ثناؤك على طفلك: هل يمكن أن يكون مضرا له؟
قامت الباحثة كارول دويك Carol Dweck وزملاؤها بتجربة على مجموعة من الأطفال يبلغون من العمر أربع سنوات، حيث طُلب منهم تركيب بازل. وكان لهم حرية الاختيار بين بازل يعرفونها وأخرى يرونها لأول مرة. فمالت مجموعة من الأطفال إلى الخيار الأول، بينما ذهبت المجموعة الأخرى إلى الخيار الثاني. فما السبب وراء اختيار كل من المجموعتين؟ (يمكنكم مشاهدة فيديو لتلك التجربة هنا)
يفسر تلك الخيارات دراسة أخرى أجرتها الباحثة نفسها اكتشفت فيها أن طريقة الثناء على الطفل تؤثر في طريقة تفكيره، حيث أوضحت أن هناك عقليتين: عقلية الثبات وعقلية النمو (Growth mindset vs Fixed mindset ). عقلية الثبات يعتقد أصحابها أن الذكاء والشخصية والإبداع أمور موروثة، لا يمكن اكتسابها أو تطويرها مهما بذلوا من مجهود، ولذلك يتجنبون التحديات التي تختبر قدراتهم. أما أصحاب عقلية النمو فيؤمن أصحابها أن القدرات يمكن تقويتها من خلال العمل الجاد، لأنهم يعتبرون تلك القدرات مثل المواد الخام التي بإمكانهم تشكيلها وتطويرها، وكنتيجة لذلك فإنهم يُقبلون على التحديات (يمكنك التعرف على المزيد عن هذا الموضوع من كتاب الباحثة كارول دويك Mindset: The New Psychology of Success، والذي حقق أعلى المبيعات على موقع أمازون الشهير)
هل يمكن أن يكون الثناء ضارا؟
فهل هذا يعني أن الثناء على الطفل يمكن أن يضر به؟ نعم، بعض الثناء يمكن أن يهز صورة الطفل أمام نفسه، وبعضه يعزز ثقته بنفسه ويقوي لديه روح المبادرة. ولعل السؤال المنطقي الآن: كيف نفرق بين الثناء الضار والثناء النافع؟
الثناء الضار يتضمن تقييمًا للطفل أو كلمات عامة مثل: عظيم، برافو، شاطر، إلخ، أو يلصق به صفات معينة مثل: إنت ذكي، أو أننا نكيل الثناء كيلًا سواء أتى الطفل ما يستحق عليه الثناء أم لا، فهو دارج على ألسنتنا لدرجة أننا ننطق به قبل أن نفكر أو بدون أن نكون منتبهين بشكل كامل لما قاله الطفل أو فعله.
مشكلة هذا النوع من الثناء أنه يجعل الطفل بحاجة لاستقبال المزيد منه حتى يطمئن على صورته، لدرجة أنه قد يعتبر عدم التعليق على فعل قام به إشارة إلى أنه سئ حتى وإن غاب النقد. كما أنه يدفعه إلى التركيز على أن يظهر بمظهر جيد عن أن يتعلم، مما يمنعه من خوض التحديات وأخذ المبادرة. بالإضافة إلى ما سبق، فإن الإكثار من المدح بداعٍ وبدون داعٍ قد يؤدي إلى غياب مصداقية من يقوم بالمدح لدى الطفل، ومن ثم إلى إنكار ورفض ما يقول سواء أعلن الطفل ذلك أم لا.
فكيف يكون الثناء نافعًا إذن؟
إن الهدف من الثناء أن نبني ثقة الطفل بنفسه بحيث تصبح نابعة من داخله لا معتمدة على تعليقات الآخرين. فأنت تستطيع أن تمحو كلمة «ولد شاطر» قلتها اليوم بكلمة «ولد وحش» تقولها في الغد، ولكنك لن تستطيع أن تنتزع منه أبدًا الوقت الذي أبهج فيه أمه بمساعدتها في المنزل أو الوقت الذي ضاق عن عمله وأنجزه رغم تعبه. هذه اللحظات التي أثبت فيها الطفل أفضل ما لديه، تصبح مدى حياته ملاذًا يأوي إليه في الأوقات التي ينتابه فيها الشك بنفسه.
والثناء النافع يقوم في جوهره على الاهتمام الحقيقي بالطفل وتقدير ما يقوم به، فهو ثناء منصب على الأفعال والتصرفات وليس على شخص الطفل أو صفاته. فالذكاء والعبقرية والمرح كلها أشياء غير ملموسة أو مرئية, والطفل أميل للثقة بالأمور التي يحسها ويراها كالإنجاز والنجاح وتجاوز العقبات.
ويمكننا أن نعبر عن هذا الاهتمام وذلك التقدير بعدة طرق:
1. صف ما فعله طفلك وشعورك تجاه ما فعل: قل مثلًا «أنا مبسوط إنك رتبت أوضتك، مفيش ولا لعبة على الأرض» أو «برافو، إنت رجعت كل اللعب والكتب مكانها، الأوضة بقت مرتبة. أنا مرتاحة وأنا قاعدة فيها». يمكنك أيضًا أن تضيف إلى الوصف كلمة أو كلمتين تلخصان سلوك الطفل الذي يستحق الثناء. إذا أكملنا على المثال السابق، يمكن أن نقول «ده اسمه نظام» أو «دي اسمها مسئولية». فمن فوائد الثناء عندما نقدمه بشكل سليم أنه يزيد من وعي الطفل بنفسه، بأن يساعده على معرفة نقاط قوته أو يؤكدها له.
2. كن محددًا، وأثنِ على المجهود المبذول، لا على النتيجة النهائية فقط. فإن أحرز هدفًا في لعبة أو حقق بطولة يمكننا أن نقول «إنت اتمرنت كتير عشان تحقق النتيجة المشرفة دي» أو «أنا شفت أد إيه إنت كنت مركز عشان تجيب الجون، إلخ»
3. كن صادقًا: فقد وجدت الأبحاث أن الأطفال، خاصة من تزيد أعمارهم على السبع سنوات، يشكون في المدح مثل البالغين، وأن الأطفال فوق الثانية عشرة يفحصون نواياك الكامنة وراء المدح، وأنهم يعتبرون مديح المعلم علامة على أن قدراتهم ضعيفة وبالتالي يحتاجون إلى مزيد من التشجيع، حتى أنهم يفضلون النقد! ففي النهاية، هم يعرفون إن كانوا قد أدوا بشكل جيد أم لا. هذا لا يدعونا إلى النقد أو التوقف عن الثناء، ولكن أثنِ على طفلك عندما يستحق الثناء فعلًا. أثنِ مثلًا على سلوك تريد أن تعززه لديه، أو على سلوك خارج عن المعتاد بالنسبة له. كما ينتظر الأبناء الثناء غالبًا في الأوقات التي لا يحلو لنا فيها أن نكيله لهم، مثلًا عندما يسكب وعاء دون قصد ثم ينظف مكانه.
4. يراعى أيضًا أن يكون الثناء مناسبًا لعمر الطفل: فإذا أثنيت مثلًا على مراهق لأنه يغسل أسنانه كل يوم، فقد يعبر ذلك استهزاءً به.
أمثلة تطبيقية على الثناء الفعال
1. اسأل واستمع: عندما يريك طفلك لوحة رسمها، لا تسارع بقول «جميل، برافو!»، ولكن اسأله أسئلة مثل: «رسمت إيه؟ ليه اخترت اللون ده بالذات؟ إلخ» اسأله واستمع إليه، فالاستماع يخبره أن كلامه يستحق الاهتمام. يمكنك كذلك أن تصف ما ترى «أنا شايفة إنك رسمت نخل وشجر، أو دواير دواير وخطوط خطوط إلخ» أو أن تثني على أشياء محددة «اختيارك للألوان عاجبني، إنت بترسم الوشوش حلو»
2. اطلب من طفلك تكرار شئ يجيده: مثل قراءة سورة، أو ترديد أغنية، أو حركة رياضية، إلخ. فهذا يتضمن إقرارًا ضمنيًا منك أنه يجيد هذاوأنك تفخر به. ولكن عند تطبيق هذه الوسيلة، يجب مراعاة شخصية الطفل، فهناك طفل قد يخجل من ذلك ولا يحب أن يكون محط الأنظار. فعلينا ألا نضغط عليه ونقول له مثلًا «إنت مكسوف ليه؟ متتكسفش، إنت مش شاطر، إنت مبتعرفش بقى إلخ» وأن ندافع عنه بلطف إن قيل له هذا الكلام، حتى لا يشعر بالنقص والعجز. ومن الأفضل عدم وضعه في ذلك الموقف، وذلك بأن تستأذنه أو تطلب منه هذا الطلب في الوقت المناسب عندما يكون قد ألف الناس والمكان وبدأ يتصرف بأريحية. يمكنك أن تشجعه أيضًا بأن تردد قبله أو معه.
3. لا تدرج له رسائل ضمنية في الثناء، فالطفل يمكنه استشفاف المقارنة الضمنية حتى ولو غلفتها بالثناء عليه. فلا تذكره مثلا بدرجاته المنخفضة وأنت تتحدث عن أناقة ثيابه وأنها أجمل من ثياب أخيه, فما سيصله فقط هو أنك ترى درجات أخيه أفضل من درجاته. يجب أن يكون هدف الثناء محددا وهو بناء ثقة الطفل بنفسه وبك، واطمئنانه إلى رأيك الداخلي فيه.
يبدو أن الثناء على سلوك جيد لا يأتي بتلقائية وسرعة وسهولة كما يأتي النقد، فالنقد يتبادر إلى ألسنتنا قبل الثناء، وعلينا كآباء أن نقوم بعكس ذلك. إن تقدير الطفل لذاته أهم من أن نتركه لمحض الصدفة أو أن ندعه للغرباء، خاصة أن العالم الخارجي لا يسارع إلى تقديم الثناء. فالأطفال الذين نشأوا في أسر تكرمهم وتقدرهم يشعرون بالرضا عن أنفسهم ويكونون أكثر قدرة على مواجهة التحديات وعلى بلوغ أهدافهم.
وكما رأينا أن الثناء يمكن أن يساهم في بناء ثقة طفلك بنفسه أو يحول دون ذلك. قد تشعر لبعض الوقت أنك خائف من أن تثني على سلوك طفلك فتخطئ، فتؤثر الصمت، أو أنك بحاجة إلى حفظ بعض الكلمات والجمل التي تقولها. لست بحاجة إلى ذلك، ولا هو مطلوبًا منك على الإطلاق. تكلم، وأخطئ، وصحح لنفسك. انظر إلى نقاط القوة في طفلك، اهتم به من قلبك، وخذ وقتًا للتعبير عن هذا الاهتمام، وسيصبح كل شئ على ما يرام.