المدرب الشاب أم العجوز: من يصلح لتدريب أندية النخبة؟
أجرى أحد أندية البريميرليج مجموعة من المقابلات مع عدد من المديرين الفنيين أثناء رحلة بحثه عن مدرب جديد، وبعد فحص السير الذاتية الخاصة بهم، ومراجعة الانطباعات الأولى التي كوّنتها الإدارة حول المرشحين كافة، استقر الجميع على اسم واحد، يُعتقد أنّه الأجدر بشغل هذا المنصب الحسّاس.
كان ما يعيبه هو أنّه صغير السن، ما جعل البعض يتشكك في مدى قدرته على إقناع لاعبي الفريق الكبار بإمكانياته.
في الواقع، يمكننا أن نستنتج بعض الملاحظات من القصة أعلاه. أولًا، يبدو أن التدريب وظيفة كأي وظيفة أخرى في هذا العالم، يخضع المُتقدِّم لها لاختبارات ومقابلات روتينية. ثانيًا، قد لا تكترث الإدارات لحجم إمكانيات المدرب الفنية بقدر اهتمامها بمدى قُدرته على احتواء اللاعبين، الذين يعدون أهم أصول النادي وطوق نجاته.
يقول المصدر في صحيفة «ذي أثليتيك»، الذي أطلعنا على هذه القصة، أنّ اقتناع اللاعبين الكبار داخل الفريق بالمُدرب أهم من قدراته الفنيّة؛ لأنّ عدم اقتناعهم به يعني بداهةً فشله، قبل حتى أن يُحاول النجاح.
هذا هو حجم تعقيد القضية التي نحن بصدد حلّها. هل يجب أن تسعى أندية كرة القدم للتعاقد مع مدربين شباب أكثر مواكبة لكرة القدم الحديثة، أم تذهب لديناصورات التدريب الذين يعرفون من أين تؤكَل الكَتِف؟
«كرسي في الكلوب»
دعنا نبدأ من نقطة بعيدة نسبيًا. إذا ما أقر الجميع حقيقة أنّ كل المدربين يمكنهم تحقيق الألقاب، سواء كانوا مبتدئين أو خبراء، فما إذن أهمية المدير الفني؟
في افتتاحية مقاله «هل مديرو كرة القدم مهمون؟»، قرر «جون مولر»، المحلل التكتيكي لـ«ذي أثلتيك»، أن يصدمنا ببعض من العبارات؛ مثل: «المدربين ليسوا سحرة»، «إمضاء ساعات في التحليل ليس مفيدًا كما نعتقد»، «التكتيك والمخططات محض هراء»، والأهم هو أنّ «تأثير المدربين أقل بكثير مما يعتقده الناس».
تبدو هذه العبارات صادمة لسببين، الأول هو أنّ من كتبها -مولر- هو أحد أهم المهتمين بالشق التكتيكي في كرة القدم، والثاني هو أنّ هذه الجُمل ليست سوى مقتطفات من أحاديث صحفية لزمرة من أفضل مدربي العالم مثل: «بيب جوارديولا»، «يورجن كلوب»، «مارسيلو بييلسا» وغيرهم.
في كتاب «Soccernomics»، حاول الاقتصاديان «ستيفان زيمانسكي» و«سيمون كوبر» دراسة التأثير الحقيقي للمديرين الفنيين على أداء أندية كرة القدم الإنجليزية خلال الفترة ما بين 1973 و2010.
وخلُص بحثهما الذي تضمّن دراسة الحسابات المالية لعينة ضخمة من الأندية ومقارنتها بالنتائج على سلم ترتيب الدوري إلى حقيقة أنّ 90% من المتغيرات التي تؤثّر على ترتيب هذه الأندية بجدول الدوري مرتبطة بحجم الإنفاق الذي تنفقه هذه الأندية على الأجور.
بالتالي، طبقًا لهذه النتائج يبدو منطقيًا أن تستبدل الأندية المدير الفني بدُمية، دون أن تتأثَّر النتائج في أغلب الحالات؛ لأن اللاعبين هم من يفوزون بالمباريات.
جادل باحثان آخران هذه الفرضية، هم «كريس أندرسين» و«ديفيد سالي»؛ لأنهما اكتشفا أثناء إعداد كتابهما «The Numbers Game» ثغرة في الدراسة أعلاه، وهي أن الإنفاق في الحالة السابقة تضمّن كل ما تصرفه الأندية، بما فيه مرتبات العاملين بالأندية، ومن بينهم المدربون بكل تأكيد. بالتالي قد توظِّف هذه الأندية الثرية مدربين أفضل، بالتالي تُحقق نتائج أفضل.
على كلٍ، توصل «أندرسين» و«سالي» إلى استنتاج أكثر منطقية، وهو أن تأثير المدير الفني على نتائج فريق كرة القدم قد يصل في بعض الأحيان إلى 30% وليس 10% كما زعم «زيمانسكي» و«كوبر».
في الحقيقة، قياس حجم تأثير المدرب على فريق كرة قدم عملية مُعقدة للغاية، وسواءً بلغت نسبة هذا التأثير 10% أم 30% أو ما بينهما، علينا الإجابة على سؤال أصعب: من هو المدرب الأفضل لأندية العصر الحالي؟ شاب طموح؟ أم عجوز خبير؟
بحثًا عن الكمال
نعتذر، لن نتمكّن من اقتحام هذه المساحة الشائكة دون إعادة تعريف بعض البديهيات. لا توجد علاقة واضحة بين عُمر المُدرّب ونظرته للطريقة المُثلى للعب كرة القدم؛ بمعنى أنّ اللعب بغرض الهجوم ليس حكرًا على المدربين الشباب، والعكس بالعكس، لكنّها الظروف التي تحيط ببداية المُدرّب لمسيرته، لا أكثر ولا أقل.
بما أنّ نسبة 30% تظل نسبة كبيرة يجب وضعها بالحسبان، ربما من المنطقي أن تُسنَد مهمة تحصيلها لرجل أكثر تكيفًا مع كرة القدم بشكلها الحالي صحيح؟
يخبرنا تيد ناتسن، مؤسس شركة «Statsbomb» أن تعلُّم التدريب يختلف تمامًا عن تعلُّم أي مهنة أخرى؛ فحتى وإن كانت المُحاضرات النظرية والدراسة الأكاديمية مُهمة، تظل النسبة الأكبر التي يحتاجها المدرب من حيث المعرفة مُرتبطة بالمُراقبة والتنفيذ.
هنا يُمكننا الوصول لطرف الخيط، توجُّه المدرّب مرتبط بشكل كبير بالنماذج التي راقبها أثناء بداياته، ومدى نجاحه حين حاول تطبيق نفس الأفكار. لذا، قد نجد مجموعة من المدربين كان جوارديولا ملهمًا لهم، ومجموعة أخرى كان مورينهو مثلًا أعلى لهم، قِس على هذه الفكرة كل الأسماء التي قد تطرأ على ذهنك، لكل مدير فنّي شخص أو أكثر أثروا على رؤيته لطريقة لعب كرة القدم.
طبقًا لناتسن، نادرًا ما يغيِّر المدربون أساليبهم على الرغم من إدراكهم التام لكون كرة القدم لعبة ديناميكية، تتغير تكتيكاتها مع مرور الزمن. والسبب بسيط جدًا، وهو ضغط الوظيفة.
كأي وظيفة المدرب مُطالب بالإنتاج، والإنتاج في حالتنا هو الفوز، وهذا ما يجعل تدريب أندية كرة القدم بيئة غير صالحة للتعلُّم.
لهذا نجد أنفسنا أمام الاستنتاج الأول، وهو أنّ معظم أندية النخبة، التي تسعى للفوز دائمًا، لا تمتلك رفاهية تعيين مدربين شباب، حتى وإن كانوا أصحاب أفكار ثورية. بل تكتفي بمعادلة الكفة بتعيين مساعدين شباب يتلخّص دورهم في مواكبة التقدُّم الكُروي، لأنهم الأكثر تفرغًا، أقل تعرُّضًا للضغط من الأعلام والجماهير.
مُفاجأة غير سارة
على الرغم من الشعور المُسيطر بأن كرة القدم تتجه نحو إنصاف المدربين الأصغر سنًا، بفضل عديد التجارب، لعل آخرها قصة صعود «جوليان ناجلسمان»، تُخبرنا الأرقام بعكس ذلك.
بشكل عام، حسب تقرير نشره المركز الدولي للدراسات الرياضية عام 2022، باستثناء الدوري الألماني، يصل متوسط أعمار مدربي الدوريات الأوروبية الكبرى إلى 50 عامًا كحد أدنى.
قد يرجع السبب في ارتفاع معدّل الأعمار لأكثر من سبب مثل تحوُّل التدريب لمهنة تتطلب عديدًا من الشهادات والرخص التدريبية التي يستغرق تحصيلها الكثير من الوقت، عكس أوقات سابقة حين كان اللاعب السابق يكتفي بكونه لاعبًا سابقًا ليبدأ عمله كمدرب فورًا عقب اعتزاله، أو ربما لأن تدريب أندية الدوريات الكُبرى أصبح فرصة ذهبية لا يحصل عليها سوى أصحاب السير الذاتية الكبيرة، باعتبارها سقف كرة القدم.
هذا الشك في قدرات الشباب منطقي جدًا، لأن إدارات أندية النخبة قد لا تُقرر المجازفة بالدفع بمدرب شاب يمتلك أفكار ثورية كل ثلاثة أعوام؛ لأن الحقيقة الواضحة هي أنّ أفكار المُدرب وإن كانت مهمة لا تُقارن بأهمية نجاحه في إدارة مجموعة اللاعبين.
في الواقع، مثلما تغيَّر التكتيك على مدار تاريخ كرة القدم، بالمثل تمامًا تغيَّرت سلوكيات اللاعبين، الذين ربما أدركوا أهميتهم الحقيقية في إنجاح المنظومة، بالتالي أصبحوا أكثر اعتزازًا بما يقدمونه، أقل انصياعًا لتعليمات المدير الفني التي كانت بمثابة الأوامر التي لا يمكن الحيد عنها.
هذا بالضبط ما تعنيه عبارة «المدرب الكبير أنسب لفريق من اللاعبين الكبار»؛ لأن مسيرته السابقة قد تُقنع لاعبيه دون أن يضطر لبذل مجهود مُضاعف لإقناعهم. وبكل تأكيد لا تبنى هذه المسيرة الناجحة بين ليلة وضحاها، إلا في استثناءات تعد على أصابع اليد الواحدة.