يوسف شاهين وثلاثية ما بعد النكسة
تسربت هذه الكلمات التي أعلن من خلالها «جمال عبد الناصر» عن الهزيمة إلى قلوب جيل كامل من المصريين. لم تكن مجرد هزيمة عسكرية وإنما كانت صدمة لبناء مكتمل من الأوهام التي مثلت حُلم جيل كامل. لم يكن عبد الناصر وحيدًا بكل تأكيد، ولم يكن زعيمًا ملفقًا كحال من يدعون أنهم زعماء اليوم. كان ناصر مبشرًا بحلم اتبعه ملايين العرب، آمنوا به وصدقوه وعاشوا فيه، حتى أفاقوا أخيرًا على سقوطٍ مدوٍ. سقوط لم يمتلكوا أن يسموه باسمه «هزيمة»، فتكفل هيكل بتسميته «نكسة».
من بين هؤلاء الملايين المؤمنين بحلم ناصر كان هناك جيل من المثقفين والفنانين الحقيقيين، صدقوا في البداية أن حاكمًا مصريًا ولو كان عسكريًا أفضل من أغراب يتوارثوننا كما تورث الأنعام. أفاق بعضهم حينما كُممت الأفواه تباعًا، وأفاق آخرون حينما زارهم زوار الفجر، وأتت الهزيمة لتحطم أوهام البقية.
لم نجد خيرًا من «يوسف شاهين» ممثلاً لهذا الجيل، شاهين الذي صنع ملحمة «الناصر صلاح الدين» في عام 1963، تلك الملحمة التي صنعت صورة أيقونية لقائد عربي منتصر وحكيم، فيه من عبد الناصر أكثر من صلاح الدين نفسه. تلك الملحمة التي شارك فيها أكثر من 20 ألف جندي مصري بأوامر عليا، من نفس جنود الجيش الذي هُزم بعدها بأربع سنوات تحت شمس سناء التي لا ترحم.
اقرأ أيضا:عبد الناصر صلاح الدين: ما لم يخبرنا به يوسف زيدان
صحيح أن شاهين غادر مصر بعد هذه الملحمة بوقتٍ قصير، كفنانين ومبدعين كثيرين أدركوا أنه لا مجال لحرية أو معارضة من أي نوع أمام ثلة من حملة السلاح. ولكنه عاد بعد النكسة، عاد رجلاً آخر، فصنع ملحمة أخرى في عام 1969 هى «الأرض» التي ثار فيها على ظلمٍ قديم وقدس فيها قيمة الأرض في وطنٍ مغتصب، ثم صنع ثلاثيته التى درات في مصر النكسة، الثلاثية التي عرت أوهام جيله ولم تتردد في قتل حلمهم الذي استحال كابوسًا.
الاختيار 1970: عارف الواحد بيقابل مين في آخر الرحلة؟
«نجيب محفوظ»، و«يوسف شاهين»، مرة أخرى بعد «الناصر صلاح الدين»، ومحتوى فني يحمل نفس الإبداع على مستوى الصنعة، ولكنه يحمل النقيض تمامًا على مستوى المضمون. هذه مواجهة مباشرة مع الهزيمة، مواجهة مباشرة مع النفس.
تدور أحداث الفيلم الذي كتبه محفوظ وأخرجه شاهين حول توأم، أحدهما كاتب وروائي نافذ لدى السلطة، والآخر بحار حالم صعلوك. أدت «سعاد حسني» دور البطولة الأنثوية التي وقعت في الاختيار بين حب الكاتب وعشق البحار الذي أدى كلاهما «عزت العلايلي». صنع شاهين فيلمًا نفسيًا مركبًا بامتياز، استخدم الإضاءة الملونة والظلال لإبراز مشاعر شخصياته، كما استخدم حوارًا ذكيًا وجملاً قصيرة كعادته.
ظهر في الفيلم شخصية «بهية» التي استخدمها شاهين كثيرًا كإسقاط على الوطن، بهية التي يلجأ لها الجميع، ينسون همومهم ولا يخجلون من خطاياهم. أدت «هدى سلطان» دور بهية في هذا الفيلم وقدمها شاهين ومحفوظ كصاحبة منزل يجتمع فيه فنانو القاهرة وحالموها، منزل يسيطر عليه جو من الكوميديا السوداء وتنتشر فيه زجاجات البيرة، منزل يصلح للهرب من هزيمة تركت الجميع سكارى.
في نهاية الاختيار يصيح «محمود»، أو من نراه كذلك؛ «عارفين الواحد بيقابل مين في آخر الرحلة؟، بيقابل نفسه، ولما أقابل نفسي عايز أكون سكران». وتنكشف رؤية الفيلم تمامًا حينما ينطق سيد «أنا القانون، أنا النظام»، فيرد محمود الذي يحاول خنقه «إنت الكدب».
العصفور 1972: هنحارب!
مانشيتات متداخلة عن بدء معارك 1967 على جانب، ومطاردة لص خطير يسمى «أبو خضر» على جانب آخر، صوت جماعي يبدأ في إنشاد أغنية مألوفة للغاية على آذان المصريين.
هكذا تبدأ تترات العصفور، ويقال إن «العصفور» في كلمات «أحمد فؤاد نجم» التي لحنها وغناها «الشيخ إمام» قد تكون إشارة ليوسف شاهين نفسه في هذا الفيلم.
تدور أحداث «العصفور» التي ألفها «لطفي الخولي» برفقة شاهين، حول مطاردة «رؤوف» ضابط الشرطة لأبي خضر «اللص» الذي احترف سرقة مصانع القطاع العام في نفس توقيت معارك 1967، حيث يحارب أخاه في سيناء فيما يتجهز الشعب لنصر مضمون.
على جانب آخر يطارد «يوسف»، الصحفي قضية أبي خضر أيضًا ولكن ليس بهدف إلقاء القبض عليه، يرى يوسف أن أبا خضر ما هو إلا لص صغير ينفذ تعليمات مجموعة من اللصوص أصحاب المناصب والسلطة في أجهزة الدولة، هذه المجموعة التي أسماها «اللصوص الشرعيين».
يصور شاهين إذًا بما لا يدع مجالا للشك أن الهزيمة لم تكن لأسباب عسكرية على خط القتال وفقط، ولكنها أيضًا كانت نتيجة حتمية لفساد مستشرٍ في أجهزة النظام الحاكم، فساد يتشارك فيه قادة عسكريون، ولكن شاهين يتجاوز هنا مرحلة المواجهة لينتقل لمرحلة التحريض الشعبي على أن نملك مصيرنا بأيدينا.
لا يعلم كثيرون أن أغنية حرب أكتوبر الأشهر «رايحين شايلين في إيدنا سلاح» قد صنعت بالأساس كموسيقى تصويرية لفيلم «العصفور» قبل الحرب بأكثر من عام. كتبت «نبيلة قنديل» الكلمات ولحنها الموسيقار «علي إسماعيل» وعرضها شاهين على خلفية مشاهد القتال كتحريض مباشر على انتزاع الأرض.
تظهر «بهية» مرة أخرى في أحداث العصفور، حيث جسدتها «محسنة توفيق» هذه المرة تجسيدها الأفضل. وحينما تنتهى أحداث الفيلم عقب إعلان الهزيمة وخطاب تنحي ناصر تنتشر جموع المصريين في الشوارع وفي مقدمتهم بهية، لا تهتف بهية رفضًا لتنحي ناصر، على عكس ذلك تبدو مهتمةً أكثر بقوة الجموع التي استعادت شوارعها، هذه الجموع التي تقدر على انتزاع النصر لو آمنت بنفسها، تهتف بهية هنحارب هنحارب، وتتسرب كلمات نجم بصوت إمام مرة أخرى، و«رفاق مسيرة عسيرة وصورة حشد».
عودة الابن الضال 1976: نودع الماضي وحلمه الكبير.
هذه المرة تعاون شاهين مع ابن جيل يوليو/تموز الأبرز، «صلاح جاهين». جاهين الذي كتب كثيرًا في حب عبد الناصر ودولته. في عودة الابن الضال وحتى بعد نصر أكتوبر 1973 نرى شاهين وجاهين وهما يؤكدان على ضرورة نسيان أوهام الماضي، وعلى ضروة أن ينتزع الجيل الجديد حقه في اختيار مستقبله ومستقبل الوطن.
تدور الأحداث أيضًا في زمن 1967، ولكن هذه المرة في قرية تبدو كنموذج لمصر في وقت ناصر، حيث يمتلك «طلبة» الرجل العسكري السابق مقاليد السلطة في القرية، يكرر كلامًا عن ضرورة الإنتاج والبناء، ولا يتقبل أي معارضة ولا يتسع صدره لأي مزاح.
يعود «علي» شقيق طلبة عقب ضياع مبهم لحلمه القديم، «علي» ومقولته؛ «أحلى ما ف الحلق طعم المر من الذكرى» يمثلان جيل شاهين وجاهين، بكل الأحلام التي ضاعت وآلام ما بعد الهزيمة. «علي» مُتعب ومتردد، فاقد للقدرة على المبادرة أو التغيير. في المقابل يظهر «إبراهيم» و«تفيدة» بهتاف «الشارع لنا» كممثلان لجيل جديد من الشباب، شباب يحب الحياة ويحلم بلمس النجوم.
قدم شاهين نهاية سوداوية للغاية لجيله في هذا الفيلم، حيث يتقاتل «طلبة» و«علي» في نهاية الفيلم فيموت كلاهما، كما تموت الأم التي حاولت التشبث بالماضي طوال عمرها، وتموت «فاطمة» ابنة خالتهما التي تصارعا على حبها.
قام شاهين بقتل الماضي كله في هذا المشهد بكافة تعقيداته، في حين يغادر «علي» و«تفيده» القرية ويديران ظهرهما للماضي بكل ما فيه وتتسرب كلمات جاهين التي لحنها كمال الطويل.
انتهت هكذا ثلاثية شاهين بعد النكسة، ثلاثية قدم فيها مضمونًا ثوريًا أعتقد أنه الأقرب لقلوبنا، يضاف ذلك لصنعة عبقرية معتادة منه على مستوى الإخراج، ثلاثية مر من خلالها مخرجنا الكبير ومن عمق الأزمة بتحوله الأهم. ثلاثية لا زالت صالحة لنناقش من خلالها تساؤلاتنا ونرثي من خلالها شجوننا حتى اليوم.