هل تنقذ المؤسسة القضائية النظام أم تسقطه؟
يوريقراطية Juricracy، أو تسلط المؤسسة القضائية، هذا ما كان يصف به بعض أساتذة القانون الدستوري المستقلين في تركيا، بحسب الباحث الألماني المتخصص في الشأن التركي راينر هيرمان، دولة ما قبل العدالة والتنمية. كانت المؤسسة القضائية في تركيا تنظر إلى ذاتها باعتبارها مسئولة عن حماية تركيا الكمالية، وكانت هذه المهمة هي روح المؤسسة التي يمكن أن تسبق أي قيمة أخرى حتى ولو كانت تلك القيمة هي القانون. كانت تلك المفارقة، أن تسبق حماية الدولة حتى أهمية القانون الذي يحكمها، هي المفارقة التي تعانيها المؤسسات القضائية، أو بالأحرى الفئات التي لم تستوعبها الدولة، في الدول الفاشية.
وإذا كانت الفاشية هي النزوع إلى تقديس الدولة، لا شيء فوق الدولة ولا شيء ضد الدولة، كما يعبر رمزها الأكبر بنيتو موسوليني عنها، فإن الدولة هنا تبقى شخصية اعتبارية لا وجود لها في الواقع إلا عبر النظام الحاكم والذي يرادف القضاة أو غيرهم ممن يرون أنفسهم مسئولين عن حماية الدولة، بينه وبين الدولة. وفي مثل تلك الدولة، يكون القانون كما عرفه فينشنسكي المدعي العام للدولة في الاتحاد السوفييتي إبان مرحلة التطهير الدموية التي قاضها ستالين، هو إرادة الطبقة الحاكمة.
إن تلك الرؤية التي تبدأ كرؤية مثالية تطالب الإنسان بالتضحية بنفسه في سبيل وطنه، تتحول إلى رؤية لاأخلاقية تطالب المواطن بالتضحية بقيم كالعدالة في سبيل الدولة، لاأخلاقية تتجلى في التضحية بالعدل في سبيل الدولة. ولكن التحصين الذي تتمتع به المؤسسة القضائية في اليوريقراطية لا يتوقف عند حد لاأخلاقيتها، وإنما يمتد ليحصن لاعقلانيتها. فاليوريقراطية في جوهرها نزعة لاعقلانية تنظر إلى حكم المؤسسة القضائية باعتباره أمرا إلهيا لا يخضع لقواعد العقل المجرد (مع أن الأمر الإلهي في أكثر المنظورات الدينية لا يفترض فيه إطلاقا أن يعارض تلك القواعد).
يفسر الجوهر اللاعقلاني لليوريقراطية عبثية الإجراءات القضائية في أحكام تلك المؤسسات، التي لم يعد لها من أساس سوى إرادة القوة، والنزعة الطبقية أو العنصرية. وفي تلك المرحلة اللاعقلانية، لا يبقى مناسبا تفسير الأحكام الجزافية بكونها موجهة إلى الجماهير لإقناعها بأن هؤلاء المحكومين مذنبون، وإنما يبدو أن التفسير الوحيد المناسب والممكن هو أن أحد طرفي صراع يريد أن يتخلص نهائيا من الطرف الآخر بقتله أو بسجنه مدى الحياة. إن هذه الأحكام تقوض أسس الدولة وإمكانية العيش المشترك وتدفعها إلى الدخول في صراع دارويني صفري ينتصر فيه الأقوى بإبادة الضعيف.
وفي تلك الأنظمة التي تمثل المؤسسة العسكرية فيها حاميا للدولة، فإن الحديث عن استقلال القضاء هو ضرب من العبث، حيث أن القضاء في تلك الحالة يصير حكرا في يد نوع من البيروقراطية العائلية التي تحافظ على وظيفته الحقيقية في النظام كأداة في يد المؤسسة العسكرية. وفي حالة اليوريقراطية التركية، كان القضاة ونواب العموم يعتبرون أنفسهم في ذلك النظام بمنزلة الحزب والجهة الفاعلة بالسياسة، فهم ينتمون إلى الأحزاب التي تستند على تكليف التحديث الاستبدادي منذ العشرينات (لا ننسى في مصر مثلا أن شيخ الأزهر رفض الاستقالة من الحزب الوطني بعد توليه منصبه، فربما كان ينظر الشيخ إلى الحزب باعتباره وجها آخر للدولة)، ويزداد نشاطهم وفعاليتهم كلما شعروا بأن الحزب الحاكم المقرب منهم يعاني في وجه أحزاب المعارضة. القضاء هنا هو القناع والأداة واليد الطولى التي تمدها المؤسسة العسكرية لتنقذ ما يمكن إنقاذه، لكن ورقة التوت تلك لا تلبث أن تتحول مع الوقت إلى سوءة تسود وجه النظام وتفضح لاعقلانيته وتكشف حتمية إنهائه.
قد يكون التاريخ حقا لاعقلانيا في بعض الأوقات، أو في كثير منها؛ لكن هل يمكن أن تستمر حياة الإنسان، الفرد والنوع، وهي تسير ضد العقل؟! إن الأنظمة السياسية كالأفراد لا يمكن أن تعيش وحيدة معزولة عن مجتمعها الدولي، كما لا يمكن أن يعيش الفرد دون مجتمعه. وعندما يصير نظام ما عبئا على العقل فإنه يصير عبئا على النظام الدولي، كما يصير عبئا على ذاته ومجتمعه، بل وعلى جماعات المصالح التي صنعته، فإن هؤلاء جميعا يلفظونه ليستبدلوه بنظام أكثر منه عقلانية حتى إن لم يكن أكثر منه أخلاقية.