، أتمنى لو توقف العالم وجمدت اللحظة، ونجوت من الماضي والحاضر، نجوت من ميلادي ومماتي لأخلد مافي من إنسان»لكنه لا يتحمل أن يمضي في هذا الحب، لا بد أن يقتله أيضًا إذا أراد أن يظلل على عرش مملكته.


يوسف منصور

هو الشخصية الأقرب لفتحي غانمنفسه. تلقى في طفولته نوعًا من تربية مثالية مفروضة من أب قوي. يوسف ساذج وبرئ. يصفه عبد الهادي النجار في حوار له مع حسن زيدان، وهو المثال الخالص للصحفي الانتهازي: «يوسف شخصية صعب اللي زيك يفهمها، وصل متأخر بعد البراءة ما هجرت الأرض. ولما وصل تاه ودخل غابة الشياطين».

يحمل يوسف ظلالًا من أبله دوستويفسكي «الأمير ميتشكين»في روايته المعنونة بـ«الأبله»والذي تصفه إحد ىشخصيات الرواية بأن: ظاهره كباطنه. نرى عبر عينيه البريئتين غابة الشياطين وهي مجاز فتحي غانم عن عالم الصحافة. يجزع من الكذب وينشد الصدق، صدق نفسه أو كما يقول الروائي «علاء الديب»في مقالة له عن نص غانم واصفًا بطلي الرواية يوسف وزينب أنهما؛ «يبحثان عن صدق نفسيهما بحثًا ملحميًا. يخوضان من أجله المخاطر في مجتمع قاس ومرير، مجتمع محكوم بإطارات أقل ما يقال عنها أنها لم تبنَ على أي درجة من درجات الصدق».


زينب

أبي كان مهرجًا رخيصًا، أنا ابن ذلك المهرج. دومًا شعرت بحقارتي، لقد كنت أتذكر أبي وأقتله، أقتله وأقتل معه كل القيم والأخلاق والعواطف، أقتل كل ما يمكنك تصوره. وأنا أقول إنه ما من سبيل لأن تكون ذا سلطان في هذه الدنيا إن لم تفعل ذلك.
إنها ترى نفسها وهي مقبلة على حب، لا تذكر أي حب كان ولا ذلك الرجل الذي كانت مقبلة على حبه. كل ما تذكره هو حنين وشوق، مشاعرها ورجفة جسدها وهي تنتظر هذه العاطفة الجديدة، تستعد لها وتعقد عليها الآمال.

ربما تراها كامرأة ساقطة ومنحلة أو تجد فيها ظلالًا من «مدام بوفاري»لـ«فلوبير» لكنها روح الحكاية وفتنتها. ما يحركها في علاقاتها المتعددة هو جوع لشيء غير موجود وظمأ لا يروى. هي امرأة المتناقضات، هي الثلج والنار معًا.

ما شكل مخيلتها الطفلة كانت الأحلام التي طافت في قلب أبيها التركي، صب في مخيلة الطفلة ما كان يخالج نفسه من طموح كان يطمع أن يرضي به كبرياءه المحطم، حلم بابنته تجلس على عرش في بلاط السلطان يقول لها: «إن عائلتك لم تعرف سوى المجد أو الموت». رضعت من عيون أبيها أحلامه الهشة وثقة بالنفس ومن عيون أمها الفلاحة المصرية إحساسًا بالظلم وقلقًا لا حدود له.

هذا المزاج المتناقض الذي وصلها عبر والديها، أورثها حيرة لا تنتهي. إصرارًا وعنادًا مع شعور بالضعف وقلة الحيلة. إنها لا تعرف على وجه التحديد ما الذي يجب أن تفعله. صار بحثها عن نفسها مرادفًا للمعنى والحقيقة في مجتمع زائف وخادع.

كثيرون رأوا في زينب مجازًا عن مصر، رأوا ذلك في حقيقة كونها ضحية، وفي بحثها المرير عن مخلص دون جدوى وفي التعامل معها مثل تركة يورثها كل رجل للذي يليه من أجل حمايتها دون رأي منها.