أكائن أنا أم غير كائن؟ … ذلك هو السؤال. أكون مثل الجميع، أم أكون نفسي؟ أكون مثلهم ذا وجود زائف وحقيقة مطموسة، أم أكون كما أريد وكما أرغب؟ أكون مثلهم أم أكون أنا في عالمي الخاص الفريد؟ أكون أو لا أكون، تلك هي المشكلة.

من جنون هذه الأسئلة نبعت صورة الذات التي قدمها المخرج العالمي يوسف شاهين في أفلامه، وتشكلت حتى أصبحت تتبعًا لصورتنا التاريخية والمجتمعية، وفي رحلته للبحث عن هويته كان ينقل في أفلامه قصة وطن يبحث عن هويته هو الآخر. ومع حديثه عن الهوية تحدث شاهين عن عائلته وعن الفن، وعن هواجسه الذاتية والجنسية، بجرأة نادرة. وحمّل شاهين شخصياته ذاك المصير التراجيدي الذي بدا في أحداث الأفلام كمصير أبدي لشخصيات تعاني مشكلات اجتماعية واقتصادية ضاغطة وسط مجتمع كبير يفور بتناقضاته على جميع المستويات.يمكننا تقسيم مشوار شاهين السينمائي إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة نمو وعيه الاجتماعي، ومرحلة تعمق وعيه السياسي. والمتابع لمسيرة شاهين السينمائية، يكتشف فيها انعكاس ذلك التطور الفكري والفني، وذلك الوعي الاجتماعي والسياسي الذي تحمله شخصيته. وخلال هذا الطريق وميله نحو الذاتية وسينما الحداثة، أدخل شاهين بقوة أبطاله في صراعات نفسية مرتبطة بأبعاد اجتماعية، وتكرر ظهور عربة مستشفى الأمراض العقلية المتجهة إلى البطل في بعض أفلامه («باب الحديد» (1958) و«الاختيار» (1970))، وأيضًا تكررت تيمة البطل المحبط جنسيًا ومجتمعيًا وما يحدث له عندما تقع في يده سلطة المال أو السلاح.

ميّز شاهين في هذه النوعية من الأفلام الصراعات النفسية باستخدام أدوات فنية إن لم تكن خاصة فقد استخدمها بشكل مجتهد ومميز، فاستخدم التقطيع المكثف لإبراز الصراع، والقطع الحاد لصدمة المتلقي، كذلك رسمه للكادرات ومنح الإضاءة دورًا رئيسيًا في المشهد لطرح أبعاد نفسية كرسم القلق والحزن والضياع (كما في التفرقة بين مشاهد البحار والكاتب في فيلم «الاختيار»)، كما استخدامه الحوار بذكاء، بعيداً عن التصريح المباشر عند طرح أسباب الخلل عند الشخصية، وترك مساحة من أجل تحليل المتلقي. وهنا سنطرح أربعة أفلام ظهر فيها ربط شاهين للخلل النفسي بأبعاد اجتماعية من أجل دراماه.


«باب الحديد» (1958): أنا القبيح المقهور

فشل هذا الفيلم تجاريًا وأحجم الجمهور عنه، لكن برع شاهين من خلاله في تصوير قطاع من الحياة اليومية في «محطة مصر»، كما برع في رسم وتجسيد شخصية المهمل والمعاق «قناوي». تدور أحداث الفيلم حول «قناوي»، بائع الجرائد الذي يعمل في محطة القطار برمسيس، الذي يحب «هنومة» بائعة المشروبات الباردة بالمحطة، وهي بدورها تحب «أبو سريع» الحمّال بنفس المحطة، لكنه يتمتع بشعبية وسط العاملين بالمحطة لنضاله من أجل توحيد العمال لمقاومة فساد السلطة، وجمعهم تحت لواء نقابي.يمكن بسهولة استنتاج تعرض قناوي لطفولة قاسية، ما بدا على ملامحه عندما سألته هنومة مستنكرة قدرة المرء عند القسوة على أطفاله، ليأتي المشهد وفيه قناوي شاردًا، وكأنه يبحث عن الإجابة مستعيدًا طفولته، لكننا لا نرى ما رآه في ذاكرته، فلا نرى سوى رعاية «العم بيومي» له منذ وصل قناوي المحطة. ولّد هذا الحرمان منذ الصغر في نفس قناوي غربة؛ غربة نراها في اختلافه عن باقي العمال، فهو بالتأكيد لا ينتمي لهذا المكان، وغربة أعمق في داخله، فخلال مشهد الرقص الذي اندمجت فيه هنومة مع ركاب القطار، رفض قناوي دعوتها في البداية، ثم انضم للرقص لكن على الرصيف خارج عربة القطار، خارج مسرح الحدث، فرغم العرض بالاندماج لم ينس أنه غريب وسيظل بالخارج دومًا.
هند رستم ويوسف شاهين في مشهد القطار من فيلم «باب الحديد»

في هذا الفيلم، كان التناول الأول لإشكالية الاستلاب الجنسي في السينما المصرية. ففي «باب الحديد»، تشكّل صراع ذو شكل طبقي، ولكن حاول شاهين تغليب سمة من سمات الصراع على سمة أخرى، من خلال تغليب الصراع النفسي المرتبط ببعد اجتماعي، وهو الذي جسده من خلال شخصية «قناوي» المعاق جسديًا وذهنيًا، والمستلب الجنسي.

ففي الفيلم يمنع قناوي من التشابه مع باقي العمال حائلان، جسدي واجتماعي، فرغم شعوره بالحب، الشعور الذي أخافه، إلا أنه لن يكون واقعيًا لو آمن باستمراره، أو قدرته على ممارسة الجنس مع هنومة. ففي مشهد يسخر أحد العمال من عجزه، مؤكدًا له أن الفتاة التي سترضى به لن تكون إلا على شاكلته، عاجزة مثله؛ الحقيقة التي لا ينكرها قناوي في نفسه، وهي الحقيقة التي زادت قسوتها من خلال اختياره هنومة ذات الغواية الجنسية، مما يضاعف من احتقانه كجزء من السادية التي يمارسها المحرومون على ذواتهم، تمهيدًا للخيارات الراديكالية: الاغتصاب والقتل.


«الاختيار» (1970): فشل الوصول إلى الأنا

بعد فيلم «الأرض» (1969)، أصبحت الرؤية الفكرية والوعي السياسي عند شاهين واضحين، وأخذا في التأكد مع كل فيلم. ففي فيلم «الاختيار»، تأمّل شاهين أوضاع المثقفين، وانتقد مواقفهم، وكأنه يمارس بذلك نقدًا ذاتيًا، حيث يناقش قضية ازدواجية المثقف ودوره في التفاعل مع قضايا الجماهير. تناول الفيلم الشعور بالفقد والقلق والارتباك الذي عمّ العالم العربي بعد هزيمة 1967، من خلال قصة كاتب عزل نفسه، ويصوّره الفيلم كشخص مشوّش، قتل أخاه الذي يعيش ببساطة وحرية، وانتحل شخصيته.
عزت العلايلي في دور الكاتب مع سعاد حسني في مشهد من فيلم «الاختيار»

لا يوضح الفيلم في أحداثه ما إذا كان اتهام القتل حقيقيًا وأنه انتحل شخصيته، أم أن كليهما كانا نفس الشخص منذ البداية، لكنه يُظهر الصراع النفسي المتولد من مشكلة تكمن في النظام الاجتماعي المختل عند شخصية الكاتب ومأساته التي تتلخص في عجزه عن أن يكون هو نفسه، وعجزه عن الاندماج في نظام اجتماعي ينتمي إليه رغم أنه يعرف فساده وزيفه، مقابل مجتمع أخيه الحر النقي، والإنذار بخطورة الوضع الذي ظهر مع صوت عربة الإسعاف المزعج بنهاية الفيلم.ظهر ذلك في التفرقة الشديدة بين الكادرات الواسعة التي يظهر فيها البحار والإضاءة تغطي كامل وجهه ومساحته، مقابل الكادر الضيق الذي يظهر فيه الكاتب دومًا بإضاءة خافتة لم يغيرها حتى ظهوره في حفل. واستخدم شاهين الضوء أيضًا في مشهد النهاية ومحاولة الكاتب الهروب، لتقنعه بهية صديقة البحار بالذهاب معها للإبحار على سفينة، والضوء يخرج تدريجيًا من بين الشقوق في طريق ممهد، حتى نصل لضوء مصباح عربة الإسعاف الأحمر، مع الإنذار بخطورة الوضع الذي ظهر مع صوت الإسعاف المزعج بنهاية الفيلم.كان الاختيار في الفيلم بين وجه الإنسان الحقيقي وبين القناع الذي يضعه على وجهه، أو بين الأنا الحقيقية والأنا الخارجية، بين الأنا الذاتية والأنا الاجتماعية، ولذلك تلاعب السيناريو بثلاثة احتمالات طوال الوقت: فإما أن البطلين توأم، أحدهما بحار حر منطلق يستمتع بحياته، والثاني، كاتب مثقف مقيّد رغم حياته الرغدة. ووفق هذا الاحتمال، فقد حقد الكاتب على البحار وقتله، لما يتمتع به من حرية وإعجاب وحب من الجميع حتى من زوجة الكاتب الجميلة. أما الاحتمال الثاني، فهو أن هناك بطلاً واحدًا يعيش اضطراب تعدد الشخصيات، فهو كاتب مأزوم يقوم في الصباح بالدور المرسوم له من المجتمع الزائف، ويمارس ليلًا ما يرضيه ويتمناه هو من حرية يحقق فيها ذاته. أما الاحتمال الثالث، فهو مزيج بين الاحتمالين، فالمثقف قتل توأمه البحار، فتزايد اضطراب المثقف وجنونه، وقرر أن ينتحل شخصية أخيه البحار التوأم الذي قتله، ويعيش حياته في الليل، ثم يعود إلى حياته الزائفة الرتيبة في الصباح.


«الآخر» (1999): عقدة أوديب نحو ماما أمريكا

تناول شاهين في هذا الفيلم علاقتنا بالغرب، وخاصة الولايات المتحدة فى ظل اقتصاد العولمة، من خلال قصة حب بين آدم، الشاب المصري لأب مصري وأم أمريكية، وحنان، الصحافية اليسارية التي تنتمي لعائلة بسيطة وتعيش مع والدتها، بينما ينضم أخوها لتنظيم إرهابي. تحاول مارجريت، الأم، خلال الفيلم إبعاد حنان عن ابنها، وفي طريقها للتخلص منها مستخدمة كارت أخيها الإرهابي، ينتهي الأمر بموت حنان وموت آدم وهو يحاول إنقاذها. ضمت الشخصيات المحورية في الفيلم، مارجريت، الأمريكية الممثلة لهيمنة الولايات المتحدة، وهي سيدة بلا قلب، محطمة داخليًا، فتحطم كل ما يعيقها عن تحقيق آمالها، حتى لو كان هذا أمل ابنها. لمح الفيلم إلى علاقة أوديبية بين مارجريت وابنها الوحيد آدم، خاصة وأنه لا يربطها بزوجها رجل الأعمال المصري شيء غير المشاريع العابرة للقارات. تظهر هذه العلاقة غير السوية فور وصول آدم إلى مصر.ظهرت العقدة الأوديبية في الفيلم دون معرفة سبب نشوئها في الماضي، وقبل أن يسافر آدم لأمريكا وعند طفولته، وربما وُجدت باعتبار أن الأم مارجريت هنا هي «أمريكا». ودعم وجود العقدة شخصية الأب المزاحِمة في الأحداث، حتى أنه لا يعترض على زواج آدم من حنان الفقيرة، الزواج الذي ينفي كل رغباته في جمع المزيد والمزيد من المال، ومبرر هذا ربما كان افتقاده الحب والحياة الزوجية السعيدة. وظهرت العقدة ثانية عندما سخرت مارجريت من علاقات ابنها لتؤكد له أن حنان مثل الباقيات، وهنا كان من ضمن علاقاته التي أكدت عليها علاقته بامرأة في مثل سن مارجريت.

هاني سلامة ونبيلة عبيد في مشهد من فيلم «الآخر»

تكررت العقدة مع تطور علاقة آدم وحنان، واغتصابه لها بعد تحقيقها الصحفي عن فساد مشروعات والديه، وسقوط الوجه الوطني وظهور وجه آدم الأمريكي، لكنه يعود ثانية لها وقد تحرر من عقدته تجاه والدته عندما هجر المنزل وذهب ليعيش مع حنان ووالدتها في بيتهما البسيط؛ القرار الذي دفع مارجريت لإظهار أسوأ وجوهها على الإطلاق.

«هي فوضى» 2007: الحرمان في الطفولة

هاني سلامة، نبيلة عبيد، الآخر
هذا الفيلم الذي تنبأ بالثورة من خلال قصة «حاتم»، أمين الشرطة المستغل لسطوته فيقمع ويعذب ويفرض الإتاوات ويكدّس سجن القسم بالمسجونين من أهالي منطقته الذين يرفضون الخضوع لأوامره. لدى هذا الشخص المتسلط نقطة ضعف، هي حبه لـ«نورا» التي لا تبادله الحب، وبعد محاولاته غير السوية قام باغتصابها.تتمثل إشكالية الفيلم في بناء شخصية حاتم، فالقمع الذي يمارسه، وهو يمثل رمز السلطة الغاشمة في الفيلم هو قمع غير مبرر اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو فكريًا، لكنه كان قمعًا وليدًا للكبت الجنسي والاجتماعي، مما أظهره في لحظات كقامع وكمقموع وضحية هو الآخر، حتى في المشهد الصارخ بنفسيته غير السوية عندما حصل على رشوة أمام الجميع بدت الرشوة لا كسعي لزيادة نفوذه عن طريق المال، بل كفعل تعويضي عن حرمانه في الطفولة. كان حاتم ضحية للقهر والفساد، ففي المشهد الوحيد الذي يظهر فيه حاتم كإنسان، يبوح بمعاناته لنور، فقد نشأ يتيمًا، وسرق عمه أرضه، وعاش طفولته يتنقل بين بيوت أقاربه قساة القلوب الذين أساءوا معاملته، فحرموه من كل شيء حوله، حتى امتد شعور الجوع في نفسه ليدوم معه في حياته بصرف النظر عن حاجته إلى الطعام.
خالد صالح في مشهد من فيلم «هي فوضى»

كانت سلوكيات حاتم مدفوعة بالأساس بفعل عقده النفسية المتأصّلة بداخله بسبب إحساسه بقبح منظره، وشعوره المدمّر بالكبت الجنسي، الأمر الذي دفعه لممارسة كل أشكال السلوك الجنسي التعويضي الشاذ، وحاول أن يتخطاه عندما أطلق سراح عاهرة من السجن لليلة واحدة كي تساعده ليصبح مقبولًا، فيلبس الباروكة ويلجأ للمشايخ ليصنعوا له حجابًا، حتى أنه اتجه إلى الكنيسة يطلب من راعيها أن يساعده في صنع تعويذة محبة، وعندما يرفض القس، يهدده حاتم بوقف احتفالات هذا العام.ظهر الصراع داخل الفيلم بين الخير والشر وتصويره بحدة في مشهد النهاية، بداية من انطلاق كل خصم من خصوم حاتم حتى وصولهم جميعًا إلى القسم وخروج قوة القسم لمواجهتهم، فعبّر كل من ارتدى اللون الأبيض من قوة القسم عن حاتم، وظهر المدنيون في ألوان كادت تكون موحدة من أجل حدة في التميز حتى نهاية المشهد.

المراجع
  1. أمير العمري، شخصيات وأفلام من عصر السينما
  2. وليد شميط، يوسف شاهين: حياة للسينما
  3. عن ثلاثية يوسف شاهين «الحساب مع الآخر»
  4. حسن حداد، تعال إلي حيث النكهة: رؤى نقدية في السينما
  5. د. مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور
  6. موسوعة النقد السينمائي: تشكيل الوعي عبر القوى الناعمة. الجزء الأول
  7. إريك فروم، أزمة التحليل النفسي
  8. أمير العمري، اتجاهات في السينما العربية