قديمًا رفع البشر رءوسهم لسماء الليل، استخدموا نجومها لتحديد الوقت، ولاستشراف مواسم الحر والمطر، فربطوا الزراعة والحصاد وتبرعم الأزهار بالنجوم وحركاتها بالنسبة للشمس والقمر. ثم كان النهار حارًا على أهل الصحراء فسافروا ليلًا، ولمعرفة الاتجاهات استخدموا النجوم. لذلك كانت النجوم جزءًا من حياة البشر اليومية، جزءًا من محتواهم المجتمعي الدارج، ربطوها بأساطيرهم ودياناتهم وتأملوها أملاً في حياة سعيدة ومستقبل مسكون بالفرحة.

في الحقيقة لا يمكن لنا الآن تخيل كيف تكون سماء الليل جزءًا أساسيًا من حياة شخص ما، فنحن في مدننا المعاصرة مغرقين بالإنارة الطاغية، حتّى أن مواطنًا في مدينة كالقاهرة، قد يولد ويموت وهو لم ير في حياته إلا نجمة واحدة.

فمثلًا ربط سكان أوروبا وأمريكا الشمالية الأصليين حركة القمر بمواعيد الحصاد والبرد وتبرعم الزهور، واستخدموا ضوء البدر في الحصاد ليلًا أثناء حرارة الطقس نهارًا فسمي بدر الحصاد في سبتمبر. أما العرب فكانت لهم طريقة دقيقة في التعامل مع حركات القمر والشمس في السماء، إنها ما نسمّيه بـ «منازل القمر»، وهي ليست كأطوار القمر (المحاق، التربيع، البدر، والأحدب … الخ)، لكنها مرتبطة بحركة القمر اليومية في سماء الليل، ولفهم ذلك جيدًا دعنا نبدأ من نقطة الصفر.


قفزات القمر

النجوم بعيدة جدًا عنّا، أبعد من أن نلاحظ حركاتها أو المسافات التي تقع عندها، لذلك سوف تبدو لنا السماء، هنا والآن، مع بعض الاختلافات، كما بدت للبشر قبل آلاف السنين، ككرة ضخمة من القطيفة السوداء المطرزة من الداخل بالنجوم الثابتة. ونقع نحن، في المجموعة الشمسية، بمركز تلك الكرة تمامًا، وحركة الشمس والقمر بالنسبة لنا على الأرض تشبه حركة الممثلين على المسرح، فالديكور (النجوم) ثابت وما يتحرك هو فقط الأشخاص (المجموعة الشمسية).

نعرف أن القمر يدور حول الأرض مرة كل 28 يومًا تقريبًا. الآن دعنا نترك علم الفلك قليلًا ونصنع ساعة قمرية، لنتصور أنك الآن تقف على الأرض، والأرض هي مركز الساعة، والقمر هو عقرب الساعات الذي يقفز 28 مرة كل شهر، ثم يعود إلى النقطة الأولى التي بدأ منها وتستمر الدورة من جديد. وبما أن دورة كاملة هي 360 درجة، بالقسمة على 28 (أيّام الشهر القمري)، نتعلم أن كل قفزة للقمر تساوي 13 درجة تقريبًا، هذه القفزات هي ما نسميه بمنازل القمر، وهي تتكرر كل شهر. لكن هنا تساءل البعض قديمًا، كيف نضع في السماء علامات توضح مواضع تلك القفزات؟

منازل القمر, فلك, رصد فلكي, سماء الليل
منازل القمر, فلك, رصد فلكي, سماء الليل

في الساعة توجد الأرقام، ينتقل عقرب الساعات من 1 إلى 2 إلى 3 … الخ، حتّى يتم دورته بـ 12 قفزة. أما ساعة السماء ليلًا فالعقرب الخاص بها هو القمر، وعلاماتها التي يشير إليها هي تلك النجوم التي تقع في خلفية القمر (العقرب الدوّار)، والتي –كما قلنا منذ قليل– لا تتحرك. إذن يمكن لنا أن نحدد في سماء الليل 28 نجمًا أو مجموعة من النجوم يقف القمر بجانبها مرة كل شهر، ثم في اليوم التالي نجد أنه تحرك –كالعقرب الخاص بالساعة– إلى النقطة التي تليها فنعلّمها بالنجوم التي تقع في خلفياتها، وهكذا.

تلك إذن 28 منزلة للقمر، ونحن نعرف أن القمر يدور، كالكواكب والشمس، فيما نسميه بـ دائرة البروج Ecliptic، وهي منطقة كباقي مناطق السماء، لكن يميزها فقط أنها تمثل المستوى الذي تدور فيه أجرام المجموعة الشمسية بالنسبة لنا على الأرض، وتحتوي على 12 كوكبة تقريبًا، تتنقل الشمس بينها خلال السنة. وبما أن السنة تتكون من 12 شهرًا، فإن كل كوكبة منها، كديكور المسرح، تقع في خلفية الشمس (الممثل الذي يتحرك حول الأرض) مرة كل شهر.

الآن دعنا نُدخل الشمس لأرض الملعب، فالشمس، بالنسبة لنا، هي الأخرى، تبدو كأنها تدور في السماء وفي خلفيتها النجوم. وبما أن الشمس تدور في نفس المستوى مع القمر فإنها إذن تمر على المنازل القمرية الـ28، لكن القمر يمر عليها دورة كاملة كل شهر، أما الشمس فتفعل ذلك مرة كل سنة، مما يعني أنها تقضي حوالي 13 يومًا تقريبًا (قسمة 365 يومًا على 28 منزلة) بين منزلة وأخرى، مما يعني أن للشمس قفزات أيضًا كالقمر.

واستخدم العرب قديمًا تلك الفكرة في التعرف على أحوال الطقس التي تتغير يوما بعد يوم، بمعنى أن الشمس تقف عند منزلة تدعى الشرطان يوم 12 مايو/ آيار، وفي 12 مايو/ آيار يتكرر دائمًا أن تعتدل درجة حرارة الطقس، فيصبح ظهور تلك المجموعة من النجوم بجوار الشمس مؤشرًا على اعتدال الحرارة. لكن هنا قد تسأل: كيف نرى نجومًا تقع بجانب الشمس؟

هنا تكون الإجابة، أنها لا تقف بالضبط بجانب الشمس، لكنها فقط تُرى بالعين المجردة فجرًا في الأفق الشرقي قبيل شروق الشمس.


أطلس المنازل القمرية

دعنا الآن* نبدأ في التعرف على تلك المنازل القمرية[1]، التي تمثل إشارات مرورية سماوية تعبر عن المواضع الخاصة بالقمر. لكن يجب أن نوضح أن الهدف من الجزء التالي هو فقط الخروج بأطلس مبسط ثري يمكن لك استخدامه للتعرف على منازل القمر كافة من وجهة نظر هاوي فلك، سواء كان القمر بجانبها أم لا، كنوع من التحدي الفلكي اللذيذ، كأن تتتبع مجموعة الكوكبات أو أن تتتبع أجرام مسييه. وتتبع منازل القمر هو مهمة ممتعة مهما تكررت.

فكرة الخرائط بسيطة، سوف ندور على خط دائرة البروج للخلف بداية من الحمل ثم العودة إليه، باللون الأصفر سوف نحدد المنزلة، بالأحمر نعلّم نجومها أو بعض نجومها حينما نحتاج لذلك، بالبرتقالي نكتب اسم الكوكبة، وسوف نبدأ من منطقة سماوية نعرفها جيدًا، أنها منطقة الثور.

منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل
منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل

تبدأ المنازل بالشرطان، وهي –بشكل مقرب– مجموعة نجوم كوكبة الحمل، وبالتحديد هما نجمان تم تعليمهما في الخريطة بالأحمر. تليها إلى اليسار منزلة البُطين، وتتكون من ثلاثة نجوم خافتة وألمعها سمي كذلك «بُطين – Botein»، تحتاج لبعض التركيز من أجل تلك المنزلة. يليهما منزلتان من السهل التعرف إليهما في سماء الليل، إنهما الثريا والدبران. وتلك المجموعة الأولى هي بالنسبة للراصد المبتدئ هدف سهل، عدا نجوم منزلة البُطين والتي تحتاج لبعض التركيز من أجل استخراج نجومها الثلاثة الخافتة، كذلك أنصح باستخدام برنامج Stellarium، وهو ما اعتمدت عليه، للتعرف إلى تلك المنازل.

منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل
منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل

الآن دعنا نتحول ناحية الجبار، ومنزلتنا الخامسة هنا هي الهقعة، وهي مجموعة من ثلاثة نجوم خافتة تراها بسهولة في ليلة حالكة، تمثل رأس الجبار، تجدها بين نجمي ابط الجوزاء والمرزم Bellatrix. أما الهنعة، التي تليها، فهي مجموعة نجوم تجدها بسهولة عند أقدام التوأم، نجمتين، وسمي ألمعها بـ«الهنعة – Alhena». يليها منزلة الذراع، وتتمثل في رأسي التوأمين بالأساس، ثم النثرة، والتي تحتوي على التجمع النجمي المفتوح M 44، يسمى «القفير – Beehive»، مع نجمتين للأعلى والأسفل.

منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل
منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل

بعد ذلك سوف نربط بين النجم k من السرطان، تجده بسهولة بجانب نجم «الزباني – Acubens»، ثم إلى نجم «الطرفة – Altref» من كوكبة الأسد، لنحصل على منزلة الطرفة أو الطرف. تليها منزلة الجبهة، وتمثل أربعة نجوم متعرجة تتضمن «قلب الأسد – Regulus» ونجم الجبهة. ننتقل بعد ذلك إلى منزلة الزبرة وتمثل نجما كاهل الأسد. وأخيرًا نجم «الذنب – Denebola» من نفس الكوكبة يمثل منزلة الصرفة، مما يعني أن للأسد وحده أربع منازل. هنا يجب توضيح أن الفكرة هنا ليست في القياس الدقيق للمسافات بين النجوم، ولكن لأقرب النجوم التي عرفها العرب أثناء تسميتها.

منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل
منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل

من الأسد ننتقل إلى كوكبة العذراء، وهنا يجب أن نتوقف قليلًا، فتلك المنزلة تسمّى العوّاء، لكن لا علاقة لها بكوكبة العوّاء Bootes، الأمر له علاقة بالتسمية فقط، وهي تتكون من أربعة نجوم مقوسّة كما ترى. ننطلق بعد ذلك إلى منزلة السِماك، ويمثلها النجم اللامع والأشهر في كوكبة العذراء السماك الأعزل Spica، والسماك لا تعني السمك ولكن تعني الارتفاع في السماء. ثم في النهاية إلى منزلة العفر، وتمثلها ثلاثة نجوم خافتة في آخر الكوكبة، مع بعض التأمل والتركيز يمكن أن تصطادها بسهوله. وأخيرًا نصل إلى منزلة الزباني، وهي مكونة من نجمي الميزان اللامعين، لذلك من السهل أن تمسك بها، حتّى في أضواء المدينة.

منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل
منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل

الآن ندخل إلى مجموعة سهلة من المنازل القمرية، يمكن لك بسهولة التقاطها جميعًا في سماء عادية، تبدأ بالإكليل، النجوم الثلاثة الظاهرة التي تمثل مخالب العقرب، ثم القلب، نجم «قلب العقرب – Antares» الشهير، ثم الشولة، وهما نجمان في ذيل العقرب، قريبان يمكن تميزهما بسهولة، «الشولة – Shaula»، و«اللسعة – Lesath»، وأخيرًا مجموعة النجوم المميزة لكوكبة القوس، منزلة النعايم/النعائم، إنها ثمانية نجوم تصنع المجمة asterism الشهيرة برّاد الشاي Teapot، ثم أخيرًا ننتقل إلى منزلة البلدة، وهي المنزلة الوحيدة التي لا تحتوي، حسب كثير من المصادر التاريخية، على نجوم، منزلة فارغة.

منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل
منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل

ومن أسهل المنازل القمرية ننطلق إلى أصعبها على الإطلاق، إنها مجموعة السعود الأربعة الشهيرة والتي تبدأ من سعد الذابح (نجمتان)، ثم بلع (2 نجمة)، ثم السعود (3 نجوم)، وأخيرًا الأخبية (4 نجوم)، وقمت بترقيم نجوم كل منزله منها باللون الأحمر حتّى يتسنّى لك البحث عنها في السماء وعبر برنامج Stellarium أو أي تطبيق فلكي تريده، وجميعها نجوم خافتة تحتاج بذل بعض الجهد خاصة أنها قريبة، كذلك فإن مراقبتها عبر نظارة معظمة سوف تكون ممتعة للغاية.

ثم أخيرًا ننهي جولتنا السماوية بثلاثة منازل قمرية على درجة من السهولة، وذلك لأنها ترتبط بواحدة من أوضح الكوكبات (نسبيًا مقارنة بمحيطها)، إنها كوكبة الفرس الأعظم، في إشارة إلى ما يقع أسفلها من كوكبات دائرة البروج، وهي كوكبة الحوت Pisces. وجانبي المربع الخريفي الشهير هما منزلتا الفرع الأول والثاني، وكلاهما مكون من نجمين، أما المنزلة الأخيرة فهي بطن الحوت، أو الرشاء، يمثلها نجم واحد، ثاني ألمع نجوم كوكبة المرأة المسلسلة.


متى تظهر تلك المنازل في الأفق عند الفجر؟

منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل
منازل القمر، فلك، رصد فلكي، سماء الليل

يمكن لك كذلك انتظار تلك المنازل أثناء ظهورها فجرًا، وهي دائمًا ستكون ذات علاقة باقتراب الحر أو البرد، فمنازل القمر هي خبير طقس مميز. فمثلًا ظهور الشرطان يعني اعتدال الجو، في مايو/ آيار، لكن ترتفع درجات الحرارة شيئًا فشيئًا حتى نصل إلى منزلة الدبران التي ربطها القدماء بالحر والعطش، أما ظهور منزلة القلب فجرًا فيعني أن البرد الشديد قد دخل، ومع السعود يبدأ الدفئ من جديد ويختفي الصقيع، يمكن لك كذلك الاستفادة بالمصادر المرفقة[2]بشكلٍ أكبر في تلك النقطة، ومواعيد ظهور المنازل في الافق عند الفجر[3]هي:

الشرطان (18 مايو/ آيار)، البطين (29 مايو/ آيار)، الثريا ( 7 يونيو/ حزيران)، الدبران (23 يونيو/ حزيران)، الهقعة (9 يوليو/ تموز)، الهنعة (21 يوليو/ تموز)، الذراع (30 يوليو/ تموز)، النثرة (17 أغسطس/ آب)، الطرف (27 أغسطس/ آب)، الجبهة (9 سبتمبر/ أيلول)، الزبرة (22 سبتمبر/ أيلول)، الصرفة ( 1 أكتوبر/ تشرين الأول)، العواء (20 أكتوبر/ تشرين الأول)، السماك (2 نوفمبر/ تشرين الثاني)، العفر (12 نوفمبر/ تشرين الثاني)، الزباني (25 نوفمبر/ تشرين الثاني)، الإكليل (12 ديسمبر/ كانون الأول)، القلب (20 ديسمبر/ كانون الأول)، الشولة (10 يناير/ كانون الثاني)، النعائم (23 يناير/ كانون الثاني)، البلدة (30 يناير/ كانون الثاني)، سعد الذابح ( 8 فبراير/ شباط)، سعد بلع (15 فبراير/ شباط)، سعد السعود (1 مارس/ آذار)، سعد الأخبية (14 مارس/ آذار)، الفرع الاول (24 مارس/ آذار)، الفرع الثاني (5 إبريل/ نيسان)، بطن الحوت (17 إبريل/ نيسان).

لكي تكتمل الصورة لديك بشكل أفضل، وتستطيع بسهولة تحديد المنازل القمرية عبر كوكباتها، يمكن لك الاستعانة بمقالين سابقين للكاتب، يعرضان خرائط إضافية لعدة مواقع في سماء الليل، يمكن استخدامها كدليل للتعرف على باقي أجزاء السماء وكوكباتها، كما يعرض أحدهما صورة كاملة لدائرة البروج (التي تحتوي على المنازل القمرية كلها)، بحيث يسهل عليك ذلك أن تتعرف إلى الخرائط السبع التي تعلمناها اليوم.

اقرأ أيضا:منارات السماء: خرائط سماوية للمبتدئين في علم الفلك / الصورة الكاملة: خرائط سماوية للمبتدئين في علم الفلك

تضرب الشهب أعالي الغلاف الجوي بأعداد مجنونة فننتظرها في ديسمبر وأغسطس كأطفال يبحثون عن الحلوى في العيد، يمر مذنب ذو قدر ظاهري مناسب فنتخطفه بأعيننا، يترافق القمر مع نجمة عزباء تبلغ درجة حرارة سطحها العشرين ألف مئوية فنتأملها بشغف، تعرض سماء الليل دائمًا مجالاً واسعًا من الظواهر التي تمثل عرضًا سنيمائيًا لا يتسبب في الملل أبدًا، لكنها، إلى جانب امتاعنا، تدفعنا لإعادة تأمل كل شيء تقريبًا، بداية إشعارنا بتفاهة الحياة المسكونة بالتقارير والشيكات ومشادات الناس في الميكروباص، مرورًا بإدراكنا لما يعنيه العلم، وصولًا إلى سؤال آخر مهم: من نحن؟

المراجع
  1. منازل القمر والأنواء عند العرب – محمد شوكت عودة
  2. كتاب الأنواء ومنازل القمر – سالم بن بشير
  3. تأثير حركة الترنح على البروج ومنازل القمر والأنواء والتحقيق العلمي لما ذكره العرب في مواعيدها – محمد شوكت عودة