هو في عينيْ «جوزيف إي. ستيجلز»، نائب رئيس البنك الدولي السابق، أحد الأدوات التي تستعملها الدول الصناعية المتقدمة لجعل حياة الدول النامية أكثر صعوبة[1]، ولكنه في عيني «حازم ببلاوي»، الاقتصادي المصري، بداية طريق إنقاذ الاقتصاد.

إنه صندوق النقد الدولي، أحد أهم المنظمات العالمية التي لا زال الجدل قائمًا حولها منذ سنوات طويلة.

بين من يصوره على أنه شيطان العصر، وبين من يروج له على أنه ملاك الرحمة المنقذة للفقراء، تضيع صورة صندوق النقد الدولي وتفاصيلها الموضوعية، ويغيب الفهم الحقيقي عن أذهان العامة من المتابعين من خارج الاختصاص الاقتصادي. لهذا ارتأينا أنه من المهم للمتابع العربي أن يمتلك جملة من المعطيات الموضوعية للتمييز ولاتخاذ موقف واعٍ، خاصة مع الحضور الفعال لصندوق النقد الدولي وسياساته في عدد من الخيارات الاقتصادية للدول العربية.


لمحة تاريخية

إن الأمر الواضح، هو أن اثنين وعشرين دولة من الدول المدعوة لم تسهم بأي دور ذي بال في المؤتمر، وأنها كانت حجر عثرة لا غير.[2]

هكذا علق رئيس الوفد البريطاني الاقتصادي، جون ماينارد كينز، خلال مؤتمر بريتن وودز على الحضور الصوري للـ 44 دولة المدعوة للمؤتمر.

فقد كان من المفترض خلال المؤتمر الذي انعقد عام 1944، أن تشارك الدول المدعوة في وضع تصور للمنظومة الاقتصادية العالمية في مرحلة ما بعد الحرب، وأن تساهم في وضع المبادئ المستقبلية لهذا الاقتصاد المؤسس للاستقرار.

غير أن ما تمخض عن هذا المؤتمر لم يكن إلا نتاجًا للتصورات الاقتصادية للمفكر «جون مينارد كينز»، ممثلاً عن بريطانيا، ومتسلحًا بخيال واسع وقدرة نظرية تجسدت في كتابه «لنظرية العامة» و«هاري دكستر وايت» ممثلاً للولايات الأمريكية المتحدة، ومستندًا إلى القوة الاقتصادية الطاغية لدولته الناجية الوحيدة من تبعات الحرب، ومع ذلك فقد جاء النظام الاقتصادي الجديد متضمنًا بصمات وايت بدرجة أكبر من تأثير كينز، وهو ما يؤكد قوة السلطة في مواجهة الفكر.[3]

لم يكن موقف كينز ومن خلفه بريطانيا بأفضل من موقف ودور الدول التي تهكم عليها، فحاجة بريطانيا إلى الاقتراض وإعادة تهيئة ما تدمر من بنيتها الاقتصادية، وحاجة كل الدول المشاركة الأخرى المرهقة أيضًا من تكاليف الحرب إلى المساعدات المالية والصناعية، جعل للدولة الأمريكية شرعية شبه مطلقة في وضع التصورات التي تلائمها بوصفها الدولة الوحيدة التي تستطيع في ذلك الوقت إمداد بقية العالم بالمال والمنتجات الصناعية.

تمخض عن هذا المؤتمر إنشاء صندوق النقد الدولي، وهو منظمة دولية تساهم إضافة إلى عدد من المؤسسات الاقتصادية والتجارية الدولية في إرساء المبادئ الاقتصادية المقترحة، والتي تم توثيقها في اتفاقية تأسيس الصندوق.

بعد مضي نصف عام، وأمام حاجتها لتمويل بقيمة 3.7 مليار دولار أمريكي، وجدت بريطانيا نفسها مجبرة على التخلي عن مقترحها التعديلي، وعلى الموافقة النهائية على اتفاقية إنشاء الصندوق.

في 27 سبتمبر/أيلول 1945، كانت 29 حكومة إضافة إلى بريطانيا قد صادقوا نهائيًا على وثيقة التأسيس، وباشر الصندوق في 1 مارس/آذار 1947 أعماله بشكل رسمي في مقره الذي لا يبعد عن البيت الأبيض أكثر من بضع دقائق سيرًا على الأقدام، بواشنطن، عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت وحدها تملك خيار تحديد مقره.

خلال العامين 1947 و1948 استدانت من الصندوق 11 دولة فقط. وفي عام 1950 لم تطلب الاقتراض من الصندوق ولا دولة واحدة. وإلى ذلك الحين لم تكن منضمة إلى الصندوق غير 3 دول إفريقية فقط. وقد كان الحصول على تمويل من الصندوق يشترط العضوية.

بلغ عدد الدول الأفريقية المنضمة للصندوق، بين عامي 1957 و1969، حوالي 44 دولة من أصل 115 دولة عضو، وإذا كان عدد الدول الأفريقية قد زاد عن ثلث عدد الدول الأعضاء إلا أن قوتها التصويتية كانت أقل من 5% في العام المذكور وفق قوانين الصندوق التي سنتناولها لاحقًا.

عرفت المبادئ التي قام عليها الصندوق تغيرات متتالية في السنوات اللاحقة، وفقًا للمتغيرات الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي جعل هدف ودور الصندوق يتغير بشكل واضح خلال العشريات اللاحقة إلى أن بلغ دوره الحالي وصياغته القانونية الحالية، والمتمثلة في اتفاقية متكونة من 31 مادة قانونية إضافة إلى ملحق تفصيلي وتوضيحي.[4]


مهامه والمآخذ القانونية عليه

توضّح المادة الأولى لاتفاقية تأسيس الصندوق أن أهدافه تتمثل في النقاط التالية:

  • تشجيع التعاون الدولي في ميدان السياسة النقدية.
  • تيسير التوسع والنمو في التجارة الخارجية.
  • تدعيم الثقة بين البلدان الأعضاء.
  • العمل على تصحيح اختلالات ميزان المدفوعات للدول الأعضاء.
  • العمل على تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف.

ويُعلِّق الصحفي وأستاذ الفلسفة الألماني «أرنست فولف» على هذه الصياغة لأهداف الصندوق بقوله:

إنها ترن في أذن السامع كأن صندوق النقد مؤسسة حيادية… يكمن هدفها الرئيسي في ترك العالم الاقتصادي يعمل بأكبر قدر ممكن من النظام وفي تصحيح الاختلالات بأسرع وقت متاح… ولكنه إحدى المؤسسات التي أنشأتها القوة العظمى الجديدة لتفرض ليس هيمنتها العسكرية فحسب، بل هيمنتها الاقتصادية أيضًا على العالم.[5]

قد يبدو موقف المفكر فولف مكتسيًا بعض المبالغة في تقدير أهداف الصندوق، ولكن وبالتدقيق في الأهداف المذكورة في فصل تأسيس الصندوق، لا يمكن التغافل عن حقيقة أن هذه المبادئ فضفاضة وقابلة لاستيعاب أية سياسة اقتصادية قد تتبناها إدارة الصندوق.

وهذا ما يفسر الأدوار المرحلية المختلفة لصندوق النقد الدولي منذ تأسيسه. فقد بدأ الصندوق نشاطه كـ «مؤسسة نخبة»، كما سماها د. حازم الببلاوي[6]، أي أنه بدأ كمؤسسة تتعامل بشكل أكبر مع الدول الصناعية لضمان استقرار أسعار الصرف وتوفير حرية تحويل العملات. ومع مرور الزمن بدأت الدول الصناعية تحل مشاكلها النقدية والمالية خارج إطار الصندوق خاصة بعد فك الولايات المتحدة الأمريكية لارتباط الدولار بالذهب.

منذ تلك الفترة إلى اليوم عرف دور الصندوق تحولاً محوريًا كان له تأثيره الواضح عالميًا، فقد أوكل إليه إضافة إلى البنك المركزي مهمة ضمان الإصلاح الاقتصادي لدول العالم الثالث منذ الثمانينات، بالإضافة إلى تحويل الاقتصادات الاشتراكية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي إلى اقتصاد السوق في التسعينات.

عرفت أدوار الصندوق الأخيرة جدلاً واسعًا حول نجاعتها من جهة، وحول مدى ارتباطها بأجندات سياسية توجهها من جهة أخرى. وقد أثار هذا الجدل سياسيون واقتصاديون وصحفيون أيضًا.

وإن استثنينا التقارير الاستقصائية والقراءات ذات البعد السياسي التي ارتكز عليها جزء كبير من هذا الجدل، وركزنا فقط على قوانين النظام الداخلي للصندوق، فإنه يمكننا اختزال أكثر النقاط المثيرة للجدل في القوانين التالية:

  • أن حقوق التصويت في الصندوق متعلقة بحجم حصة الدولة العضو في الصندوق –أي حصة إسهاماته المالية- فحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً قد ساهمت بأكبر حصة (من الدولار ومن الذهب) فإنها لم تضمن لنفسها قوة تصويتية تكاد تبلغ الضعف فقط، بل أيضًا استطاعت التمتع بنظام حق التصويت المرجح (الفيتو) منذ تأسيس الصندوق.[7]
  • لتقديم المشورة لأعضائه بشأن السياسات الاقتصادية أو لإقراضهم، يتمتع الصندوق بحق الاطلاع على كل تفاصيل الوضع الاقتصادي للبلد وعلى كل الأسرار المالية والنقدية لهذا الأخير.
  • مبدأ المشروطية، الذي يقضي بأن الموافقة على التمويل المطلوب أمسى يتوقف على تنفيذ شروط معينة تتعدى الشروط المتفق عليها بشأن فترات السداد ومعدلات الفائدة على القرض. ويتوجب على الدولة المقترضة تحرير «خطاب نوايا» يقضي بالتزامها بهذه الشروط، إضافة إلى عدد من الإجراءات الأخرى التي يتخذها الصندوق لضمان التزام الدولة المقترضة بتنفيذ المتفق عليه؛ كصرف القرض المسند على مراحل. كما دأب البنك الدولي وأغلبية الحكومات وأكثرية المصارف التجارية الدولية على إقراض البلدان التي يمنحها الصندوق «شهادة حسن سلوك»، أي شهادة تثبت أنها نفذت جميع المعايير والشروط المطلوبة منها. في المقابل يمكن للصندوق إعفاء أي دولة من هذه الشروط ومن الشروط ذات البعد التقني أيضًا «بحسب ما يراه مناسبًا».[8]
  • الاتفاقيات التي تعقدها الحكومات مع صندوق النقد لا تنضوي تحت مظلة الاتفاقيات الدولية، وبالتالي فإنها لا تحتاج تصويتًا برلمانيًا أو موافقة مجلس شعب تلك الدول. كما يعتبر صندوق النقد الدولي مدينًا مميزًا، أي أن القروض الممنوحة من قبله لها أولوية تامة في الخلاص.
  • رغم كل الإجراءات والاحتياطات التي يتخذها الصندوق لضمان تسديد الدولة المدينة ولضمان التزامها بالشروط المتعلقة بسياساتها، إلا أنه يلاحَظ الغياب التام لدور الصندوق في مراقبة صرف القروض الممنوحة وحمايتها من الاختلاس من قبل رؤساء النظم المستبدة، أو صرفها في مشاريع وهمية أو فاشلة.[9]

ملاك أم شيطان

تتباين مواقف المعارضين والمؤيدين لصندوق النقد الدولي بشكل ملفت، حيث يتهم «دافيد ستاكالر» أستاذ الاقتصاد السياسي، صندوق النقد الدولي وسياسة التقشف التي يجبر عليها الدول المقترضة قائلاً:

لو كانت تجارب التقشف تحكمها نفس المعايير الصارمة مثل التجارب السريرية، كان من الممكن أن يُوقفها مجلس أخلاقيات مهنة الطب منذ فترة طويلة. إن الآثار الجانبية للعلاج التقشفي شديدة وغالبًا ما تكون مميتة ولم تحقق فوائد العلاج.[10]

كما تلتحق الكاتبة والصحفية «ناعومي كلاين»، صاحبة كتاب «عقيدة الصدمة» بزمرة المفكرين والاقتصاديين الذين يُحمِّلون الصندوق مسئولية تفاقم معظم أزمات العالم الثالث الاقتصادية.

وتنقد كلاين الرئيس الأمريكي نيكسون في تأييده لكل إصلاحات الصندوق فيما يتعلف بالتجربة التشيلية قائلة:

وقد كان نيكسون يؤيد تأييدًا كاملاً تطبيق هذا النوع من سياسات السوق الحر الوحشية في ديكتاتوريات أمريكا الجنوبية، لكن عندما تعلق الأمر بالسياسة الاقتصادية الداخلية في الولايات المتحدة، ينتاب نيكسون القلق إزاء إعادة انتخابه فهذه قصة مختلفة جدًا جدًا.[11]

هذا بالإضافة إلى الأستاذ الجامعي والاقتصادي والسياسي «جوزيف إي. ستيجلز» الذي عرفت مواقفه وإصداراته صدى كبيرًا، نشر على إثرها ورقة توضيحية للحلول البديلة عن الصندوق[12]، أكد خلالها أن البلدان الصناعية المتقدمة من خلال الأخير لم تكن تبذل ما في وسعها لمساعدة البلدان النامية، و«كان من الواضح أن برامج صندوق النقد أدت إلى تفاقم أزمة شرق آسيا».

ورغم افتقار قائمة معارضي سياسات صندوق النقد للنفوذ السياسي أو الإعلامي المؤثر، إلا أن هذه القائمة تحوي عددًا هائلاً من السياسيين والمفكرين والاقتصاديين، تقابلهم أعدادٌ هائلة أيضًا من المدافعين الحكوميين عن هذه السياسات، وكذلك عدد لا بأس به من الإعلاميين والاقتصاديين والأساتذة.

حيث يعتبر د. حازم ببلاوي أن الخلل في سياسات صندوق النقد الدولي كان مرده استناد الصندوق إلى تاريخه الطويلة في التعامل مع الدول الصناعية وفق مؤشرات وظروف تختلف عن تلك التي واجهها في الدول النامية، ويعلق المدافعون عن سياسات الصندوق على هذا النقد بأنه:

على الرغم من أن هذا النقد لم يخلُ من بعض الصحة، فإن الحقيقة هي أن الصندوق لم يستمر لوقت طويل في الأخذ بهذه السياسات الميكانيكية، بل بدأ من خلال تعاونه مع البنك المركزي في مراعاة الكثير من الاعتبارات الاقتصادية الأخرى.

كما يسعى الصندوق إلى النشر الدؤوب لبعض التوضيحات في شكل إجابات على أسئلة على موقعه الرسمي، الموجه لشعوب الدول المتعاونة مع الصندوق، والتي تشهد احتجاجات أو معارضات شعبية واسعة.


يعتبر صندوق النقد الدولي أحد أهم القضايا التي شغلت العقل الجمعي للعالم، بين معارض ومساند. ويبدو أن البت الدولي الرسمي في مدى صحة الانتقادات الموجهة للصندوق ومدى نجاعة دوره أمر مؤجل، خاصةً مع وجود اعتبارات جمة لعل أهمها هو عدم تعارض سياسات الصندوق مع مصالح الدول الصناعية العظمى.

ومن هنا تأتي أهمية وعي شعوب وحكومات بقية الدول –وتحديدًا دول العالم الثالث- بكل أبعاد التعاون مع صندوق النقد الدولي وتبعاته قريبة وبعيدة المدى، ومدى توافق أهداف الدولة المتعاونة وخططها المستقبلية مع أهداف الصندوق؛ لأنه يمكننا التسليم بأن سياسات الأخير ستُحدد -دون أدنى شك- المستقبل الاقتصادي والاجتماعي وربما السياسي للبلاد المتعاونة معه.

المراجع
  1. كتاب «making globalization work» لـ«جوزيف ستيجلز»، نائب رئيس البنك الدولي السابق
  2. Richard peet: ‘ Unholy Trinity’ ZED books London 2009
  3. «حازم الببلاوي» من كتابه النظام الإقتصادي الدولي المعاصر – الباب الأول
  4. يمكن مراجعة هذه الفصول من اتفاقية تأسيس الصندوق على الموقع الرسمي لصندوق النقد الدولي.
  5. كتاب «صندوق النقد الدولي: القوة العظمى» – الباب الأول، للصحفي وأستاذ الفلسفة الألماني «أرنست فولف».
  6. كتاب «النظام الاقتصادي الدولي المعاصر» لـ«حازم الببلاوي»
  7. راجع القسم 5 من وثيقة تأسيس الصندوق المتعلقة بالتصويت.
  8. القسم الرابع من المادة الخامسة من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي.
  9. كتاب «صندوق النقد الدولي: القوة العظمى»، للصحفي وأستاذ الفلسفة الألماني «أرنست فولف».
  10. صُنّف «ديفيد ستاكلر» سنة 2013 من قبل مجلة «Foreign policy» كواحد من بين أفضل 100 مفكر عالمي.
  11. الكاتبة والصحفية «ناعومي كلاين» في محاضرة مصورة لها في شيكاغو في البيت العالمي أثناء تقديمها لنظرية: عقيدة الصدمة.
  12. كتاب «making globalization work» لـ«جوزيف ستيجلز»، نائب رئيس البنك الدولي السابق.