أمة في خطر: الشباب في مصر لا زواج ولا إنجاب
بمثل هذه الكلمات وغيرها تمتلئ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ربما يكون الغرض منها الفكاهة، لكن واقع الحال يشير إلى أنها تحمل في طياتها حالة من التمرد على الزواج، تمرد يكتسب كل يوم أنصارًا جدد، يتُرجم فعليًا على أرض الواقع في تراجع تدريجي لمعدلات الزواج، حتى أصبح الأمر ظاهرة تُثير العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت العزوبية والعزوف عن الزواج مجرد قلة حيلة وخيار مؤقت لدى الشباب، أم أنه اتجاه حقيقي تقف وراءه أسباب قوية؟
الأرقام تتحدث
تمثلت أبرز مؤشرات هذه الظاهرة (العزوف عن الزواج) فيما أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة العامـة والإحصاء من تراجع معدل الزواج خلال يونيو 2019 بنسبة 25.4% مقارنة بالشهر ذاته من عام 2018، إذ بلغ عدد عقود الزواج خلال هذا الشهر 63.2 ألف عقد، مقابل 84.7 ألف عقد في يونيو 2018.
ولم يكن هذا العام استثناءً، بل هو الحال خلال السنوات الماضية، إذ شهد عام 2018 تراجعًا بمعدلات الزواج بنسبة 2.8% مقارنة بعام 2017، فيما شهد العام ذاته (2017) تراجعًا في معدلات الزواج بنسبة 3.7% مقارنة بعام 2016.
ترافق مع هذا التراجع اتجاه نحو العزوف عن الإنجاب أو الرغبة في تأجيله، ما ترتب عليه انخفاض معدل المواليد بنسبة بلغت نحو 62% خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولكن بالنظر إلى الدوافع الرئيسية وراء هذه المعدلات، يبدو أن الأمر تقف خلفه جملة من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كذلك.
من بين هذه الأسباب يأتي العامل الاقتصادي في المقدمة. فاليوم، رغم وصول معدلات النمو الاقتصادي لمما يفوق الـ5%، إلا أنه نمو يصب في صالح الأغنياء ويزيد الفقراء فقرًا، فقد ارتفعت نسبة الفقر بين المصريين لتصل إلى 32.5% عام ( 2017 – 2018) بعد أن كانت نحو 27.8% عام 2015، تراجعت القدرة الشرائية لتحتل مصر المركز الـ 124 من بين 163 دولة على مستوى العالم.
كذلك انخفضت القيمة الحقيقية للأجور بنسبة 52%، مقارنة بعام 2014، إذ بلغ متوسط الأجر الأسبوعي للعاملين في القطاع العام، وقطاع الأعمال عام 2014 نحو 1026 جنيهًا (نحو 146.6دولار) وذلك عند متوسط سعر صرف للدولار 7 جنيهات، في مقابل 1278 جنيهًا (نحو 71 دولارًا) عام 2018 عند متوسط سعر صرف للدولار نحو 18 جنيهًا، ما يعني انخفاض القيمة الشرائية لأجر العاملين بالقطاع العام بنسبة 52% عام 2018، مقارنة بعام 2014. الأمر ذاته بالنسبة للعاملين بالقطاع الخاص، إذ انخفضت القيمة الشرائية لأجورهم بنسبة 33% عام 2018، مقارنة بعام 2014.
هكذا في ظل ارتفاع الأسعار وتراجع القيمة الحقيقية للأجور وزيادة تكاليف الزواج، عجزت قدرات كثير من الشباب عن مواكبتها، فما كان منهم إلا العزوف عن الزواج كحل اضطراري، وهو ما حدث مع أحمد محمود، المحاسب بإحدى الشركات، إذ يروي في حديثه لإضاءات:
فوبيا الزواج: مخاوف نفسية وتطلعات شخصية
رغم أهمية العامل الاقتصادي، إلا أنه ليس هو السبب الأوحد في تراجع معدلات الزواج والإنجاب، فهناك متغيرات اجتماعية ونفسية لعبت دورًا في تراجع الزواج ضمن قائمة أولويات الشباب. تنوعت تلك العوامل بين الطموح الشخصي، والخوف من المسئولية وتحمل تبعات الزواج الاجتماعية والاقتصادية، والرغبة في الحرية، فضلًا عن الدور الذي لعبته وسائل التواصل في تضخيم تلك المخاوف.
1. الخوف من المسئولية
فوفقًا لدراسة أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بشأن أسباب رفض فكرة الزواج، جاء الخوف من تحمل المسئولية على رأس هذه الأسباب، وهو أمر لا يقتصر على الشباب الذي قد يخشى تحمل المسئولية عن بيت وأسرة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع الأسعار ونسبة البطالة التي بلغت نحو 8.1% في الربع الأول من العام الجاري، بل يشمل العديد من الفتيات اللاتي يخشين المسئولية الكاملة عن الأطفال والزوج.
كذلك يخشى العديد من الأشخاص، خاصة الذين يتسمون بالاستقلالية، من فقدان حريتهم، فينظرون للزواج والضغوط المصاحبة له على أنه مقبرة لحريتهم ونهاية لنجاحهم، فالزواج بالنسبة لهم قيد يفقدهم حرية الحركة على مستوى العمل والحياة الشخصية.
2. وسائل التواصل الاجتماعي
لعبت دورها في تضخيم تلك المخاوف عبر تشجيع صورة الفتاة المستقلة والشاب المستقل، والتركيز على ما قد تعتبره جوانب سلبية في حياة المتزوجين وخاصة بالنسبة إلى الفتيات، وهو ما نراه اليوم في المقارنات بين حياة الفتيات وحريتهن قبل الزواج وحياتهن بعد الزواج مع تحملهن مسئولية الأطفال والأعمال المنزلية، دون تسليط الضوء على الجانب الآخر من الحياة الزوجية.
3. تغير الأولويات
فالزواج لم يعد أهم أولويات الشباب، وحدث تراجع في إقبال الكثير من الذكور عليه في مقابل رغبتهم في تحقيق المزيد من النجاح في العمل؛ أما الإناث فانخراط البعض منهن في استكمال الدراسات العليا جعلهن يفضلن النجاح ويؤجلن فكرة الزواج الذي تعتبره الفتاة معوقًا لنجاحها وقيدًا لحريتها واستقلالها.
وبصفة عامة، فالأمر لا يقتصر على الإناث فقط، بل هو أمر شائع بين أصحاب الشهادات العليا، فهم أقل إقبالًا على الزواج من أصحاب الشهادات المتوسطة، ما أظهرته إحصائيات التعبئة العامة والإحصاء لعام 2018، إذ أكدت أن الذكور الحاصلين على شهادات متوسطة سجلوا أعلى نسبة زواج بنسبة 38.4 %، بينما كانت أقل نسبة زواج بين الحاصلين على درجة جامعية عليا بنسبة 0.1 %، كذلك بلغت أعلى نسبة زواج بالنسبة للفتيات (لمن تقرأ وتكتب) 32.2 %، في مقابل أقل نسبة زواج بين الحاصلات على درجة جامعية عليا إذ شكلت نسبة 0.1% من جملة العقود.
ويرجع هذا في أحد أسبابه لنظرة أصحاب الشهادات العليا للزواج كجزء من الحياة وليس الغاية من الحياة كلها، فكثير منهم منشغل بسوق العمل وتطلعاته الشخصية وتحقيق ذاته، وبالتالي قد يؤجل خطوة الزواج حتى يأخذها بشكل صحيح.
وعلى الجانب الآخر، هناك نسبة كبيرة منهم عاطلة عن العمل، الأمر الذي أظهرته أيضًا إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة عام 2018، مؤكدة أن أعلى معدلات للبطالة تم تسجيلها بين حملة المؤهلات الجامعية وما فوقها بنسبة 17% من إجمالي العاطلين. وفي المقابل، استحوذ أصحاب الشهادات فوق المتوسطة (الأقل من الجامعية) على النسبة الأكبر من إجمالي المشتغلين بنسبة 60.3%.
4. التجارب المحيطة
كثير ممن يرفضون فكرة الزواج أو الإنجاب يتبنون أفكارهم من حالات الزواج المحيطة بهم والتي لا يمل أصحابها من الشكوى من تدهور أحوالهم بعد الزواج وتعاسة حياتهم، والمسئوليات الملقاة على عاتقهم، وكيف أصبحوا لا يهتمون سوى بتوفير متطلبات المعيشة والبحث عن عمل إضافي، أكثر من التفكير في الاستمتاع أو تحقيق طموحاتهم، حتى أصبح لسان حال كثير من الشباب يقول «لماذا أتزوج وحال أغلب من سبقوني إلى الزواج لا يسر ولا يشجع؟» وهو أيضًا حال الفتيات اللاتي رأين أن المتزوجة مسئولياتها كثيرة وبعد الزواج تفقد حيويتها، وبعضهن تطلقن وأصبح لديهن أطفال وتغيرت حياتهن للأسوأ.
عزوف عن الإنجاب: هل كان للدولة دور؟
هكذا جاءت تصريحات الرئيس السيسي خلال فعاليات المؤتمر الوطني للشباب عام 2017. لم يكن هذا التصريح الأول أو الأخير، بل هي جملة من التصريحات والسياسات المتواصلة لتحديد النسل والاكتفاء بطفلين أو طفل واحد فقط.
كان أبرز هذه السياسات برنامج «كفاية 2» الذي أطلقته الحكومة للتشجيع على الحدِ من عدد أفراد الأسرة الواحدة، والذي أعلن على إثره رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أن الحكومة ستقصر الدعم المالي (معاش تكافل وكرامة) على الأسر التي تنجب طفلين فقط.
تزامن مع هذا حملة مكثفة من الدول ومنابرها الإعلامية والدينية لتعزيز الاتجاه بين الشباب المقبل على الزواج والأسر المصرية على حد سواء. فترى هناك خطبة جمعة يلقيها وزير الأوقاف، يتحدث فيها عن ضرورة تنظيم النسل وأن مصر بها زيادة سكانية غير منضبطة، ولا يمكن أن تكتمل معها عملية التنمية، وفتوى تصدرها دار الإفتاء تؤكد أن تنظيم النسل جائز في الشريعة الإسلامية، وتصريحات لمسئولين تتهم جماعة «الإخوان» بالتسبب في الزيادة السكانية، وأخرى لرئيس البرلمان يطالب بإنجاز تشريع عاجل لمواجهة الزيادة السكانية، وصولاً إلى إعلانات دشنتها وزارة الصحة كما هو الحال في إعلان «أبو شنب».
لعبت هذه السياسات، بجانب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، دورًا كبيرًا في تشجيع الاتجاه المتنامي لدى الشباب بالعزوف عن الإنجاب أو تأجيله، واستطاعت الدولة بموجبها خفض المواليد ومعدلات الزيادة السكانية بنسبة بلغت نحو 3.1%.
ختامًا، يمكن القول إن العزوف عن الزواج أو الانجاب لم يعد أمرًا فكاهيًا أو تمردًا من بعض الشباب على التقاليد، بل أزمة حقيقية تهدد الحياة الاجتماعية بمصر، خاصة مع زيادة العنوسة بين الشباب والفتيات لتصل إلى 15 مليون حالة، وارتفاع معدلات الطلاق لتصل إلى مليون حالة بواقع حالة كل دقيقتين ونصف و2500 حالة في اليوم الواحد.
ولعل أهم المؤشرات على مدى خطورة الأزمة، ما تبذله الدولة من سياسات لمواجهة الأمر عبر القوانين والمبادرات، كما هو الحال في مبادرة «مودة»، التي أطلقتها الحكومة بالتعاون مع الكنيسة وجامعة الأزهر لتشجيع الشباب على الزواج واختيار الشريك المناسب، ومقترح القانون بفرض تأمين إجباري ضد الطلاق يدفع مع إبرام عقد الزواج، للحد من معدلات الطلاق وضمان الالتزام بالنفقات التي ستعد قيدًا هامًا عند اتخاذ القرار بالانفصال.