مرشدك للثورة الفرنسية (2/2): عهد الإرهاب وضياع الثورة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
راجع الجزء الأول:من الباستيل إلى حكم اليعاقبة
ما ينبغي إدراكه بشأن «عهد الإرهاب»
كان عهد الإرهاب فترة من العنف الشديد تحت قيادة يعاقبة روبسبير، أصبحت خلالها المقصلة هي الأداة السياسية الأكثر فعالية والقمع هو المهمة السياسية الأشد حيوية. رغم أن العدد أقل كثيرا جدا من الملايين التي خسرت حياتها أثناء الحروب النابليونية، فإن 17000 شخص – أعداء للثورة وأيضا مفكرين منشقين من داخل الثورة نفسها – تم إعدامهم بالمقصلة. عشرات الآلاف غيرهم قُتلوا بغير محاكمة أو ماتوا في السجن. يقدّر المؤرخ تيموثي جاكيتّ إجمالي عدد القتلى بحوالي أربعين ألفا.
لا يزال إرث هذه الفترة محل جدل كبير. لكن من الصعب الخلاف على أن الإرهاب ظهر كاستجابة للحاجة الملحة للدفاع السياسي والعسكري. كان الرؤساء الصوريين للنظام القديم أكثر من مجرد رموز للترف أو الاستبداد التاريخي؛ كان الكثيرون منهم خصوما نشطين للثورة، يعملون على تفكيك تقدمها واغتيال جنودها خصوصا في وقت كان فيه التحول الثوري في أشد حالاته ضعفًا.
كتب روبسبير في 1794م:
لقد قيل أن الإرهاب هو مبدأ الحكومات الاستبدادية. فهل تمثل حكومتك إذن الاستبداد؟ أجل، فالسيف الذي يلمع في أيدي أبطال الحرية يشبه ذاك الذي يتسلح به أعوان الطغيان. دعوا المستبد يحكم بالإرهاب أتباعه المتوحشين؛ فهو محقّ، كمستبد. أخضعوا بالإرهاب أعداء الحرية، وستكونون محقّين، كمؤسسين للجمهورية. حكومة الثورة هي استبداد الحرية ضد الطغيان. هل صُنعت القوة من أجل حماية الجريمة فقط؟ وهل غير مقدّر للصاعقة أن تضرب رؤوس المتكبرين؟
يهتف رجال معينون: التسامح مع الملكيين، الرحمة للمجرمين! لا! الرحمة للأبرياء، الرحمة للضعفاء، الرحمة للبائسين، الرحمة للإنسانية.
يبدو شييئًا آخر أكيدًا: كان إرسال الخصوم السياسيين من بين صفوف الثوار إلى المقصلة – الدانتونيين والهيربرتيين – انعكاسًا للضعف السياسي الذي ترك روبسبير معزولًا وأعزلَ نهايةً في مواجهة المؤامرات التي كان يخشاها.
مع ميزة الإدراك المتأخر، كتب إنجلز في خطاب إلى ماركس عام 1870 أنه:
يتشكل الرعب في الغالب من وحشيات عقيمة يرتكبها أناس خائفون من أجل طمأنة أنفسهم. أنا مقتنع أن اللوم على عهد الإرهاب عام 1793م، يقع بشكل حصري تقريبًا على البرجوازي المتوتر للغاية، حاطّا من قدر نفسه كوطني.
ماركس نفسه، رغم كونه منتقدًا لتفصيلات «الإرهاب الثوري» كما كان يتم عرضها في فرنسا، اتخذ وجهة نظر أقل التباسًا تجاه العنف دفاعًا عن الثورة:
من ضيّع الثورة الفرنسية؟
بحلول صيف عام 1794م – بعد خمس سنوات من صيف القلاقل الذي شهد اجتماع الجمعية العمومية، وإنشاء الجمعية الوطنية، واقتحام الباستيل- تفتت الثورة وتزايدت عزلة روبسبير، تُرك ليشغل جناحا في يسار القيادة الثورية مجرّدا من كل حليف أو دعم.
خائفا من المؤامرات على حياته، دعا روبسبير إلى إعدام رفاق من القادة الثوريين مثل هربرت ودانتون أثناء ترأسه للجنة السلامة العامة. ربما كالمتوقع، سقط روبسبير ضحية لمؤامرة عن يمينه، وقلة الحلفاء المحتملين – صفوف المعتدلين والجناح الأيسر الذي اقتطفت رؤوسه بالبعثات التي أرسلها روبسبير بنفسه إلى المقصلة – ختمت الحكم بموته.
في التاسع من التيرميدور (الشهر التاسع من تقويم الثورة الفرنسية، ويقابله 27 يوليو/تموز) لعام 1794م، حكم المؤتمر الوطني تحت رئاسة جان لامبرت تالين بالإعدام على روبسبير وثلاثة يعاقبة راديكاليين آخرين. بعد عصيان قصير المدة ضد الجمعية الوطنية – بقيادة الكومونة الباريسية وهي الجمعية التي شكلها اللامتسرولون وحلفاؤهم البرجوازيين بعد النصر في قصر التويلري قبل عامين- تم اعتقال روبسبير وأعوانه. في اليوم التالي، تم إعدامهم بالمقصلة.
تلا ذلك تطهير عنيف للكومونة. من بين قوّادها الخمس وتسعين الحاضرين وقت القبض على روبسبير، مات ثمانية وسبعين على المقصلة. كما يكتب إريك حزان، «بدأ إرهاب جديد».
فيليبو بوناروتي، معلّق معاصر وصديق لروبسبير، رثا الهزيمة الهائلة، مترجما إياها كنتيجة حلف فاحش بين العناصر الناجية من الأرستقراطية القديمة والثوار الانتهازيين على الجناح الأيمن. لتبرير أفعالهم، يدّعي، أن قواد الـ “رد فعل التيرميدوري” كان عليهم تشويه إرث المعارضين لهم، مزيفين بسخرية المباديء الثورية أثناء اضطلاعهم بذاك الشرف. كتب:
الأساتذة المستفيدون من الديمقراطية والأنصار القدماء للأرستقراطية، انسجموا مرة أخرى. وهتافات قديمة احتشدت ونادت بتعاليم وتأسيسات المساواة، تعتبر الآن العواء الدنس للأناركية واللصوصية والإرهاب.
إريك حزان، يكتب بعد ذلك بقرون، متشائما بالقدر نفسه:
متروكا بغير حماية من تمرد اللامتسرولين الذي، في زمن سابق، كان له أن يهرع لمساعدته، مات روبسير بغير رؤية استكمال المشروع الثوري الذي جسده، وماتت الثورة الفرنسية بعد ذلك بقليل.
الدولة الفرنسية المتضعضعة، متجردة من أغلب إمكاناتها الديمقراطية، لم تستطع الوفاء بوعود الثورة، وتُركت تحت سيطرة هؤلاء الذين سيشهدون أكثر تطورات الثورة راديكالية منقلبة رأسا على عقب. من هذا السياق السياسي ظهر بعد قليل نابليون بونابرت، وتحولت الثورة إلى الدولة النابليونية، التي شُيدت عن طريق الحرب والسيطرة الإمبراطورية في الخارج والطغيان الأرستقراطي بداخل الوطن. أشار بوناروتي إلى أنه، ربما في أكثر الأمثلة سوءا لانقلاب المباديء الثورية، أصبحت الأجندة الثورية للحرية والمساواة عقيدة للهيمنة العالمية من خلال حملات بونابرت الاستعمارية.
لقد انهزمت الثورة في كثير من نواحيها—ومع ذلك، ظلت ذكرياتها تحفزّ الانتفاضات الديمقراطية كالكومونة الباريسية بقيادة العمال بعد ذلك بعقود.
كيف نظرت بقية أوروبا إلى الثورة؟
كانت لتمرد اللامتسرولين وتحرير النظام السياسي الفرنسي آثار بليغة على الملكيات المحيطة. وكما هو متوقع، كان رد فعل الملوك مختلفا تماما عن استجابة الجماهير.
ملوك النمسا وبروسيا – بما فيهم ليوبولد الثاني، أحد أقرباء العائلة المالكة في فرنسا- أبدوا اهتماما فوريا بالاضطراب الشعبي المقلقل لمملكة جارهم، ووصلوا حد التآمر مع لويس الرابع عشر وماري أنطوانيت لتنسيق حرب داخلية لإضعاف الدولة الدستورية.
بعد أن منع الفلاحون الغاضبون لويس الرابع عشر من الهرب خارج البلاد، واكتشاف دليل على خيانته في باريس، ثار الفرنسيون واستولوا على قصر التويلري وخلعوا الملك عن العرش، مشعلين شرارة المناوشات مع الملكيات المجاورة.
لكن الشعوب في المناطق المجاورة وجدت إلهاما لتحريرها في النضال الشعبي الفرنسي. الحرس السويسري – المستأجر كمرتزقة للدفاع عن لويس الرابع عشر- انشق عنه منضما إلى صفوف اللامتسرولين في حشود كبيرة أثناء الاستيلاء على التويلري، وكانت هناك حوادث مشابهة من تبديل المواقع على الحدود، حيث استوعب جنود ممثلين للأمة الفرنسية قوات أجنبية منشقة.
في أثر الثورة الفرنسية، حدثت تمردات شعبية في إيطاليا وسويسرا مع الاستشهاد بالنضال الفرنسي كمثال أيديولوجي وعسكري.
العلاقة بين الثورتين الفرنسية والهايتية
بين عامي 1791م و1804م -أثناء فترة الانتفاضة الثورية في فرنسا الأوروبية- انتفض عبيد في جزيرة سانت دومينيك الفرنسية ضد نظام المزارع الذي أبقى على بؤسهم، مطالبين لأنفسهم بحقوق المواطنة. سلب العبيد الثائرون طبقة المزارعين من ثرواتهم وأعدموا المزارعين الباقين على الجزيرة وألغوا العبودية وأسسوا هايتي، أول جمهورية حرة في الأمريكيتين.
من بين المستندات التدشينية كان هناك استئناف لأهم الأوراق الثورية الفرنسية: «إعلان حقوق الإنسان والمواطن».
يجدر بنا تذكر تحذير ماركس:
لكن من الواضح أن منشورات ثورية من فرنسا – وقد كان منها الكثير – وصلت إلى أيدي العبيد في سانت دومينيك. وبالتأكيد ساعدت مطالب العبيد للاندماج في المشروع الثوري لفرنسا الأوروبية، دون ذكر الطلب بالإدراج ضمن الكومنولث المدعو «قيم التنوير» في تشكيل تبديل الثورة في أوروبا، واضعة أمامها تحديًا يطالبها بتوسيع مدى فهمها لكل من الإنسان والمواطن. يكتب سي إل آر جيمس قائلا:
كيف يجدر بنا تذكر الثورة الفرنسية؟
كانت الثورة الفرنسية إعادة تنظيم اجتماعي هائلة، أثرت في حياة حوالي 25 مليون إنسان في فرنسا وأعداد لا حصر لها في مناطق بعيدة كــ «هايتي». خلال الخمس سنوات من الشد والجذب بين قوى الرجعية وإرادة الثوار، عانى عامة الشعب من أذًى كثير، لكن أيضا سنحت لهم الفرصة غير المسبوقة للتدخل في شؤون السياسة الوطنية والإخلال بعلاقات القوى الظالمة التي حددت حيواتهم. كما يذّكرنا هوبزباوم:
يختم إريك حزان كتابه بتذكير آخر: الثورة الفرنسية، في كثير من النواحي، انتهت بالهزيمة. تيار التاريخ هو تاريخ المنتصرين، وهم قوى الرجعية التي نجحت في كيّ الثورة في التاسع من التيرميدور. إذن فمهمتنا هي استخراج تاريخ ثورة فرنسا العظيمة، المدفونة الآن تحت قرنين من الثورة المضادة المستديمة. فهو يكتب: