Youth.. عن الجيتو النفسي والفلسفي للشيخوخة
برأيك؛ عندما يلتقي موسيقار عالمي متقاعِد «فْريد بالينجر»، مع صديقه المخرج الهوليودي الشهير «ميك بويل» الذي أخرج 20 فيلمًا من العلامات، في أجازة يقضيانها في المنتجع السويسري الاستشفائي شديد الرُقيّ.. ما الإنجاز الذي سيبحثان عنه في حياتهما عندئذ؟!
لا تتعجب عندما تكتشف أنّ أقصى إنجاز يبحثانه هو: عدد القطرات التي تمكّن كل منهما من تبوّلها لهذا اليوم، ومقارنتها بإنجاز اليوم السابق من القطرات، وتأمُّل أن تنفرج الأمور في اليوم الذي يليه! ويأتي اليوم الذي يخبره الموسيقار «لقد تبوّلتُ كثيرًا هذا الصباح، أنا سعيدٌ جدًا، لم أكُن بهذه السعادة منذ وقتٍ طويل»، فيجيبه صديقه المُخرِج مهنّئًا: «أنا سعيدٌ لأجلك».
أيّ حياةٍ هذه التي تعنى بمثل هذه الإنجازات؟! إنها – ببساطة- حياة الشيخوخة.
* * *
«ما زال هناك وقت لاتخاذ القرار وللعدول عنه، وللعدول عن العدول».
توماس إليوت متحدثا عن شيخوخته
* * *
يحفل فيلم «Youth» بعدد من القرارات التي تتخذها الشخصيات، إما باختيارها وفق قناعةٍ تكوّنت لديها بشأن أمرٍ يشغلها، وإما رغمًا عنها كوسيلةٍ للخروج بأقلّ الخسائر الممكنة، أو لإنهاء الأمور ووضع حدٍ لها كيفما اتّفق.
فعلى سبيل المثال، يتناول الخطّ الدرامي الأساسي للفيلم، الموسيقار المتقاعد فريد بالينجر «مايكل كين»، الذي يقضي أجازته في منتجع سياحي استشفائي في جبال الألب في سويسرا، بصحبة ابنته إلينا «راشيل وايز» الخارجة من قصة زواج فاشلة، وصديقه المخرج الهوليودي مِيك بُويل «هارفي كيتيل» الذي يعمل مع فريقه المساعد على إنهاء سيناريو فيلمه الواحد والعشرين. تطلب الملكة إليزابيث الثانية أن يُحيي بالنجر حفل عيلاد ميلاد الأمير فيليب بقيادته لأوركسترا تعزف إحدى سيمفونياته، إلا أن بالنجر يرفض أكتر من مرة لأسباب خاصة، وفي نهاية الأمر يقرّر الموافقة، خاصةً بعد يقينه بضرورة إعطاء العاطفة فرصة أخيرة للتحرّر الكامل قبل الرحيل من الدنيا، خاصةً بعد مرض زوجته المستعصي وانتحار صديقه المخرج ميك بويل. كان بالينجر يرى أنه الآن متقاعدٌ، متوقّفٌ عن الفنَ، متوقّفٌ عن الحياة، قبل أن يقرّر العودة للفنّ والحياة مرّة واحدة فقط، وأخيرة.
* * *
«ليس أخطر على الشيوخ من هذا التصوّر التقليدي للشيخوخة باعتبارها حياة الراحة والفراغ»!
ألكسيس كاريل
* * *
أمرٌ غريبٌ تستشعره في الحياة داخل ذلك المنتجع، الكلّ جاء كي يقضي أجازته أو ينهيها في التحضير لعملٍ قادمٍ، غير أنّ أغلب نزلاء المنتجع: مومياوات بشرية على قيد الحياة، عواجيز وكهول رجال الأعمال والمدراء والسياسيين والفنانين والرياضيين، وربّما بعضُ عائلاتهم معهم، الجميع يبدون بائسين، لا أحد يبدو مرِحًا، مستسلمين لبرامج الاستشفاء، يقفون في أحواض مياه السباحة كنبتةٍ نَهريّة خاملة لا يحرّكها تيّار الماء، يتراصّون على المحماة الشمسية في رتابةٍ كأصابع سُجق على مِشواة، يجلسون في السونا والجاكوزي متهدّلين عُراة متجعّدين مُطرقي الرؤوس مثل تماثيل شمعٍ كئيبة، تتدلّى أعضاؤهم بلا معنى، ويشردون ساكنين بلا هدف، لا ينظر أحدٌ إلى أحد، بل ولا يبدو أنّ أحدًا منهم يلاحظُ أحدًا. هذه إذًا لحظات راحة الصفوة! يجمعهم الخُواء نهارًا في برامج الاستشفاء، وتفرّقهم المضاجع ليلاً. حتى في طوابير المشي الاستشفائية؛ يمشون في تثاقل كأنّما هم في طابور السّجن الصباحي لفرز الأسماء والأعداد. هؤلاء هم – كما يُفترض- صفوةُ العالَم ونجومه السابقين، وصانعو رؤاه الحاليين. توقِن معهم أنّ هذا المنتَجع ذا الطبيعة الخضراء الاستشفائية يبدو سِجنا يحجبهم عن الحياة المصنوعة التي اعتادوها في الخارج وسط الأسمنت والأسفلت والضجيج. وإن كان نمط العمل داخل المنتجَع يسير بآلية لا تختلف كثيرًا عن آلية العمل خارجه، فكلّ شيء وإن بدا طبيعيًا إلا أن ثمّة آلية تسيّره. العمّال والأطباء والعازفين والمغنّين، حتى الأبقار التي ترعى في جانب المنتَجَع. الحياة التي تواصلنا معها من شريحة العاملين في المنتَجع خلال الفيلم كانت لفتاة المساج، ومع ذا كانت تمارس عملَها بإتقان كآلة، وترقُص في أوقات فراغها كدُمية، بل وصرّحت في حوارها مع بالنجر بأنّ ذهنها خاوٍ دائمًا وليس لديها ما تتكلّم فيه. الأمرُ ذاته أكّده بالنجر لراهبٍ بوذيٍ تابعٍ للمنتجَع حين مالَ على الراهب في لحظةِ تنسّكه قائلا: «أنتَ تعملُ هنا لأجلي؛ لذا لن تشكُو منّي».
وهكذا، يأتي الصباح فتصعدُ المصاعد الخشبية الداكنة تحمّل موظّفي المنتجَع المتراصّين بانتظام وآلية، وقبالتها تهبط المصاعد الزجاجية الشفافة الساطعة تحمل نزلاء المنتجَع من المومياوات الحيّة، الأكثر ثراءً ونفوذًا واستمتاعًا في هذا العالَم حسبَما يُفتَرَض!
حسنًا، ليس الخطر هنا مقتصرًا على الشيوخ والعجَزة الذين نراهم؛ وإنما ينسحبُ الخطر على العالَم الذي أتوا منه وينتمون إليه ويشكّلونه وفق رؤيتهم، العالَم في مرحلة شيخوخته، التاريخ في مرحلة شيخوخته، بل ربّما الكون أيضًا يتجهّز ليلفظ أنفاسَه الأخيرة. وفي المقابل، محاولات استدعاء بعض ملامح الشباب وإقحامها في سياق تلك الشيخوخة لن تُجدي، وكذا حضور الشباب أنفُسُهم عارضٌ وتابعٌ وموظّفٌ في خدمة الشيخوخة ورعايتها، ويتوقّف تأثيره عند هذا الحدّ.
* * *
«جزع الإنسان من الموت هو في صميمه جزع من الفشل: فشل الإنسان في تحقيق ذاته وإنجاز حياته وأداء رسالته».
زكريا إبراهيم
* * *
«إنني على استعداد أن أدفع عشرين سنة من عمري مقابل ليلة واحدة مع جيلدا بلاك». مقايضة يائسة وأمنية ضائعة يُفصِح فريد بالينجر عنها لصديقه ميك بويل. هذه هي الشيخوخة، موسم مراجعة الفرص الضائعة على مدار الحياة الشخصية الممتدّة، مع يقينٍ تامّ بصعوبة – إن لم يكن استحالة- تعويضها، هذا اليقينُ بالعجز يولّد الإحساس الملازم بالجزَع وقلّة الجدوى.
نفس الإحساس المستبطَن بالجزَع، يظهر في ردّ بالينجر على ابنته إلينا أثناء جلسة تدليك له على يد إحدى عاملات المنتَجع. تقول له إلينا: «ستحظى يوميًا بتدليك وسونا وفحص دوري من الطبيب يوميًا، كي يمكنك استرجاع شبابك». فيردّ عليها بالينجر سريعًا: «صدّقيني؛ إن محاولة إرجاع شبابي مضيَعةٌ للوقت؛ الذي يحصل أنني أشيبُ أكثر». هكذا ببساطة؛ فليس هناك مجالٌ لإنجاز شيء كما كان الأمر فيما مضي.
إلا أنه وفي المقابل، إذا كانت هناك فرصة وحيدة سانحة أثناء حالة الشيخوخة، فإن صاحبها يبذلُ جُهدَه كي يحقق هذه الفرصة بدرجة تقترب من الكمال، لعلمه بأنها الأخيرة ، وكلّ ما كان أخيرًا مقتربًا من خطّ النهاية، استحقّ أن يكون مكتملاً.
* * *
«ليس هناك سوى شيئين يمكن أن يجعلانا نحسّ بهويّتنا أمام أنفسنا وهما: دوام نفس الطَبع، وترابط ذكرياتنا».
جول لاشييليه
* * *
مثلما تحدث حالة استقرار اليقين لدى الكثيرين في مرحلة الشيخوخة، تتسرّب إليهم أيضًا حالة من الشكّ المتفاوت في الهويّة أو في بعض مكوّناتها. وهنا لا يمكن الإجابة عن سؤال الهوية بدون الارتكاز على رافد الذاكرة . فالذاكرة تُسهِم في تشكّل الهويّة أولاً، وفي تأكيدها ثانيًا، وفي استدعائها ثالثًا. وإذا كان الأمر ضروريًا في الحالة البشرية الاعتيادية، فهو أكثر ضرورة واحتياجًا في حالة الشيخوخة، إذ تتوافر المساحة للمرور على كمّ هائل من صور الذاكرة، ربما يعيد تشكيل أو تأكيد الهويّة الذاتية. ويزداد الاحتياج إلى الذاكرة في الشيخوخة عندما يحتاج المرءُ إلى استعادة الصورة المتماسِكة لهويّته الشخصية بمكوّناتها ومقوّماتها وخطوطها العامة، حتى وإن كانت انتقائية. الأمر هناك لا يحتمل مزيدًا من الفشل، خاصةً إذا كانت حالة الإحساس بجزَع النهاية قد بدأت في استيطان الوعي والوجدان.
والهويّة هنا من جهة ارتباطها بالذاكرة، لا تقتصر على الذاكرة الذاتية للشخص، وفي هذه الحالة تمثّل ذاكرته صورته أمام ذاته. ماذا إذًا عن صورته في عيون الآخرين؟ هنا يأتي رافدٌ آخر من روافد الهوية، عبر صورة الشخص في ذاكرة الآخرين. لذا يكثر في مرحلة الشيخوخة استدعاء الذكريات الذاتية لحكايتها أو لتقييمها، وبالمثل يكثر تذكير المرء للآخرين بمواقف وأحداث وشخصيات جمعتهم فيما مضى، ويكون غرضه حينئذٍ – وإن لم يكن واعيًا أو قاصدًا له- تأكيد صحّة عناصر شريط الذاكرة، والتماس صورته في ذاكرة الآخريين للاسترشاد بها في صياغة هويته الخاصة.
الحوارات الممتدّة في فيلم «Youth» جاءت تمامًا في هذا السياق مجسّدة له، من أبرزها على سبيل المثال:
* حوار فريد بالينجر مع ميك بويل حول صديقتهم القديمة جليندا بلاك، وقد كشف هذا الحوار عن تفاصيل مفاجئة لأحد طرفي الحوار للدرجة التي جعلته يشعر بتميّزه الذاتي، ويعيد تقييم نظرته للطرف الآخر.
* وحوار التقريع الحارق المطوّل الذي واجهَت به إلينا والدها فريد، في إحدى الجلسات الاستشفائية. لقد لخّصت له نظرتها له – ولأول مرة- كأبٍ عبر مواقف ذكرتها له، وبدَت عليه الصدمة وهو يعيد استيعاب تأثير هذه المواقف على أسرته وأبنائه، للدرجة التي أعادت تشكيل رؤيته لذاته، بل والتشكيك في صلابة بنيانه النفسي، وهو الرجل الذي يملك أن يقول لملكة إنجلترا لا بكل اعتداد، لقد جعلته صورته في ذاكرة ابنته يسأل كبير أطباء المنتَجع «تقول ابنتي إنني مثير للشفقة؛ هل أنا بالفعل كذلك؟»!
* أيضًا، حواره مع زوجته ميليني المريضة بمرض عضال التي يحبها بكل وفاء، غير أنه لم يزرها منذ عام. حوار من طرف واحدٍ فقط، استدعى فيه من ذاكرته تفاصيل لا يعرفها سواهما، على سبيل التماس التأكيد على حقيقةٍ يعيش عليها: «أننا، أنا وأنت معًا، لم نكن أكثر من سميفونية متناغمة بسيطة وجميلة».
* * *
«الشيخوخة هي الشعور بأنه قد فات الأوان، وأن اللعبة قد انتهت، وأن المسرح من الآن فصاعدًا قد أصبح ملكًا لجيلٍ آخر».
أندريه موروا
* * *
وكأني كنت بحاجة فعلاً إلى أن أشاهد الفيلم أربع مرّات متتاليات، كي أضع يدي على الرّابط ما بين مضمون الفيلم، وما بين عنوانه «Youth الشباب». وظهر هذا الرّابط على لسان باولو سورينتينو مخرج الفيلم في محاورة جرت في خيالي، كأنّه يحسِم الأمر معي في ضجَر: «أرأيتَ كلّ ما في الفيلم؟ كلّ ما عداه هو الشباب». اكتشفتُ أنها نفس الجملة التي قالها كبير أطباء المنتجع لـ فريد بالنجر قرب نهاية الفيلم: «أتدري ما الذي ينتظرك خارج هذا المنتجع؟» أجابه بالنجر «لا. ما الذي ينتظرني؟» فتابع الطبيب: «الشباب».
تبدو الجملة مثيرةً وعميقة؛ فقد جاء الفيلم في مجمله كمعادل موضوعي لحالة الشيخوخة وما يصاحبها، فتجسّدت خبرة الحياة في زوايا التصوير الواسعة التي غلبت على الفيلم، وتجسّدت حالة التشوّش في ابتداء بعض المشاهد بلقطات لا يظهر فيها المتحدّثون في المشهد رغم تواجدهم في نفس المكان، وتجسّدت حالة الذاكرة التي تقاوم لأجل البقاء في بعض المشاهد التي لم يتجاوز الواحد منها لقطةً خاطفة لكنها كافية، وتجسّدت حالة الفراغ المصاحِب للشيخوخة في طبيعة الحوارات التي كانت ترتكز على أمور هامشية وربّما تبدو تافهة «كفاءة التبوّل اليومية، المراهنة اليومية على تصالح زوجين متخاصمين، ذكريات الصّبا مع الفتاة جليندا السمراء، وهكذا»، وهذا في مقابل القَناعات الفريدة والحكيمة التي حملتها نهايات الحوارات «أسوَا وظيفة لأنثى في العالم أن تكون مغنّية بوب، أسوأ من الدعارة مدفوعة الأجرة – الصداقة الجيّدة هي التي نخبر بعضنا بعضًا فيها بالأشياء الجيدة – وهكذا».. وكأنّ الفيلم بمضامينه النفسية والفلسفية يمثّل جيتو وإطارًا حاويًا للشيخوخة وما يرتبط بها، وعازلاً لها عن ما يتحقّق خارجها كالشباب.
غير أنّ هناك تحقّقاتٍ للشّباب وسط حالة الشيخوخة الممتدّة عبر العمل. تحقّقات تمثّلت في فرار إلينا من الخوف إلى الحريّة بممارستها لرياضة تسلّق الجبال، وفي عودة بالينجر إلى قيادة فرقة تعزف سيمفونيّته القديمة أمام الملكة إليزابيث في حفل عيد ميلاد حفيدها وليام.
ويظلّ أفضل ما في الأعمال الفنيّة دائمًا، هو اتّساع مجالات التأويل.
* * *
«حين يسير الإنسان بخطى سريعة نحو الشيخوخة، فإنه عندئذٍ لا يفقد شعوره بالحريّة فحسب، بل يفقد أيضًا – إلى حدٍ ما- حريته نفسَها. فإذا ما استمر الانحلال بالإنسان، جاء الموت فوضع حدًا لتلك العملية الطبيعية التي تُفضِي إلى خاتمة المرحلة».
ماكس شيلر
* * *
الخيارات في تلك الحظات النهائية صارت محدودة على كل حالٍ.
يُنهي بالينجر قيادته للأوركسترا العالمية، بأسلوب إدارة وتوجيه أثار إعجاب ورهبة كل أعضاء الأوركسترا بلا استثناء، وأثار إجلال واستحسان الجمهور الرفيع. ثمّة فراغٌ أبيضٌ ناصعٌ لا نهائي يمتدّ في أفق الرؤية خلف موضع الأوركسترا، يديرُ بالينجر ظهره لفرقة الأوركسترا مستقبلاً الجمهور، لنرى لقطةً خاطفة لصديقه ميك بويل الذي انتحر قبل أيام، وهو ينظر له من مسافة قريبةٍ جدًا تدلّ على أنه ينتظره على الجانب الآخر، وأنه قد الآن الأوان للانتقال إلى هناك، بحيث إنْ كان كل ما في هذه الحياة هو الشيخوخة، فالذي ينتظرنا على الجانب الآخر هو الشباب. أو هذا هو ما ينبغي أن يكون!
هذا فيلمٌ ليس للمتعة فقط، وإنّما للتأمّل.