حتى وقت قريب كان هناك استخدام شائع ومفرط لمصطلح «فيلم مهرجانات» في محاولة للتمييز بين الفيلم التجاري والفيلم الفني، وفي إشارة إلى القيمة الفنية والجمالية التي يمتلكها الفيلم والتي تفترض في جمهوره نوعًا من النخبوية الثقافية.

قبل أسابيع قليلة فاز المخرج السوداني أمجد أبوالعلا بجائزة «أسد المستقبل» من مهرجان فينيسيا السينمائي والتي تمنح لأصحاب العمل الأول، عن فيلمه «ستموت في العشرين»، والمقتبس عن قصة «النوم عند قدمي الجبل» للكاتب السوداني حمور زيادة. جائزة مرموقة من أحد أكبر المهرجانات السينمائية في العالم، دفعت بالفيلم إلى دائرة الضوء، لا سيما وأنه ينتمي إلى السينما السودانية شحيحة الإنتاج، فالفيلم هو السابع في تاريخ السينما الروائية السودانية، والأول منذ عشرين عامًا. كل هذه العوامل أضفت طابعًا رومانسيًا على الفيلم حتى قبل مشاهدته، ورفعت بالطبع من سقف التوقعات، فكيف لاقى الفيلم هذه التوقعات؟

قوبل الفيلم بترحاب وحفاوة شديدتين بعد عرضه الأول في الوطن العربي من خلال مهرجان الجونة السينمائي الذي يشارك الفيلم في مسابقته الرسمية لدورة هذا العام، والتي تجري فعاليتها في الفترة من 19 إلى 27 سبتمبر الجاري. بعد مشاهدتي للفيلم كان السؤال الملح: كيف ستكتب عن هذا الفيلم الذي يبالغ الجميع في الاحتفاء به، وكيف يكتب الناقد عن فيلم متواضع المستوى الفني في مثل هذه الأجواء؟

الصورة الجميلة

https://www.youtube.com/watch?v=8cACsDAP5-0

بعد مشاهدة الفيلم شاركت في مناقشات عديدة ومتفرقة مع مجموعة من النقاد والمهتمين بالسينما. وإذا ما نحينا الأصوات المبالغة في تقديرها، سنجد أن الأصوات الأكثر اتزانًا ترى الفيلم «جميلًا بصريًا». لزم وضع هذا التوصيف بين علامتي تنصيص لأن هذا هو التعبير الأكثر استخدامًا في وصف الفيلم من قبل كل الأصوات المتزنة والإيجابية، والتي تعني أن قيمته الفنية تكمن بالأساس في جماليات الصورة، وهي بحق صورة جميلة، ولكن هل تكفي الصورة الجميلة وحدها لصنع فيلم جميل؟

السينما فن شديد التركيب إذ يتألف من الكثير من العناصر المتداخلة، ومن ثم فإن المعايير الجمالية ليست بسيطة وإنما على قدر من التركيب والتعقيد كذلك، غير أنها يمكن تبسيطها في ثنائية الشكل والمضمون، والتي يعبر عنها سؤالان أساسيان: ماذا تريد أن تقول؟ وكيف تقوله؟

يدور فيلم «ستموت في العشرين» حول أسرة سودانية ترزق بمولود ويذهب الأبوان إلى أحد الشيوخ لمباركة الطفل، فيخبرهم الشيخ أن هذا الطفل سيموت بعد بلوغه سن العشرين، وهكذا يعيش الطفل حياته كلها تحت سطوة هذه النبوءة، ونتابع حياته منذ هذه اللحظة وحتى بلوغه العشرين.

قدم المخرج أمجد أبوالعلا، ومدير التصوير الفرنسي سيباستيان جوبفيرت صورة جميلة وشاعرية من خلال التوظيف الجيد للمكان واختيار مواقع التصوير بالقرب من نهر النيل والتي تمثل مناظر طبيعية جميلة في حد ذاتها، والاعتماد على التباين الشديد بين النور والظلام من خلال الإضاءة الطبيعية في المشاهد النهارية، وإضاءة الشموع في المشاهد الليلية، وهو ما أسهم في تعزيز الإحساس بشاعرية الصورة. بالإضافة إلى التنفيذ المميز لتصميم الديكور والأزياء، والذي ساهم في التأسيس لعالم الفيلم الخاص الذي تسيطر عليه معالم المجتمع البدائي في محاولة لطمس أي معالم لهوية المكان أو الزمن الذي تدور فيه الأحداث.

كل هذا جميل ولا يمكن الاختلاف عليه أو إنكار فضل صناع الفيلم فيه، ولكن هل حقًا يمكن للشكل أن يغني عن المضمون؟

العناصر البصرية هي بالطبع مكونات تأسيسية في فن السينما، ولكنها ليست غاية في حد ذاتها، وإنما مجرد أدوات يستخدمها صانع الفيلم للتعبير عن أفكاره ومشاعره ورؤيته الخاصة لموضوع فيلمه وقصته وأبطالها. ولكن ماذا لو لم يكن هناك ما تعبر عنه هذه الأدوات؟

على الرغم من أن الفكرة الرئيسية (Premise) التي تقوم عليها حبكة الفيلم هي فكرة مبشرة وتنبئ بمساحات واسعة ومتنوعة للتناول، الفيلم لا يتجاوز عتبة الفكرة البسيطة لنبوءة الموت، ولا يلتفت لكل ما تطرحه هذه الفكرة من أسئلة عن الحياة والموت والوجود، ولا ما تفترضه من مفارقات بين الخرافة والمعتقد الديني، وما تعكسه عن علاقة الفرد بمجتمعه، هو فقط يتتبع بطله الذي مني بالنبوءة المشؤمة منذ الميلاد وحتى العشرين.

وإذا ما تجاوزنا الفكر والفلسفة سنجد أن الفيلم عجز أن يبني من هذه الفكرة المبشرة دراما سينمائية حقيقية، فسنجد أن الصراع يكاد يكون معدومًا طوال الفيلم، فالأب والأم استسلما للمصير المزعوم من البداية للنهاية، شخصيات أحادية البعد لا يطرأ عليها أي تحول، لا أحد يسائل هذه النبوءة أو يشكك فيها، جميع أهل القرية مؤمنون بها إيمانًا عقديًا. أما البطل فلا يفقد إيمانه بالنبوءة إلا بعد زواج حبيبته، وكأنه لم يدرك مدى هشاشة هذا الإيمان إلا بعد ما تعرض لصدمة عادية تتكرر كل يوم لملايين البشر. ثم يأتي التحول في شخصية البطل من خلال علاقته بواحدة من أكثر الشخصيات المبتذلة والمتكررة في السينما العربية، إسماعيل، المثقف التقدمي المتمرد والرافض لمنظومة الفكر والقيم بمجتمعه التقليدي.

أما أبرز معالم التفاوت بين الشكل والمضمون فتتبدى في معالجة الفيلم للزمن. منذ البداية يحرص الفيلم على تمويه الزمن فلا يعطي المشاهد أي إشارة حقيقية لزمن الأحداث، وهو ما يساهم في ترسيخ الطابع البدائي للمجتمع الذي تدور فيه الأحداث، ثم تقوم الصورة المجردة بكسر هذا التمويه من خلال إشارات واضحة للزمن في استعراض «إسماعيل» لمشاهد قام بتصويرها في الماضي الذي يبدو أنه السودان في السبعينيات، أو في عرضه فيلم «باب الحديد»، أما أكثر هذه الإشارات إرباكًا فنجدها في مشهد متكرر داخل غرفة «نعيمة» إذ يظهر على الحائط بوضوح ملصق دعائي للمسلسل التركي «حريم السلطان»، وهو ما يكسر تمامًا صورة المجتمع البدائي ويعطي إشارة واضحة بمجتمع حداثي.

العمل الأول

في كل المناقشات التي شاركت فيها بشأن الفيلم، كنت أعمد إلى سؤال محدثي: «ماذا يقول الفيلم؟» ثم أشرح وجهة نظري عن العلاقة بين الشكل والمضمون، ليأتيني الرد الذي تواتر على لسان الكثيرين؛ أن هذا الفيلم هو العمل الأول لمخرجه الشاب، ومن ثم فلا حرج عليه.

لا أستطيع أن أفهم الحجة في التساهل مع فيلم ما لأنه العمل الأول لمخرجه، وهنا بالتحديد يبدو الأمر مثيرًا للتعجب، فنحن لسنا أمام مشروع تخرج لأحد طلاب معهد السينما، ولكننا أمام مخرج احترف صناعة الأفلام سنوات ليست بالقليلة، فيلم «ستموت في العشرين» هو فيلمه الروائي الطويل الأول، ولكن سبقه العديد من الأفلام الروائية القصيرة، والكثير من الأفلام الوثائقية التي قدرت على صفحته بموقع «السينما» بأكثر من 100 ساعة.

من الطبيعي أن تصقل التجربة والخبرة أعمال أي فنان، ومن ثم فإن عمله الأول بالتأكيد سيكون أبسط من أعماله التالية، لكن ليس من الطبيعي أن يكون العمل الأول مبررًا ضعيفًا لمجرد أنه العمل الأول، فقد سبقه بالتأكيد خبرة في تذوق السينما وتعلمها وإلا لما أصبح هذا المخرج مخرجًا من الأساس.

توجيه الممثلين هو إحدى الوظائف الهامة للمخرج، وهو أمر يحتاج إلى الخبرة والدراسة بالتأكيد، لكن لا يعقل أن يكون العمل الأول مبررًا لضعف الأداء التمثيلي من غالبية أبطال الفيلم، فهنا لا يحتاج المخرج سوى خبرة المشاهدة ليستطيع التمييز بين الأداء الجيد والضعيف، حتى لو لم يمتلك هو نفسه خبرة توجيه الممثلين.

في فيلم «ستموت في العشرين» نشاهد أداء ضعيفًا من أغلب أبطال العمل، لا سيما بطل الفيلم مصطفى شحاتة الذي يقوم بدور «مزمل». يلتزم شحاتة بإيقاع ثابت في أدائه لا يتغير على مدار الفيلم، ويظهر أداؤه على المستوى الجسدي بشكل متصلب خال من التعبير، أو مغالى فيه مثل مشهد نزول «مزمل» إلى النيل في ثورة من الغضب. هناك أيضًا محمود السرجي الذي قدم شخصية سليمان وهي شخصية تقليدية وأقرب إلى الكليشيه. يقدم السرجي أداء ضعيفًا للغاية ولم يستطع ضبط انفعالاته في الكثير من المشاهد. ولا يستثني من أبطال الفيلم سوى إسلام مبارك التي قدمت أداء جيدًا متماسكًا لدور الأم «سكينة».

قد يقول قائل إن أبطال الفيلم ممثلون غير محترفين، وإن هذا الفيلم هو العمل الأول لهم، وهذا صحيح، لكنه لا ينفي مسئولية المخرج الفنية عن هذا المستوى الضعيف للأداء التمثيلي، ويكفي أن نذكر هنا تجربة المخرج الأردني ناجي أبونوار في فيلمه الأول «ذيب» (2014)، إذ قام أبونوار باختيار مجموعة من سكان الصحراء العربية لم يسبق لهم التمثيل من قبل، وقضى معهم فترة طويلة من التدريبات وورش العمل، وقدم واحدًا من أجمل الأفلام العربية في السنوات الأخيرة وخاصة على مستوى الأداء التمثيلي الرائع لكل أبطاله، واستطاع أن ينال عنه عددًا كبيرًا من الجوائز المرموقة.

تشجيع صناع السينما الجدد في أعمالهم الأولى هو أمر مطلوب بالتأكيد، لكن المغالاة في تضخيم إنجازهم الفني، والتغاضي عن المشاكل الفنية الواضحة بدعوى «العمل الأول» هو سلوك لا يعود بالنفع على صانع السينما بأي شكل من الأشكال.

فيلم سوداني

مشاهد المهرجانات يتعرض إلى الكثير من الأفلام والتجارب السينمائية من مختلف الدول حول العالم، والتي تتنوع وتختلف تفاصيلها وعوالمها وأساليبها الفنية، كما تختلف أيضًا في القيمة والجودة. كما أنه يشاهد هذه الأفلام بشكل مكثف على مدار أسبوع على الأكثر، ولهذا يتأثر حكمه على الأفلام بالمقارنة بين مشاهداته الكثيرة والمتنوعة.

تتواتر الإشارة إلى فيلم «ستموت في العشرين» بأنه فيلم سوداني، وبأن هذا إنجاز يستحق الإشادة في ظل الوضع الحالي للسينما السودانية. جنسية الفيلم هي أمر هام في عملية التلقي، إذ تتأثر هذه العملية بمدى ارتباط الفيلم بهوية البلد الذي خرج منه ومدى إلمام المشاهد بهذه الهوية والثقافة، غير أنها ليست عنصرًا فاعلًا في تقييم الفيلم فنيًا. ولهذا فإن الاحتفاء بالهوية السودانية لفيلم «ستموت في العشرين» هو أمر محبذ ومطلوب بالتأكيد، لتشجيع المزيد من التجارب السينمائية لمخرجين سودانيين، خاصة مع وضع حال السينما السودانية في الاعتبار، ولكن هذه الهوية نفسها ليست مسوغًا للمغالاة في تقييم الفيلم فنيًا، أو للتغاضي عن مواطن الضعف فيه.

فيلم «ستموت في العشرين» هو بالتأكيد فيلم هام وجيد الصنع ولا يخلو من الجماليات على المستوى البصري، ويستحق كل الاحتفاء والتقدير لما حققه من إنجاز بمهرجان عالمي مرموق مثل مهرجان فينيسيا، ولكن كل ذلك لا يمنع من الإشارة إلى مواطن الضعف فيه، ولا يجعل من الناقد الذي يفعل ذلك هادمًا للذات الوطنية والقومية، ومفرقًا للجماعات السينيفيلية.