زكي نجيب محمود: سيرة مفكر متحول
إحدى أزمات الفلسفة الكبرى، هي صعوبة معجم اللغة الفلسفية على القراء غير المختصين ولاسيما القارئ العربي الذي يقف عاجزًا في بعض الأحيان عن فهم العديد من مصطلحاتها لاتينية الجذور، ولكن هذا لم يوقف عددًا من الكتاب في تاريخ الصحافة العربية عن تناولها.
أحد أهم من نقلوا وقربوا الفلسفة وجدالاتها إلى القارئ العادي، هو أستاذ الفلسفة والكاتب المصري الشهير «زكي نجيب محمود». لم يكتف زكي نجيب بالكتابة الصحفية والأكاديمية وحسب؛ ولكن كان له أيضًا العديد من الإسهامات الأدبية، مما حدا بالكاتب المصري الشهير عباس محمود العقاد لوصفه بأنه «فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة».
ثلاثية السيرة الذاتية لزكي نجيب محمود
ولد زكي نجيب محمود في الأول من فبراير / شباط من عام 1902، في قرية ميت الخولي بمحافظة دمياط، بعد تعلمه القرآن الكريم في الكتاب، والتحق بمدرسة السلطان حسن الأولية وهو في الـ15 من عمره ، حيث انتقل وانتقلت معه أسرته إلى القاهرة بسبب عمل والده في مكتب حكومة السودان هناك، حيث كانت جزءا من المملكة المصرية آنذاك.
بعد سفره مع والده إلى السودان واستئنافه تعليمه الأول هناك في كلية غوردون، عاد زكي نجيب مرة أخرى إلى مصر لاستكمال تعليمه الثانوي، والتحق بعد ذلك بمدرسة المعلمين العليا، ثم تخرَّجَ في مدرسة المُعلمين العليا بالقسم الأدبي سنة 1930، وفي سنة 1944 ذهب في بعثةٍ إلى لندن حصل خلالها على درجتي البكالوريوس ثم الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن.
قدم د. زكى نجيب محمود سيرته عبر ثلاثيته المشهورة «قصة نفس» عام 1965،و«قصة عقل» عام 1984، و«حصاد السنين» عام 1991، وكتب زكى نجيب «قصة نفس» وهو فى الستين من عمره، وأوضح فى مقدمته أنه بناها على أسلوب أدبي سردي، وهو أن يروي قصة تلك النفس من خلال أحاديثها المستبطنة والدفينة؛ أي أن يكون محور التناول الرئيسي هو العناية بتفاصيل الخلجات والمشاعر الداخلية قبل الأحداث التاريخية.
بعد 20 سنة من صدور هذا الكتاب، جاء كتابه «قصة عقل» الذي يتناول فيه قصة سفره إلى لندن للالتحاق بجامعتها في أواسط الأربعينات حتى حصوله على الدكتوراه وعودته إلى مصر، ويعرض فيه لمسيرة تطوره الفكري، بين أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات حين سيطرت عليه فكرة التغريب والدعوة إلى الأخذ بالثقافة الغربية التي صنعت حضارتنا الحديثة، وعن تبنيه فلسفة «الوضعية المنطقية».
صدر الجزء الثالث من سيرة زكى نجيب محمود «حصاد السنين» قبل وفاته بعامين فقط، وهي بمثابة شهادة على الحياة الثقافية المصرية من أواخر العشرينيات من القرن العشرين حتى لحظة صدور الكتاب، واستوعبت بذلك ثلاثة أرباع القرن الماضي بكل ما اشتمل عليه من أحداث وتغيرات على المستويين الداخلي والدولي، واستعرض خلالها مشاركاته في الحياة الثقافية والعلمية من خلال عضويته في العديد من اللجان الثقافية والفنية بالإضافة إلى رئاسته تحرير مجلة «الفكر المعاصر»، ودوره كأستاذ للفلسفة بكلية الآداب.
من «الوضعية المنطقية» إلى التراث الإسلامي
بحسب أستاذة الفلسفة المصرية د.يمنى طريف الخولي تلميذة زكي نجيب محمود، كان الأخير يعيش فى آثار المركزية الغربية، حيث كان الغرب مثله الأعلى، وكل المطلوب منا أن نحذو حذوه، لدرجة أنه قال: كنت أحلم بأن نكتب من اليسار إلى اليمين، مثل الغرب ونأكل مثله بالشوكة أكثر من الملعقة. كانت هذه أفكاره فى المراحل الأولى من حياته.
في تلك الأثناء أعاد زكي نجيب محمود تقييم موقفه من التراث الإسلامي، حيث أعاد اكتشاف مدى ثرائه وغناه المعرفي والعلمي والفلسفي والرياضي، ووجد أن الحل الحضاري للعرب والمسلمين يتمثل في الأصالة والمعاصرة على حد سواء.
مر موقف المفكر المصري زكي نجیب محمود من الثراث العربي الإسلامي ضمن سیاق مشكلة التراث والحداثة أو إشكالیة الأصالة والمعاصرة، هو أيضًا بالكثیر من التبدل والتحوّلات، وقد قسّم أحد الباحثين محطّات هذا التحوّل إلى أربع مراحل رئیسیة.
المرحلة الأولى، يصفها بأنها مرحلة «المقبول والمردود» من تراثنا، ویحكمها مبدأ المنفعة والصلاح. والمرحلة الثانیة، يسميها بمرحلة «التوفیق بین الماضي والحاضر»، ومبدؤها الجمع والتوفیق. ويعنون المرحلة الثالثة بــ«المعقول واللامعقول» من تراثنا الفكري، حيث تمیزت بالتأویل العقلي للتراث. أمّا المحطّة الأخیرة، فجاءت تحت مسمى «العودة إلى الماضي» وإحیاء التراث، وفیها استغرق زكي نجيب في التراث كلية.
بدأ زكي نجيب محمود الكتابة بالصحافة في وقت مبكر، حيث كانت بداية كتابته الصحفية المنتظمة بشكل أسبوعي مع مجلة الرسالة التي أسسها الأديب «أحمد حسن الزيات» منذ صدور أول أعدادها في عام 1932م، وكانت تجربته التالية في هذا السياق هي مع مجلة الثقافة التي ترأس تحريرها الكاتب والمؤرخ المصري «أحمد أمين»، حيث شارك معه في الكتابة والتحرير.
بعد تكليفه في منتصف ستينات القرن الماضي من قبل محمد عبد القادر حاتم وزير الثقافة آنذاك، بإنشاء مجلة فكرية رصينة تهتم بشئون الفكر والفلسفة المعاصرة، أصدر زكي نجيب في عام 1965 م مجلة «الفكر المعاصر» ورأس تحريرها وشارك في الكتابة خلالها بمقال شهري منتظم.
بعد رجوعه من الكويت، وبدءًا من عام 1973 م، انضم زكي نجيب محمود إلى كتّاب جريدة الأهرام، مشاركًا بمقال ينشره يوم الثلاثاء من كل أسبوع، ولبيان مدى الاهتمام الذي كانت تتلقاه مقالات زكي نجيب، فيكفي أن نعلم أن خمس صحف عربية كانت تنشر هذا المقال في نفس يوم صدوره بالقاهرة.
زكي نجيب ومؤلفاته الأدبية والفلسفية
لزكي نجيب محمود العديد من الأعمال الفلسفية والأدبية التي تعكس آراءه و أفكاره في كل مرحلة من مراحل تطور موقفه الفكري والروحي، من أبرزها كتاب «قصة الفلسفة الحديثة»، وهو كتاب يشرح قصة الفلسفة الحديثة من خلال حياة الفلاسفة أنفسهم، وبأسلوب سردي أقرب إلى القصة، وبلغة بسيطة تصلح للقارئ المبتدئ .
وكتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»، وهو كتاب نقدي للفكر والمجتمع العربي، يدعو فيه زكي نجيب العرب إلى تبني المنهج العلمي والتجريبي. وكتاب «خرافة الميتافيزيقا» أو «موقف من الميتافيزيقا» بعد تغيير العنوان الأول في طبعات لاحقة، وهو كتاب يتبنى فيه زكي نجيب الفلسفة التحليلية، ومنهج الوضعية المنطقية الذي يرى أن البحث في شئون ما وراء الطبيعة هو أمر لا طائل منه.
وكتاب «نحو فلسفة علمية» الذي يتناول فيه دور الفلسفة في مواكبة العلم في العصر الحديث. وكتاب «حياة الفكر في العالم الجديد»، الذي يؤرخ فه لنشأة الفكر الفلسفي في أمريكا، وانفصاله عن جذوره الأوروبية، وتميزه بخصائص جديدة تعكس سمات الحياة الأمريكية، كالفردية والرغبة في الكسب السريع. وكتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» الذي يحاول من خلاله أن يبحث في كيفية تجاوز إشكالات مفارقة الثقافة الموروثة مع العالم الحديث.
وللدكتور زكي نجيب محمود العديد من الكتب الأخرى في هذا السياق ككتابي «ثقافتنا في مواجهة العصر» و«في تحديث الثقافة العربية».
وهناك عدد من الكتب الأخرى التي جاءت خلال مرحلة اهتمامه بالتراث ككتاب «رؤية إسلامية» الذي يبحث خلاله السؤال المزمن «لماذا تخلف المسلمون؟». وكتاب «قيم من التراث» و كتاب «الشرق الفنان» الذي يعقد فيه مقارنات بين فلسفة الشرق والغرب، وبين الفلسفة الإسلامية القائمة على العقل كفلسفة ابن رشد والفارابي والكندي في مواجهة التصوف الفلسفي الذي نجده عند ذي النون المصري وابن الفارض على سبيل المثال.
ولزكي نجيب عدد من المؤلفات كذلك عن سير الأعلام من كبار الفلاسفة الغربيين والمسلمين، ككتبه عن برتراند راسل وديفيد هيوم وجابر بن حيان، وله أيضًا العديد من الكتب الأدبية ككتاب «شروق من الغرب»، و«جنة العبيط»، و«أرض الأحلام » و«الكوميديا الأرضية».