«You Were Never Really Here»: قاتل مأجور يحمينا جميعًا
أنت لم تكن أبدا هنا. كل هذا الفساد، العنف، القتل، لم يكن هنا. رد فعلك العنيف والدموي لم يكن هنا أيضا. هذه مجرد مجموعة من الهلاوس، إنه -حقا- يوم جميل.
هكذا يمكن تفسير اسم الفيلم «You Were Never Really Here» الذي قدمته لنا المخرجة والكاتبة الأسكتلندية «ليني رامسي»، عن رواية قصيرة حملت نفس الاسم للكاتب الأمريكي «جوناثا إيميس». اختارت رامسي رواية تنتمي لفئة الإثارة، العنف وأدب الغموض وحولتها لفيلم درامي نفسي يحمل الكثير من اللمحات الشاعرية.
تدور الحكاية عن قاتل مأجور يسمى «جو» الذي يؤدي دوره الممثل الأمريكي «خواكين فينيكس»، بطل ينتمي لفئة anti-hero، أو البطل/المضاد للبطولة. جو متخصص في إنقاذ الفتيات القاصرات المتورطات في تجارة الجنس قسرًا، جو يملك ماضيًا معقدًا للغاية تعرض فيه لمجموعة من الصدمات المتتالية، بدءًا من طفولة شهدت أذًى، ربما جسديًا، وربما جنسيًا، وربما كليهما، مرورًا بشباب قضاه بين حرب تقتل الأجساد وتمسخ الأرواح -يبدو أنها تدور في الشرق الأوسط-، ونهاية باكتشاف لقدْر لا معقول من العنف والفظائع في مجتمع الاتجار بالقاصرات.
كل هذه الصدمات -والتي تؤكد إصابة جو باضطراب ما بعد الصدمة PTSD- تأتينا من خلال مجموعة من الذكريات المشوشة التي تلاحق جو بين الفينة والأخرى فتحول واقعه جحيمًا لدرجة تدفعه لمحاولة الانتحار بشكل متتالٍ. هذا الماضي المضطرب للغاية يدفع جو للعمل بالوظيفة الوحيدة التي تمكنه من الثأر، جو يحاول أن ينقذ القاصرات من ماضٍ شبيه بماضيه خوفًا من مستقبل شبيه بحاضره، هو يفعل ذلك بأقسى الطرق الممكنة، بيدين عاريتين ومطرقة حديدية، وأقل قدر ممكن من الرصاص.
على الجانب الآخر فهذا الرجل العنيف للغاية يحيا في خدمة أمه العجوز، التي تؤدي دورها «جوديث أنا روبرتس» بسلاسة وحس فكاهي طبيعي يربطنا بها ويجعلنا نشعر بالألفة بمجرد ظهورها على الشاشة. تنجح ليني رامسي إذن من خلال هذه السردية في جمعنا ببطلها في رحلة واحدة، هذا هو الرجل الذي يستحقه مجرمو اليوم، هذا هو القاتل المأجور الذي سيحطم رؤوس من شوهوا عالمنا وآذوا أحباءنا، هذا هو البطل الذي سينقذنا جميعًا.
حكاية نفسية لقاتل يملك ماضيًا مشوشًا يحاول محاربة عالم فاسد وينقذ فتيات قاصرات من تجارة الجنس، لابد أن يعيد هذا لأذهاننا ملحمة مارتن سكورسيزي «Taxi Driver» عن أمريكا السبعينات، لكن نسخة ليني رامسي – الفائزة بجائزة أفضل سيناريو، وأفضل ممثل في مهرجان «كان» 2017- تملك ثلاثة عناصر تخلق لها شخصيتها المختلفة والفريدة.
صورة شاعرية، شريط صوت متدفق، ومونتاج متقطع، هذا ما قدمته ليني رامسي ببراعة شديدة على مستوى الصنعة في هذا الفيلم.
تقدم رامسي على مستوى الصورة انتقالاً متتاليًا بين الكادرات القريبة لملامح أبطالها والكادرات البعيدة لمحيطهم، بالإضافة لتأمل شاعري في لحظات خاصة للغاية، ويكفينا ذكر أنها نجحت في تحويل مشهد غرق جثة ملفوفة في كيس قمامة أسود في قاع بحيرة إلى أجمل لحظات الفيلم على المستوى البصري، خصلة شقراء تنساب خارج هذا السواد تكفي لكسره.
أما على مستوى المونتاج فيقدم «جوي بيني» نقطة تفرد الفيلم الأبرز، المونتاج المتقطع السريع، فيصنع بواسطته سردًا مشوشًا لذكريات «جو» التي تلاحقه، كما يساهم هذا المونتاج بقطعاته السريعة والحادة في خلق حيلة الفيلم الأهم في عدم التحول لفيلم حركة، فلا نرى في معظم الأحيان مشاهد القتل والاشتباك بين جو وأعدائه، قطع سريع ثم صورة لما بعد القتال، ثم قطع سريع مرة أخرى، قطع سريع، خيالات جو، محاولاته لخنق نفسه، ثم قطع سريع مرة أخرى، وهكذا، يساهم هذا المونتاج وخاصة في نصف الفيلم الأخير في صنع جو من الدراما النفسية التي تجعلنا ندور في عقل البطل بدلاً من الدوران حوله.
كل هذا يكتمل بشريط صوت متدفق احتلته موسيقى «جوني جرينوود» بكل ما يحمله الاحتلال من معنى، يبدو مؤكدًا أن جرينوود أكمل عمله برفقة عمليات المونتاج فيبدو شريط الصوت مكملاً لقطعات المونتاج السريعة، ولا تكتفي الموسيقى المتقطعة والكلمات التي تشبه الهمهمات بإضافة جو من الحيرة، الترقب، والتأمل أحيانًا، ولكنها أيضًا تلعب دور المايسترو فتتعالى بشكل متتالٍ قبل أحد مشاهد النهاية -مشهد المواجهة داخل منزل المحافظ- لتصل بالمشاهد لذروة الفيلم في نفس اللحظة التي تتشابك فيها خيوط حبكة السيناريو، وكأننا في كريشندو متداخل بين عناصر الفيلم كافة من سيناريو وصوت وصورة.
كادر أسود، ظهور تدريجي لوجه مختنق بكيس بلاستيكي، عد تنازلي بصوت طفل، الأكسجين ينفد، العد يستمر، اثنان .. واحد .. صفر، قطع مفاجئ، شهقة الرجوع للحياة، هكذا يبدأ الفيلم، وهكذا يتكرر الاختناق ويتكرر العد التنازلي بصور مختلفة طوال الفيلم، «جو» يحاول خنق نفسه ويقوم بالعد التنازلي وهو كبير، «جو» يتذكر نفسه كطفل، عد تنازلي وهو مغمض العينين، «نينا» الفتاة الصغيرة الشقراء التي ينقذها «جو» فتقلب عالمه، نراها في مشهد سابق وهي تغمض عينيها، ويتكرر العد التنازلي بصوتها.
وكأننا نقارب بين الاختناق النفسي الذي يتعرض له ضحايا الاعتداء الجنسي بالاختناق حرفيًا داخل كيس بلاستيكي، تنسحب الروح في الحالتين. رمزيات مثل هذه هي ما يعطي لفيلم قاتم وحزين القدرة على التأثير في مشاهديه ولمس أرواحهم، فالكل يتحدث الآن في السينما عن فقدان الأمل بعالمنا، ولكننا قليلاً ما نحظى بفيلم عدمي جيد الصنعة يمكنه البقاء في أذهاننا.