طفلة في التاسعة من العمر تنتظر والدتها مولودًا جديدًا، تشعر بالخوف كلما لاح التعب على أمها خلال أشهر الحمل، وترسم سيناريوهات كارثية لما يقد يحدث، وتعيش الرعب لشهور، ولا ينتهي قلقها إلا بقدوم الصغير والتأكد أن أمها بخير.

قد تتعجب لماذا قد ترسم طفلة في سنها تخيلات مرعبة ومبالغ في بشاعتها؟ حسنًا… لأنها تابعت كرتون «أنا وأخي» في ذات فترة حمل والدتها، فتحوّل المرح والغيرة من القادم الجديد إلى حنق خوفًا ممّا قد يسببه من أذى.

يبدو ما كتبته مبالغًا فيه؟ حسناً هل تذكر «أنا قصة إنسان… أنا جرح الزمان… أنا سالي سالي»؟ الفتاة ذات الحظوة التي تصبح خادمة في مدرستها الداخلية؟

ماذا عن «ريمي» الفتاة التي فقدت أمها ومرت بالكثير قبل العودة إلى أحضانها؟

«عدنان ولينا» وحرب عالمية ثالثة؟

صوت هالة الصباغ وهي تغني «وغفت بائعة الكبريت»؟

هذه قصص طفولتنا. ربما كبرنا ونسينا تفاصيل الحكايات؛ لكن الأغنيات مزروعة في وجداننا كما زرعها «فرسان الأرض في الوطن» بعد عودتهم، ومتأكدة بأنك تكاد تسمع شعار «قناة شاب المستقبل» في عقلك الآن.

نعم… إنها قناة «سبيستون»، قناة الرسوم الكرتونية وبرامج الأطفال، الثالثة من نوعها في فضاء التليفزيون والأضخم عربيًا، والأهم من ذلك أنها كانت الأعمق أثرًا.

انطلقت كبث تجريبي في منتصف مارس/ آذار 2000 على قناة البحرين، قبل أن تستقل بشكل رسمي كقناة مخصصة لبرامج الأطفال في 12 يناير/ كانون الثاني 2002.

أتت التسمية من «فضاء الكرتون»، وهي الفكرة الأساسية التي تقوم عليها القناة حيث تتنقل بالمُشاهد عبر كواكبها العشرة: (أكشن – زمردة – أبجد… إلخ)، وذلك بألوانها وبرامجها المختلفة في رحلة ممتعة من التنوع.

الجيل الذي شبَّ على سبيستون –مواليد منتصف الثمانينات وفترة التسعينات على وجه الخصوص- عاصر أول جهاز نقّال متاح للعامة… موبايل نوكيا الأول الذي يكسر البلاط حين يسقط من يدك. رأى الحاسب الآلي يدخل للمرة الأولى للبيوت والمدارس ومراكز الألعاب. حضر الانتفاضة واستشهاد محمد الدرة وأحداث 11 سبتمبر. تعلَّم أن فلسطين عربية محتلة وأن إسرائيل عدو غاشم مغتصب. كبرنا على الدين وآدابه والتفاخر بعدد ما نحفظ من كتابنا السماوي… على قيم وأخلاق ومبادئ شكلت هويتنا وحصّنتنا من الانفلات في دوامة الحياة وصراعاتها.

سبيستون… والقلق الوجودي

هذا الجيل الذي عاصر بدايات الانفتاح والعولمة، رأى الوصول لمصادر المعرفة والترفيه يزداد سهولة وإمكانية شيئًا فشيئًا فأدرك قيمته، تعلم السؤال الصعب «لماذا؟» مع كل مرة ظهرت «سلمى تسأل»، وتعلّم التفكير المنطقي والتحليل وربط الأحداث من «الرابط العجيب»:

لماذا يعيش السمك في الماء؟ ولماذا الإثنين قبل الثلاثاء؟ لماذا نحن هنا؟ سؤال صعب… سؤال يراودني…

حسنًا كانت هذه – في رأيي- بداية قلقنا الوجودي وتساؤلنا عن أسباب الحياة ومعناها والغاية منها، والشك في كل الإجابات، قلق مؤقت أصاب البعض فدفعهم لإيجاد جواب يقر أعينهم، وآخرين التصق بهم كظلهم. لم يتركهم ولم يجدوا مع محاولاتهم المضنية إجابات شافية لوجوده.

البحث عن المعنى صار أكبر همنا، كيف نُحدِث تغييرًا عظيمًا ونترك بصمة لا يمحوها التاريخ. التطوير الذاتي والتنمية البشرية ومطالعات علم النفس والاجتماع أصبحت جزءًا رئيسًا في حياتنا اليومية.

أخذ العالم يعدّنا ويغذي وعينا وفكرنا، يخبرنا أننا مصطفون وجديرون بحمل راية التقدم، يُشرِّبنا المبادئ والقيم كأنما نحيا في المدينة الفاضلة، ويضرب وتر الإنسانية فينا لنشعر بكل منْ في الأرض. كل هذا ونحن لم نزل في عقودنا الأولى.

حتى الحكايات المدبلجة من لغات أخرى كانت تُعدَّل وتُصفَّى من كل شائبة تعكر صفو هذا العالم الفطري الذي خُلق حولنا، جعلت الحوارات أكثر ملاءمة لثقافتنا ومجتمعنا، ورأينا كيف ينتصر الخير دومًا على الشر في النهاية.

ولكن مع الوقت أصابتنا الصدمة حين أخذنا نوغل في العالم أكثر فأكثر، الغش أصبح شيئًا عاديًا لا غضاضة فيه، والمجاهرة بالسوء دعابة والأمل بذرة متعفنة تحاول النمو في وحل، ونادرًا ما ينتصر الخير.

الإنجاز والاكتئاب

يشبه الأمر إعداد كتيبة لحرب على أحدث الدبابات والمناورات الحربية في الصحاري وتعليمهم حيل المعركة وطرق النجاة، ثم مفاجأتهم بأن الحرب بحرية!

 ماذا يفعل المرء حينها بهذا الكم من الإعداد والمعرفة لأجل معركة لن يخوضها ويجد نفسه عُرضة للأذى؟ وعليه الآن تعلّم النجاة في خضم المعركة الجديدة.

وُضعت على أكتافنا أحمال ثقال لا طاقة لنا بها. دفع مستمر من الأهل للتميز والتفوق وكسر الأرقام القياسية. تأطير كل ما نفعل بالسعي للمثالية والكمال. كبت كل المشاعر السلبية –كما تعلمنا وصفها خطأً- وتمثيل السعادة حتى لا نشعر بالذنب تجاههم بعد تفانيهم وتضحياتهم التي يُذكّروننا بها كل يوم.

ليس الغرض من هذا اتخاذ دور الضحية التي لم ينصفها العالم ولم يُحبِّها الأهل، ولا تبرير التقصير والتقاعس الذي نعيشه من حين لآخر، ولكنه سرد لمشاعر متراكمة اكتشفت مؤخرًا ارتباطها بطفولتي وجيلي. ولا حاجة لي للحديث عن مواقع التواصل –الاستئصال- الاجتماعي التي زادت شعورنا بالتأخر والقلق وانعدام الرضا، بعيدًا عن فائدتها القليلة نسبيًا أمام شعورنا بالغُربة.

لا يفهم آباؤنا قلقنا، اكتئابنا وصدماتنا التي شكلتها الحياة. يخبروننا كم نحن مرفهون ومترفون، كيف نحوز ونملك ما لم يجرؤ أحدهم أن يحلم حتى به. المشكلة هي الشره الدائم للإنجاز؛ لاستيعابنا مدى الإمكانات المتاحة، العمل لسنوات على تحقيق هدفٍ ما لنسعد ونرضى، ثم تلاشي متعة هذا الإنجاز أسرع من الضوء.

في عالمنا المعاصر نحن نركض كفأر في عجلة داخل قفص، نشعر بالحاجة للتحرك طوال الوقت، بحاجة لوصول الطابق الخمسين… وحين نصل تلح علينا الرغبة في الامتلاء لصعود الطابق الـ 100.

وحين تتعطل العجلة اللا نهائية لبعض الوقت، يُخيِّم اليأس ويجد الاكتئاب طريقه بيسر عبر خلايانا العصبية.

«ماذا سنفعل الليلة يا برين؟»

في كتابه «قلق السعي إلى المكانة» يخبرنا «آلان دي بوتون» كيف نسعى للحب والاحترام لنحسن مكانتنا الاجتماعية، وارتباط هذا السعي بوهم تحسين صورتنا الذاتية. يضعنا أمام حقيقة هوسنا للظهور، واهتمامنا برأي المجتمع الجيد بنا، ونتيجة هذا الهوس من ضغط وقلق دائمين وتلف لأعصابنا وافتقارنا للرضا.

إلا أن أهم ما لفت انتباهي في الكتاب هو القول المذكور على لسان عالم النفس الشهير «وليام جيمس»:

إن التخّلي عن الطموحات الكبيرة لهو نعمةٌ جالبة للارتياح بمثل قدر تحقيقها. تبزغ خفة غريبة في قلب المرء إذا ما تقبّل بإيمانٍ طيب ألا يكون شيئاً مذكورًا في مجالٍ محدد. أي يوم مبارك سعيد يحل عندما نتخلى عن كفاحنا للاحتفاظ بالشباب والرشاقة. لسوف نقول: «الحمد لله، لقد زالت عني تلك الأوهام». إن كل ما يُضاف إلى الذات هو عبء مثلما هو مفخرة.

أتفق تمامًا. كلما تقدمت في رحلة التعرف على ذاتي، والوصول بها للرضا والسكينة تأكد لي أن النجاح الحقيقي هو التخلي. علينا الاعتراف بعجزنا عن مجاراة سباق التتابع هذا، كما يعترف المدمن بعجزه أمام المادة المخدرة؛ ليتحرر من الركض المحموم نحو كل ما يزيدنا تعاسة.

لذا ما سنفعله الليلة وكل ليلة يا «بينكي»، هو التخلي عن هوس السيطرة على العالم والرغبة في كسب السباق، وتعلم الامتنان لأشيائنا الصغرى… للوقت الذي نقضيه مع الأصدقاء أو حتى لفنجان قهوة جيد.

والأهم هو الإمعان فيما نحمله من جمال… إبصار حقيقتنا المستحقة للحب لنكون ببساطة نحن… آملين أن «تهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.