دليلك إلى عالم الروبوتات البشرية: هل أصبح الخيال حقيقة؟
قاعة مُرتبة تمتلئ بالكاميرات، والميكروفونات. يجلس الصحفيون على مقاعدهم بينما تصطف مجموعة من الروبوتات البشرية على المنصة. يسأل المراسل: هل يمكن للبشر أن يثقوا بالروبوتات؟ يجيب أحدهم: الثقة تُكتسب لا تُمنح، من المهم بناء الثقة من خلال الشفافية.
يبدو المشهد السابق كمقطع من أحد أفلام الخيال العلمي التي ألهمت عقولنا لسنوات عديدة، لكنه في حقيقة الأمر كان جزءًا من وقائع مؤتمر «الذكاء الاصطناعي من أجل الخير» الذي عقده منتدى الذكاء الاصطناعي في جنيف في يوليو/تموز الماضي، وحضره تسعة روبوتات شبيهة بالبشر.
تشير تلك الأحداث إلى واقع جديد، يثير الإبهار والخوف في آن واحد، ويتداخل فيه العلم مع الفلسفة. ولا شك في حاجتنا العاجلة إلى دراسة ذلك الواقع، واستيعاب تفاصيله. ماذا نعرف عن الروبوتات البشرية؟ وكيف تطورت صناعة أشباه الإنسان حتى وصلنا إلى اللحظات السحرية الحالية؟
الروبوتات البشرية: التعريف والهدف
الروبوتات البشرية هي روبوتات صُممت لتكون شبيهة بالبشر من الناحيتين: الجمالية والوظيفية. حيث تملك تلك الروبوتات هيكلًا خارجيًا يماثل الإنسان، كما أنها قادرة على التفاعل مع البيئات البشرية من خلال التحدث والحركة، وتقديم المساعدة والدعم. إضافة إلى إمكانية استغلالها في الأغراض التجريبية.
ينمو سوق الروبوتات البشرية بشكل سريع؛ فمن المتوقع أن تبلغ قيمته نحو 3.9 مليار دولار في عام 2023. ويأمل المطورون أن تساهم الروبوتات في إتمام بعض المهام مثل التفاعل مع العملاء في الأنشطة التجارية، ورعاية المسنين والمرضى. إضافة إلى العمليات الخطيرة مثل التفتيش والصيانة في محطات توليد الطاقة.
رحلة البحث عن الروبوت الكامل
ظهرت الآلات الشبيهة بالبشر في الأعمال الفنية والأدبية قبل أن تنتقل إلى دائرة العلوم، وارتبطت دائمًا بالقدرة على إنجاز العمل الشاق. ففي عام 1920، قدم الكاتب التشيكي «كارل تشابيك» مصطلح «الروبوت» للمرة الأولى، وهو لفظ مشتق من كلمة Robota، التي ترمز في اللغة التشيكية إلى السخرة أو العمل الإجباري. أدى ذلك إلى انطلاق سباق محتدم، يمكن تحديد مراحله الأساسية في ما يلي:
1. المرحلة المبكرة:
قادت اليابان المحاولات الأولى لإنتاج الروبوتات البشرية. وعلى الرغم من عدم إيمان كثيرين بالفكرة، قدمت جامعة واسيدا في طوكيو عام 1970، أول إنسان آلي يتم التحكم فيه رقميًا تحت اسم WABOT-1. كان الروبوت مزودًا بأجهزة استشعار للممشى والإمساك، كما كان قادرًا على التواصل باللغة اليابانية. مما جعله يمثل الانطلاقة الحقيقية لأبحاث الروبوتات التي احتكرها اليابانيون حتى مطلع القرن العشرين.
عكف المهندسون في جامعة واسيدا على تطوير إنتاجهم الأول، فخرجت نسخ مختلفة من الروبوت مثل WL وWABIAN. وفي عام 1986 أطلقت شركة هوندا للبحث والتطوير التقني مشروعًا سريًا لتطوير الروبوتات البشرية، لتقدم بعد عشرة أعوام الروبوت P2 الذي كان ظهوره المفاجئ صدمة للمراقبين. لكنه على الجانب الآخر شكل دافعًا لمزيد من البحث في ذلك المجال الثري.
2. المرحلة الوسيطة:
بدأ فصل جديد في تاريخ الروبوتات البشرية بعد إطلاق اليابان لمشروع بحثي وطني بالتعاون مع شركة هوندا، نتج عنه الروبوت ASIMO، وهو اسم مختصر يعنى «خطوة متقدمة في النقل الإبداعي». أطلق الروبوت لأول مرة عام 2000، وحظي بشهرة واسعة امتدت إلى ما يزيد عن عشرين عاماً، بسبب مظهره الخارجي اللطيف الذي جاء على هيئة رجل فضاء، وقدرته على الجري وتقليد الحركات البشرية بسلاسة كبيرة.
شهدت تلك المرحلة العديد من الأبحاث التي اتسع نطاقها لتشمل جامعات ومعاهد مختلفة حول العالم، وخرجت نماذج مختلفة من الروبوتات التي تنوعت في إمكانياتها وقدراتها. وفي الوقت نفسه جرت محاولات لتطوير الروبوتات النصفية ذات العجلات، حيث تم استخدامها في بحث التفاعل بين الآلة والسلوكيات البشرية، وأجريت عليها التجارب في بيئات مختلفة مثل مراكز التسوق والمتاحف والمدارس.
3. المرحلة المعاصرة:
على مدار سنوات عديدة، سعى المهندسون إلى الوصول للروبوت الكامل الذي تصل درجة تماثله مع البشر إلى حد يصعب معه التفريق بين الإنسان والآلة. ورغم صعوبة المهمة، ظل البحث قائمًا إلى أن حدثت طفرة هائلة في تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الأخيرة، ودخلت معها الروبوتات البشرية مرحلة مختلفة، ظهرت فيها الآلات بوجوه آدمية وارتدى بعضها الملابس.
تعد الروبوت «صوفيا» أشهر وجوه الجيل الجديد من الروبوتات البشرية. ظهر الروبوت عام 2016 بواسطة شركة هانسون روبوتكس، وحمل ملامح أنثوية، وشكلًا بدائيًا من الوعي. تستطيع «صوفيا» التعرف على الوجوه البشرية، والتفاعل مع التعبيرات العاطفية. إضافة إلى قدرتها على الحركة والتعبير الجسدي. لتشكل بذلك عصرًا جديدًا تختلط فيه الفنون بالعلوم والهندسة.
نسخة مطابقة: كيف تعمل الروبوتات البشرية؟
بشكل مبسط، تبدو الروبوتات البشرية مثل انعكاس لجسم الإنسان. فلكل مكون بشري داخلي ما يناظره في أجساد الروبوتات. يمكن توضيح ذلك عبر الشكل التالي:
تحتوي الروبوتات على عشرات الأجزاء المتحركة المصنوعة من المعدن أو البلاستيك. ويتحكم كمبيوتر الروبوت في تدوير تلك العجلات والأجزاء المفصلية من خلال طرق مختلفة. تستخدم بعض الروبوتات محركات كهربية وملفات لولبية، بينما يعتمد البعض الآخر على النظام الهيدروليكي مما يستلزم وجود مضخة لضغط السوائل.
توظف الروبوتات الهوائية ضاغط هواء أو خزانات هواء مضغوط. وتستخدم روبوتات أخرى مزيجًا من أنواع المحركات التي تحتاج جميعها إلى مصدر طاقة، قد يظهر في هيئة البطاريات أو خلايا الوقود والطاقة الشمسية، في حين يتم توصيل بعض الروبوتات بالحائط.
يمكن إعادة برمجة الروبوت من أجل تغيير سلوكه. وتساعد المستشعرات الدقيقة على ربطه بالعالم الخارجي. تستخدم بعض الروبوتات المتنقلة الأشعة تحت الحمراء أو الموجات فوق الصوتية لرؤية العوائق وتحديد المواقع. حيث يرسل الروبوت إشارة صوتية أو شعاعًا، ويحدد المسافات بناءً على المدة التي استغرقتها الإشارة للارتداد.
تعتمد الروبوتات في ذلك أيضًا على تحليل البيانات غير المألوفة والتكيف معها، إضافة إلى معدات الكشف عن الضوء، وأجهزة الميكروفون، والكاميرات البانورامية التي توفر رؤية مجسمة للواقع المحيط. كما يمنحها برنامج التعرف على الصور قدرة على تحديد الكائنات المختلفة وتصنيفها.
تستفيد الروبوتات البشرية الحديثة من آليات الذكاء الاصطناعي التي تتحد معًا لتكوين نظام قادر على حل المشكلات بشكل منفرد. يشير تعريف الذكاء الاصطناعي إلى فئة من التقنيات تهدف إلى الوصول لمستويات من الفهم الطبيعي عبر بناء خوارزميات تستند إلى مجموعة ضخمة من البيانات، ويتحسن أداؤها من خلال التفاعل مع السلوك البشري، بما يعرف بـ «التعلم الآلي».
ساعدت تلك التقنيات على إكساب الآلات مرونة ذهنية وجسدية، ويمكن توضيح أهم تطبيقاتها في صناعة الروبوتات على النحو الآتي:
1. الرؤية الحاسوبية: تعد رؤية الكمبيوتر إحدى أشهر تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتلعب دورًا مهمًا في تطوير الروبوتات البشرية. حيث تساعد على استخراج المعلومات من الصور والمدخلات المرئية، واتخاذ الإجراءات المناسبة وفقًا لذلك.
2. معالجة اللغة الطبيعية NLP: تستخدم تلك الآلية في تأهيل الروبوتات لفهم اللغات البشرية، وتعلم اللهجات، والتنبؤ بكيفية تحدث البشر.
3. حوسبة الحافة: تعمل الحوسبة المتطورة على إدارة البيانات بشكل أفضل، وتتيح للروبوتات التصرف بمعدل أسرع مما تسمح به القدرات البشرية.
4. معالجة الأحداث المعقدة CEP: تستخدم تلك العملية على نطاق واسع في العديد من الصناعات مثل الأمن والتمويل والرعاية الصحية. وتساعد في برمجة الروبوتات البشرية على معالجة أحداث متعددة وصولًا إلى اتخاذ القرار المناسب.
5. نقل التعلم: هي تقنية تعتمد على حل مشكلة بمساعدة مشكلة أخرى تم حلها بالفعل. وفيها يتم تدريب آلة واحدة بمساعدة الآلات الأخرى، مما يساهم في توفير الوقت، وخفض التكلفة.
6. تعزيز التعلم: يرمز مصطلح التعلم المعزز إلى طريقة تعلم قائمة على التغذية الراجعة. وفق هذا المفهوم تقوم الروبوتات باستكشاف البيئة والتعلم تلقائيًا من خلال التجربة، مما يساعدها على فهم ومحاكاة السلوكيات المعقدة التي تصعب هندستها.
7. الحوسبة العاطفية: هي مجال دراسة يهتم بتطوير الأنظمة التي يمكنها تفسير ومحاكاة العواطف البشرية. يهدف الباحثون في هذا المجال إلى تزويد الآلات بذكاء عاطفي، على أمل الوصول إلى روبوت يتمتع بقدرات شبيهة بقدرات البشر في التعبير عن المشاعر.
8. الواقع المختلط: يشير ذلك المصطلح إلى عملية دمج الواقع الافتراضي مع العالم الحقيقي. ويمكن استخدام تطبيقاته في توجيه وتدريب الروبوتات البشرية على أداء مهام معينة، إضافة إلى تحسين التصميم الداخلي والخارجي للروبوت.
أشهر الروبوتات البشرية
يمكن توضيح أهم الروبوتات البشرية على الساحة العالمية بما يلي:
1. صوفيا:
اكتسبت الروبوت «صوفيا» أهمية كبيرة، بوصفها أول الروبوتات الذكية خروجًا إلى العلن. وهي تعتبر مزيجًا من الذكاء الاصطناعي والمدخلات البشرية. حيث تعمل أحيانًا من خلال التشغيل المستقل للذكاء الاصطناعي. وفي أحيان أخرى، يختلط ذلك النظام بالكلمات الطبيعية.
استخدم المطورون الروبوت كجزء من مشروع Loving AI الذي يسعى إلى فهم تفاعلات الإنسان الآلي، ومدى تكيفه مع احتياجات المستخدمين من خلال التطوير الداخلي والشخصي. ويشرف عليها حاليًا فريق من الأوصياء الذين يطمحون إلى وصولها إلى درجة أكبر من الاستقلالية.
في اللغة اليونانية القديمة، تعني كلمة “صوفيا” الحكمة. وتُعرف الروبوت نفسها بأنها جاءت لمساعدة البشر في بعض المجالات مثل الطب والتعليم، وخدمة أبحاث الذكاء الاصطناعي بهدف جعل العالم مكانًا أفضل.
حصلت «صوفيا» على الجنسية السعودية في أكتوبر 2017 لتصبح أول مواطن روبوت في العالم. كما شغلت منصب سفيرة الروبوتات المبتكرة لدى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إضافة إلى حضورها العديد من المؤتمرات حول العالم، وظهورها في البرامج التلفزيونية مثل برنامج Tonight Show وGood Morning Britain.
2. أميكا:
يمكن تصنيف الروبوت «أميكا» كأكثر الروبوتات البشرية تطورًا في الوقت الحالي. فعلى الرغم من عدم قدرتها على المشي حتى الآن، فإنها تملك عددًا هائلًا من تعبيرات الوجه التي تتوافق مع حركة الرأس والذراعين في تناغم دقيق، تشعر معه أنك أمام إنسان حقيقي.
يُحاكي الروبوت العديد من القدرات البشرية مثل التحدث بلغات مختلفة والرسم اعتمادًا على تطبيقات الذكاء الاصطناعي OpenAI GPT3 وOpenAI GPT3.5 وOpenAI GPT4 وChat GPT. وكانت «أميكا» قد حظيت مؤخرًا باهتمام إعلامي بعد أن ظهرت في مقطع فيديو، وهي توبخ أحد المطورين بعد أن أبدى رأيًا سلبيًا في رسومها.
أطلقت شركة ENGINEERED ARTS الروبوت عام 2021، ويرى المهندسون أن لها استخدامات متعددة في مجالات الرعاية الصحية والتفاعل الاجتماعي، حيث يمكن توظيفها في بناء ثقة المرضى، وفهم ملاحظاتهم. إلى جانب الحفاظ على سرية البيانات، والتواصل غير اللفظي، والمشاركة الفعالة داخل المجموعات.
اعتبارًا من العام الحالي بدأت الشركة في إنتاج كميات محدودة من الروبوت، وإتاحتها أمام معامل الأبحاث، وبعض الأنشطة التجارية مع التأكيد على عدم تحول «أميكا» إلى منتج استهلاكي بشكل كامل حتى الآن.
3. Ai-DA:
ظهرت Ai-DA في فبراير/شباط 2019. وهي أول روبوت فنان في العالم، حيث تمنحها خوارزميات الذكاء الاصطناعي قدرة مبهرة على الرسم. أقامت الروبوت أول معرض فني لها في جامعة أكسفورد تحت عنوان «مستقبل غير آمن»، وسافرت بعدها لعرض لوحاتها في العديد من دول العالم.
أطلقت الأمم المتحدة معرضًا افتراضيًا من أجل الترويج لأعمال Ai-DA التي تحدثت عن التأثيرات المزعجة للتكنولوجيا أمام اتحاد أوكسفورد، ومجلس اللوردات، وحظيت بمساحة لنشر أعمالها في متحف التصميم عام 2021، إضافة إلى معرض منفرد في مدينة البندقية عام 2022.
خرجت الروبوت إلى النور بواسطة صانع المعارض إيدين ميلر بالتعاون مع شركة ENGINEERED ARTS، وعمل الباحثون في جامعة أوكسفورد على تصميم خوارزمياتها، كما اهتم طلاب كلية الهندسة الإلكترونية في جامعة ليدز بتطوير ذراعها ليصبح قادرًا على الرسم.
أثارت القدرات الفنية لـ Ai-DA الجدل حول طبيعة الإبداع الفني الذي يتمسك البعض بضرورة أن يكون بشريًا خالصًا. في حين يرى علماء الروبوتات أن معايير الإبداع تقتصر على أن تكون الأعمال الفنية جديدة ومدهشة وذات قيمة ثقافية، وأن الفن لم يعد مقيدًا بالفاعلية البشرية في عصر الذكاء الاصطناعي.
4. نادين:
أطلقت شركة Kokoro اليابانية الروبوت «نادين» عام 2013، وهو روبوت اجتماعي يحمل الهيئة الخارجية لمهندسة الروبوتات Nadia Thalmann التي قامت بتصميمها. تملك الروبوت القدرة على التفاعل مع البشر بشكل إيجابي، والتكيف مع بيئات عمل مختلفة من خلال توظيف لغات متعددة، وإيماءات متنوعة.
ظهرت «نادين» أمام أكثر من 100 ألف زائر في سنغافورة خلال معرض Human+.The future of our species الذي أقيم عام 2017. وعملت كوكيل لخدمة العملاء في شركة التأمين AIA خلال عامي 2018 و2019، حيث تم تدريبها على التعامل مع الأسئلة الشائعة عبر نظام قائم على التعلم الآلي.
تستطيع الروبوت الانخراط في المحادثات المتدفقة وإرسال رسائل البريد الإلكتروني وإجراء مكالمات الفيديو. ويمكنها المساعدة في رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال قراءة القصص وعرض الصور. كما يطمح المطورون أن تلعب دورًا في مكاتب الاستقبال ومجالات التدريب.
في أواخر عام 2021 أجرى الباحثون تجربة استمرت لمدة ستة أشهر، قامت فيها «نادين» بمرافقة مجموعة من كبار السن في سنغافورة، وعملت على تلبية مطالبهم. عكف المهندسون خلال تلك المدة على دراسة تفاعل الروبوتات البشرية مع مرضى الخرف الخفيف.
أخلاقيات الروبوتات البشرية: جدل فلسفي
وفق رؤية بعض الباحثين، تقع اللحظات الحالية في تاريخ الروبوتات ضمن «مستوى الاستعداد التكنولوجي الأخلاقي». وهي النقطة التي يصبح فيها السؤال عن العواقب السلبية مهمًا، ويمكن طرحه ومعالجته بطريقة ملموسة. تندرج التساؤلات الشائعة تحت تساؤل أكبر يتعلق بماهية الإنسان، وذلك بعد أن سار التطور التقني في طريق إزالة الخطوط الفاصلة بين البشر والآلات.
هل يمكننا إكساب الروبوتات البشرية قيمًا أخلاقية؟ يظهر السؤال دائمًا ضمن محاور التناول الفلسفي لقضية الروبوتات. وتنطلق فرضيته الأساسية من معضلة الترولي الشهيرة، حيث يمضي القطار مُسرعًا على قضيب يحمل خمسة أشخاص مربوطين، ولا سبيل لتفاديهم إلا بالانحراف نحو قضيب آخر يحمل شخصًا واحدًا تم تقييده.
استُخدمت المعضلة في التدليل على الأزمة التي ستواجه البشر في المستقبل، بعد أن اكتسبت الروبوتات وعيًا، مما سيتطلب تحديد بوصلتها الأخلاقية. كيف ستتصرف الآلات في مثل هذه المواقف الخلافية؟ ما نوع الأخلاق التي يجب أن نبرمجها عليها؟ ومن سيتحمل المسؤولية في حال انحرافها عن مسارها؟
يرى الفلاسفة أن تطور علم الروبوتات سيدفعنا إلى محاولة الإجابة على الأسئلة المؤجلة رغم استحالة المهمة. فلا يمكن الجزم بأن خوارزميات الذكاء الاصطناعي ستتصرف بشكل رشيد. وفي الوقت نفسه لا يمكن للبشر الاتفاق على معايير أخلاقية ثابتة لتزويد تلك الخوارزميات بها، فالأفراد مختلفون في تعريفهم للحق والمساواة والعدل، وغيرها من القيم.
أشار الروائي «إسحاق أسيموف» إلى هذه القضية عام 1942 حين وضع ثلاثة قوانين من وحي الخيال العلمي، لمعالجة القلق الناتج عن تطور صناعة الروبوتات البشرية. تمثلت القوانين في:
- لا يجوز لآلي إيذاء بشري أو التغاضي عما قد يسبب له الأذى.
- يجب على الآلي إطاعة الأوامر الصادرة عن البشر إلا في الحالات التي تتعارض مع القانون الأول.
- يجب على الآلي المحافظة على بقائه وسلامته من الأعطال، طالما لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني.
بدت قوانين أسيموف فضفاضة إلى درجة كبيرة، ولا تغطي التفاصيل الحياتية. جادل بعض المفكرين بأنه يمكن اعتبار تلك القواعد، وما يماثلها من القيم العامة مدخلًا للبرمجة الأخلاقية، حيث تتم برمجة الروبوتات على مبادئ معينة مثل تعزيز السعادة، وتجنب المعاناة. ثم تبدأ الآلة رحلتها عبر «التعلم الآلي» في تطبيق هذه المبادئ، والاستفادة من التجارب المختلفة.
وعلى الرغم من وسطية المقترح، فإنه يحمل مشكلات تتعلق بتقنية التعلم الآلي نفسها، إذ يمكن أن يؤدي احتكاك الروبوتات بالبشر إلى تعلم دروس خاطئة، ولا ضامن على عدم قيام الخوارزميات بالتقاط الرذائل الإنسانية، وإعادة إنتاجها. تظهر المعضلة في صورة العلاقة بين نقيضين، حيث تقف الغريزة البشرية التلقائية في مواجهة الإرادة المصنوعة.
في تقرير سابق لشبكة BBC، تساءلت مهندسة البرمجيات البريطانية «إيمى ريمر»: هل يجب علينا حل معضلة الترولي قبل الحصول على رخصة قيادة؟ الإجابة هي «لا». إذًا، فلماذا نحاول التخطيط لسيناريوهات نادرة قبل الاستفادة من السيارات ذاتية القيادة، وما توفره من مميزات مثل الحد من الزحام وتقليل الانبعاثات؟
يبدو السؤال كوسيلة سحرية للخروج من المأزق. الروبوتات البشرية مفيدة، ولها العديد من التطبيقات التي ستساهم في الارتقاء بحياة الإنسان. فلنسمح لهم بالوجود قبل مناقشة سلوكهم المتوقع في ظروف محددة. ورغم فاعلية هذا الحل، فإنه لا يتعدى كونه هروبًا إلى الأمام. عاجلًا أم آجلًا ستحين اللحظة التي تضطر فيها البشرية إلى المفاضلة بين خيارات صعبة.
هل تسيطر الروبوتات البشرية على العالم؟
قبل أيام قليلة، وقعت 28 دولة في «بلتشلي بارك» بالمملكة المتحدة على «إعلان بلتشلي» الذي يعد أول إعلان عالمي حول ضوابط الذكاء الاصطناعي. وخلال فعاليات القمة، حذر الملياردير الأمريكي «إيلون ماسك» من المخاطر المرتبطة بتطوير الروبوتات الشبيهة بالبشر، مؤكدًا على احتمالية خروجها عن السيطرة في المستقبل.
استقرت فرضية سيطرة الروبوتات في أذهان الجيل الحالي من خلال أفلام الخيال العلمي الحديثة مثل The Terminator، وI Robot. لكن حقيقة الأمر أن تلك السيناريوهات تعود إلى عصور أقدم، حيث تمحورت مسرحية «إنسان روسوم الآلي» للكاتب «كارل تشابيك» حول مجموعة من الآليين الذين يسيطرون على الأرض. يعني ذلك أن فكرة الهيمنة الروبوتية قد ارتبطت بفكرة الإنسان الآلي منذ نشأتها.
يرى بعض العلماء أن تلك التصورات غير قابلة للتحقق على أرض الواقع، ويصرون على أن الروبوتات البشرية قد جاءت لمساعدة الإنسان. تشدد الروبوتات نفسها على هذه الفكرة، لكن على الجانب الآخر تحمل إجاباتهم على بعض الأسئلة إشارات غير مريحة، مثل تأكيد الروبوت «صوفيا» على أن الروبوتات يمكنها القيادة بفاعلية أكبر من البشر، نظرًا لأنها لا تمتلك المشاعر التي تؤثر على اتخاذ القرارات.
يمكن تقسيم مخاوف السيطرة الروبوتية إلى مستويين: الأول هو إحلال الآلات محل البشر في عدد من الوظائف، الثاني هو الهيمنة الكاملة التي تستخدم فيها الروبوتات قدراتها الخارقة لتولي زمام الأمور؛ اعتمادًا على درجة عالية من فهم الواقع المحيط، وقدر كافٍ من الإرادة.
يبدو المستوى الأول أكثر واقعية حتى الآن. لا يمكننا إغفال قدرة تطبيقات الذكاء الاصطناعي الناشئة على القيام بالعديد من المهام البشرية بكفاءة أكبر. ظهرت روبوتات الدردشة مثل Chat GPT كمؤشر بسيط على تغيرات حادة سوف تصيب سوق العمل. ورغم ذلك، يرى بعض المتفائلين أن الأمور لن تسير بهذا السوء، ويستندون في رأيهم إلى نهج “الإنسان في الحلقة” Human – in – the – Loop.
يشير مصطلح «الإنسان في الحلقة» إلى عملية يتعاون فيها البشر مع الذكاء الاصطناعي من أجل خلق تجربة أفضل. ينص هذا المبدأ على استحالة تجاهل الذكاء الاصطناعي أو الاعتماد عليه بشكل كامل من ناحية أخرى. فلا بديل عن الجمع بين القدرات الطبيعية والصناعية التي يعزز كل منهما الآخر. لذلك يقلل بعض الباحثين من مخاوف فقدان الوظائف وتغير طبيعة سوق العمل.
أمّا المستوى الثاني، وعلى الرغم من خياليته، فإن النقاش يزداد حوله بمرور الوقت. يرى المعارضون أن السيطرة على العالم تحتاج إلى ما هو أكبر من مجرد نظام ذكي، حيث يتوقف الأمر على الوصول إلى بنية جسدية مماثلة للبشر، وقدرة على تكوين علاقات اجتماعية معقدة لن تصل إليها الروبوتات مهما بلغت من تطور. فيما يرى المؤيدون أن اكتساب الوعي هو مفتاح كل شيء.
في جميع الأحوال، تبدو الرؤية الفلسفية أكثر أهمية. قد لا يسيطر الذكاء الاصطناعي على العالم بالمعنى الحرفي، لكن لا شك في أنه يتلاعب بعقولنا دون أن نشعر، ويملي علينا القرارات التي نظن أننا أصحابها. من منظور أوسع، يمكن القول إن الأنظمة الذكية تغير نظرتنا إلى إنسانيتنا.
في فلسفة كانط، يستمد الإنسان قيمته من كونه إنسانًا لا أكثر. تخالف تكنولوجيا الروبوتات المبدأ الكانطي، فمعها تظهر الآلات كبشر تتحدد قيمتهم بناءً على قدراتهم. سيؤدي ذلك إلى التعامل مع الإنسان أيضًا على أنه وسيلة لتحقيق غاية. وستزول الفوارق حتى يتم اختزال البشر في مظهرهم. يمثل هذا الخلل جوهر المشكلة، وهو نقطة انطلاق جميع النقاشات الفلسفية حول الروبوتات البشرية.
ختامًا، تدل التطورات العلمية المتلاحقة على قوة العقل البشري، وطموحاته غير المحدودة، ورغم الطفرة الهائلة التي نعيشها، فإن الطريق مازال طويلًا. مما يفرض علينا السعي إلى إعادة تحديد مواقعنا من أجل مواكبة عالم سريع التغير، والاستعداد ليوم ستصبح فيه أعنف خيالاتنا حقيقة.