قلوبٌ شابة في مرمى الموت: هل يعودون من البرزخ؟
كانت أمراضُ «شرايينِ القلب التاجية – Coronary heart disease» إلى عهدٍ قريبٍ اختصاصًا حصريًا لكبار السن، فعاملُ السن يعتبر من عوامل الخطر غير القابلة للتعديل «non-modifiable risk factors» المعلوم من الدراسات بالضرورة دورُها في زيادة احتمالاتها وخطورتها.
فالرجال فوق سن الخمسة والأربعين عامًا يبدأون في الولوج إلى منطقة الخطر، أما النساء فيتأخر عندهم هذا عشر سنين ريثما تنتهي فترة الحماية الطبيعية الممثلة في هرمونات الأنوثة في فترة الخصوبة والإنجاب «child-bearing period»، لكن الظاهرة المرعبة التي تتفاقم مع مرور الأيام ويلاحظها كل العاملين في مجال طب القلب والطوارئ، هي التناقص المستمر في متوسط أعمار مرضى الشرايين التاجية، حتى أصبح من الشائع بين أطباء القلب التنافس فيما بينهم في إثارة التعجب والدهشة بما قابلهم شخصيًا في حياتهم العملية من هذه الظاهرة.
فهذا يقول كان عندي في العناية بالأمس شاب في الثلاثين مصاب باحتشاء جزئي في عضلة القلب، وذاك يباهيه بأنه أول أمس كان يقوم بالإنعاش القلبي الرئوي CPR لمدة 40 دقيقة كاملة – وللأسف غير مجدية – لشاب ٍ في السابعة والعشرين أصيب بجلطة في أكبر شرايين القلب تسببت في احتشاء ممتد في الجدار الأمامي للقلب extensive anterior» STEMI». وتلك تتحدى بأن يقابل أحدهم حالة احتشاء بالقلب أقل من عمر آخر حالة قابلتها، والذي كان شابًا في الرابعة والعشرين من عمره!.
بينَ موتٍ وحياة
الصدمة الكهربائية الخامسة قيد التنفيذ. تصبَّبَ العرقُ على جبينِ طاقم الرعاية، ونظراتُهم التائهة بينَ يأسٍ وأمل قصيدةٌ تامة التعبير. انتفض جسد المريض مرة أخرى، نصف ثانية من الترقب، فجأة بدأ المريضُ يعودُ من برزخِه المؤقت كمن أفاق للتو من النوم!، ينظر حوله في ذهول ويتحسس في ألم مواضع الصدمات على صدره.
نظرة ارتياح قهرَ أملُها يأسَها تبدأ في الارتسام على الوجوه، بينما تحمل شاشة المرقاب عودة النبض الطبيعي، يتم الاطمئنان سريعًا على علامات المريض الحيوية ووظائف المخ. عاد المريض بأعجوبة، وانتظم نبضه، واستقر ضغطه، ولا يبدو – لحسن الحظ – أن المخ قد تضرر من الهبوط التام الذي حدث في الدورة الدموية. يتبادل الطاقم الطبي ابتساماتٍ خاطفة مهنّئة بنجاح إنعاش المريض ولو مؤقتًا.
المستقبل الكسيح
ليس الغرض هنا الاستهانة بأمراض القلب لدى كبار السن، وهي قضية كبرى ومؤرقة، لكن الأمر الجَلَل هو أمرُ المستقبل. فمريض القلب كبير السن هو شخصُ في أغلب الأحوال – أو هكذا نأمل – قد أنهى حياتَهُ العملية، أو قطع فيها شوطًا كبيرًا، قام خلاله بأداء جزءٍ هامٍ من رسالته في الحياة، ولم يَعُد بحاجة ماسَّة إلى كثيرٍ من السعي هنا وهناك، فبإمكانه التقاعد والاستراحة، كما أنه لا يحتاج من أداءِ قلبه الكثير، فيكفيه كحدٍ أدنى أن يتنقل في بيئته الصغيرة دون إجهاد، يرتقي درجات السلم برويِّة، يذهب إلى دورة المياه دون تعب، يصلي في المسجد القريب، يؤدي أعمالاً مكتبية.. إلخ.
كما أنَّ لهُ حقًّا على من حوله من الشباب والأصحاء أن يقفوا على رعايته، ومتابعة علاجِه وانتظامِه فيه، وتجنيبِهُ معظم المشاق، وكذلك الإسراع به عند حدوثِ طارئ. لكن المأساة الكاملة تتجسد عند الشباب المرضى، فأمراض شرايين القلب التاجية خاصة احتشاء عضلة القلب قد تترك الشاب المصاب بها حطام إنسان، تُدْبِر بدنياه عنه في أوج إقبالها.
وإذ به بدلاً من أن يصول ويجول في هذه الحياة، متعلِّمًا ومُعلِّمًا ومجاهدًا ومناضلًا وعاملاً وسائحًاً ومعينًا لغيره.. إلخ، يتحول إلى عليلٍ كليلٍ، يحتاج إلى معونة الصغير والكبير، و يبعث على البؤسِ والكآبة والألم مرآه شابًا شائخَ القلب، لا يقوى على ارتقاء بضع درجات من السلم، ويقضي جانبًا جوهريًا من حياته يتنقل بين عيادات الأطباء والمشافي وأقسام استقبال الطوارئ والرعايات المركزة.
على حافة الموت
تمر الدقائق ثقيلة على طاقم الرعاية الذي يصارع القلق والتوتر والنعاس والإرهاق، ويكاد يتوقف الزمن وتنقطع الأنفاس لدى أهل المريض المترقِّبين خارج العناية بينَ جزَعٍ وفزع، يتلمَّسون أطيافًا من الأمل قد تطل عليهم من الداخل. كل نقطة من المحلول مذيب الجلطة تنساب إلى عروق المريض تتعانق فيها النجاة والخطر في آن.
فنسيج القلب المقطوع عنه الدم ينزلق في كل لحظة إلى مزيد من الهلاك، كما أنه يمثل مرتعًا خصبًا للاختلالات الكهربائية الخطيرة arrhythmia، ولا دواء له سوى فتح شريانه وري خلاياه بإكسير الحياة الأحمر. لكن لسوء الحظ، فعودة الدم للنسيج بعد ظمأ قد تسبب اختلالاً كهربيًا خطيرًا أيضًا reperfusion arrhythmia!، ولذا يحافظ طاقم الرعاية على ما تيسَّر لهم من يقظة، وذلك للتدخل السريع في حالة تكرر حدوث الارتجاف البطيني المميت VF= ventricular fibrillation والمتوقع في أية لحظة.
مرت الآن أكثر من نصف ساعة على انتهاء مذيب الجلطة، سكنت أسارير الشاب قليلًا، وأبدى ارتياحه لأن شدة ألم صدره أصبحت نصفَ ما كانت عليه لدى دخوله. لكن آخر رسم قلب أظهر تحسنًا طفيفًا فقط. ظهر الضيق على وجه طبيب الرعاية، فالنتيجة ليست جيدة جدًا، وهذا الشاب الذي يصارع احتشاءً ممتدًا بالجدار الأمامي الأهم لقلبه قد يؤول به الحال إلى أن يمسيَ ضحية لضعف مزمن، وفشل شديد في وظيفة عضلة القلب، ويصير صديقًا دائمًا – وبئست الصداقة! – لعنايات وأقسام أمراض القلب، وقد يحتاج فيما بعد إلى زرع أجهزة باهظة الثمن للحفاظ على حياته، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وظيفة قلبه المتداعي.
مر بخاطره سريعًا شريطٌ من الحالات المشابهة البائسة التي صادفها وما آلت إليه حياتهم، فامتعض واعتراه الشجن والضيق. لا مفر إذن من إكمال المشوار وبمنتهى السرعة.
القاتل الأخف من الهواء
محاولة البحث عن الأسباب الكاملة وراء ظاهرة الانتشار المدوي لحالات جلطات شرايين القلب بدرجاتها لدى الشباب ما تزال تدور على قدمٍ وساق، لكن أصبح من المسلمَّات أو شبه المسلمات لدى الشريحة الأكبر من أطباء أمراض القلب – حتى المبتدئين منهم – الإشارة بأصابع الاتهام بمنتهى الثقة إلى تدخين السجائر كأوضح الأسباب وراء هذا الأمر.
تدخين السجائر من عوامل الخطر المقطوع – بآلاف الدراسات – بعلاقتها بأمراض شرايين القلب التاجية، حيث يفسد البيئة الطبيعية والوظيفية للأنسجة المبطنة للشرايين بطرق شتى، كما يغير من الطبيعة المتوازنة لوظائف التجلط بالدم. وأي إحصاء مبدئي سريع لحالات جلطات شرايين القلب تحت سن الخامسة والثلاثين في أي مركز لأمراض القلب، سيظهر على الأقل أن 95% أو أكثر من هؤلاء هم من الذكور المدخنين بشراهة، وأن نسبةً معتبرةً من هؤلاء لا يوجد لديهم أية عوامل خطر أخرى سوى التدخين.
لا يوجد فرع من فروع الطب إلا ويضع التدخين في قفص الاتهام بكارثة، خاصة أطباء الصدر والقلب والأورام. ومما يزيد الطين بلّة هو الانتشار المدوي لهذه العادة، والذي عززه التناول الأرعن للتدخين في وسائل الإعلام التي تقوم بشحن اللاوعي حتى الثمالة بهذه العادة القاتلة، وفي كل يوم يسقط ضحيتها مئات أو آلاف الأطفال والشباب.
لا أحب الأسلوب الوعظي؛ فقد فَقَد بريقه لدى معظم الناس. لذا سأكتفي بأن أقول أن العاقل من اتعظَّ بغيره قبل أن يُتَّعظ به. فشلت محاولات إصلاح العطل الفني بجهاز القسطرة. لم يجد الطبيب مفرًا من التنسيق – الذي لم يكن سهلًا – مع أقرب مركز للقلب جاهز للتدخل العاجل بالقسطرة.
تم بصعوبة تدبير سيارة إسعاف مجهزة بما يتناسب مع الحالة لتقوم بنقلها على وجه السرعة. تألَّم الطبيب كثيرًا من نزيف الدقائق التى أراقتها هذه الجوانب اللوجستية. فما يحدث في كل دقيقة تأخير الآن، قد لا تعوضه سنين من الجهد، وتلال من الأموال. ومع تباشير الصباح الأولى، بدأت رحلة المريض الشاب لمحاولة إنقاذ شمس عمره من الأفول في أوج صباحها.
الإنذار الأخير
يا معشر الشباب؛ نحن نعيش في بلادٍ خارج مسار ونظام الدنيا، وصحيح البدن فيها يدير حياته اليومية بكثير من المشقة والكدح الجسماني والنفسي، فلا داعي مطلقًا لأن نلقي بأنفسنا إلى مزيدٍ من التهلكة فيها!.
فلنتواصَ بأكبر قدرٍ ممكن من الحياة الصحية الطبيعية، نتسابق في إنقاص الوزن، نتنافس في النشاط والرياضات، نتشارك رحلة التخلص العسيرة من العادات السيئة المتغلغلة في حياتنا، خاصة رأس الأفعى؛ التدخين، ونأخذ بيد من اقتنصته بعض هذه الفجائع.
ألا قد بلغت، اللهم فاشهَد.
ملحوظة: القصة المذكورة هي واقعة متكررة شبه يومية.