الحاجة للحب والتقبل إحدى الحاجات الإنسانية الأساسية، ليس هناك عيب ما في أن يحتاج الإنسان لمن يشاركه حياته، أن يحبه ويتقبله ويعمل من أجله، أن يدعمه ويساعده في أن يعيش حياة عاطفية مستقرة.

الإنسان الطبيعي يبحث عن الحب بفطرته، الإنسان الطبيعي عندما تفشل قصة حبه يحزن، يكتئب ويعاود البحث مرة أخرى بطريقة تلقائية، بحثه عن الحب لا يعطل حياته ولا يجعله مهووساً بالأمر، أما الإنسان المضطرب نفسياً عندما تفشل قصة حبه يصبح حبيساً للقصة المنتهية، ويتحول بطريقة ما إلى شخص خطر، الشخص المضطرب نفسياً تتوقف حياته عند الرفض، الشخص المضطرب نفسياً يصبح مهووساً بالقصص المنتهية، ويحتاج الحب لدرجة اليأس، الشخص المضطرب نفسياً موجود حولك في كل مكان.

«الراجل الحنين رزق»

منذ أيام انطلق الموسم الثاني من المسلسل الأمريكي «You»، وهو أحد الإنتاجات الأصلية لنتفلكس، المسلسل يحكي قصة جو جولدنبرج بائع الكتب الوسيم الذي يبحث عن الحب، جو لا يمكنه أن يعيش دون فتاة تحبه، يفعل كل شيء حتى يكون جديراً بهذا الحب، يحميها ويحاوطها بالاهتمام، يمكنه بسهولة لعب دور الحبيب المثالي، جو مهتم دوماً وموجود بشدة وداعم حقيقي، جو بإمكانه أن يمنحك كل شيء ويحميك من كل شيء، جو بإمكانه أن يقتل من أجلك، وإذا رفضت حبه، جو من السهل جداً أن يقتلك!

لو قلتي حاجة غير لأ، دا أنا أجيبلك شبكة وشقة دورين حمام بتكييف… واعملك بيتزا بجبنة تشد بعيد… بتمنى أقوم م النوم جمبك على قد ما اعيش… وعسيلي يغني في فرحنا والكل يهيص.
تميم يونس، من أغنية سالمونيلا

منذ أيام قليلة أطلق تميم يونس أغنيته الجديدة سالمونيلا التي يناشد فيها فتاة صادفها في مكان أن تحبه، يعدها أن يصبح حبيباً رائعاً ويمنحها السعادة، غير أنه يقرر أنها لو قالت لأ سوف يتحول فجأة لشخص شرير يقطع البيتزا ويقذفها في وش عسيلي ويطلق عليها الإشاعات أنها مريضة نفسية، سوف يتحول إلى جو جولدنبرج آخر.

أغنية خفيفة كوميدية، لاقت الكثير من الانتقادات بعد ساعات من طرحها على وسائل التواصل الاجتماعي لأنها تحكي عن شاب مريض نفسي بإمكانه أن يؤذي من يحبها إذا رفضت حبه، الفريق الذي أحب الأغنية واعتبرها نوعاً من التهريج يسخر من الفريق الذي يراها أغنية مؤذية ترسخ للحب السايكوباتي المضطرب ويمنحه رداء كوميدياً لطيفاً محبباً، انطلقت مناقشات حادة تستخدم مصطلحات قوية مثل الصوابية السياسية وحرية الإبداع والتمييز الجندري، كل النقاشات تدور وجو ما زال يبحث عن الحب.

السايكو الوسيم

https://www.youtube.com/watch?v=v8RQHJYmJcw

جو في المسلسل شاب عاش طفولة قاسية بين أب مسيئ وأم مستهترة، وعاش مراهقة قاسية بين دور الرعاية المختلفة، حتى تلقاه موني صاحب المكتبة العجوز القاسي وأنقذه وأفسد ما تبقى من حياته، جو مسكين وضعيف ويائس ويحتاج للحب، ولكنه مضطرب نفسياً، ومع ذلك فهو يلقى استحساناً من المشاهدين، جمهور المسلسل يحب جو ويتعاطف معه أحياناً، المريض النفسي السيكوباتي خطير، خطير لأنه يمكن أن يفسد حياتك، بل ينهيها إذا عارضته، وخطير لأنه يلعب بعقلك ومشاعرك، أنت لا يجب أن تتعاطف مع قاتل، ولكنك تتعاطف مع جو أحياناً، هنا تكمن الخطورة.

أغنية تميم يونس يمكنك أن تراها أغنية كوميدية وتردد كلماتها خفيفة الدم وتنسى الأمر برمته، ولكنك عندما تشاهد المسلسل تعرف أن الأمر ليس كوميدياً جداً. الأغنية تقدم لك مجرد لمحة من حياة السيكوباتي الخطر الذي يحتاج للحب، والمسلسل يقدم لك حياته بالكامل. الأغنية لا تشعرك بالخطر، لأن الشر فيها يتمثل في مجرد أمنيات أن تصاب الفتاة التي ترفض الحب بالسمنة والسالمونيلا، ويعايرها بأنها لا تملك فيزا شنيجن، أما المسلسل فيستعرض ما يمكن أن يفعله بك السيكوباتي حقاً، ورغم هذا يحبه الجمهور ويلقبه بالسيكوباتي الوسيم.

الدكتور محمد طه أستاذ واستشاري الطب النفسي وأحد نجوم وسائل التواصل الاجتماعي يقول إن الأغنية ترسخ لمفهوم النرجسية والسيكوباتية في العلاقات بين الرجل والمرأة، وأنها بالنسبة لمجتمع شرقي ذكوري مثل المجتمع المصري نتاج حقيقي وواقعي لشكل العلاقات الأسرية والعاطفية فيه، وأن الحالة التي تمثلها الأغنية بمثابة جرس إنذار جديد يدق معلناً حاجة المجتمع المصري لقوانين حقيقية تجرم الأفعال العدوانية التي ترتكب بحق المرأة في مصر.

تزامنت الأغنية مع حادثة التحرش الجماعية في المنصورة التي كانت ضحيتها فتاة تحرش بها مئات الأشخاص في الشارع في احتفالات رأس السنة، وبرر قطاع كبير من مستخدمي السوشيال ميديا ما حدث لها بكونها ترتدي ملابس كاشفة، ورفض الكثير ممن شهدوا الواقعة مساعدتها وتركوها تواجه مئات الأشخاص الذين كانوا يصرخون في مشهد عبثي جداً يشبه مشاهد افتراس الزومبي للبشر غير المصابين في الأفلام الأجنبية.

الفن والمجتمع

عند مشاهدتك لأغنية تميم يونس وبغض النظر عن الحكم الفني عليها، يبرز سؤال مهم، هل يمكن أن نحكم على الفن بمنأى عن المجتمع الذي يقدم فيه؟ المجتمع المصري المتدين بطبعه والذي يبرر التهام الإناث في الشوارع ويتقبل الإهانة ما دامت موجهة للمرأة ويعامل الرجل دوماً على أنه ضعيف تسوقه غرائزه ولا يستطيع السيطرة عليها، ويقاوم استصدار القوانين التي تجرم الاغتصاب، هذا المجتمع الذي صنفت عاصمته كواحدة من أكثر المدن خطراً على النساء طبقاً لإحصائيات عالمية؟

مؤخراً أثارت قضية الفتاة الصعيدية التي تم اغتصابها من ثلاثة أشخاص وهجرت من قريتها وتنازل والدها عن القضية ووقفت وحدها في المحكمة مع محاميها تناشد القاضي أن يستمر النظر في القضية وألا تنتهي بالصلح كمعظم قضايا الاغتصاب انتباه الرأي العام، أيضاً قضية المراهق الذي قتل جاره لأنه دافع عن فتاة تحرش بها هذا الجار وانتهت القضية بسجن المجرم لأنه قاصر، مجتمع يعج بالمشاكل الحقيقية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلاقات والحب والجنس والرفض والقبول، هذا مجتمع يجب أن تتوقف أمامه أغنية عشان تبقى تقولي لأ طويلاً.

بعد انطلاق الأغنية وتضارب ردود الفعل حولها، خرج تميم يونس بفيديو يشرح فيه أنه لم يكن يقصد إهانة المرأة وأنه لا يبرر للجرائم التي يرتكبها فئة من الرجال بحق المرأة التي ترفض الدخول في علاقة معهم، ولكنه يستعرض حالة موجودة فعلاً، على جانب آخر فقد انتشرت مجموعة من الاتهامات لتميم شخصياً بالتحرش، منها اتهام من المخرجة المصرية عايدة الكاشف، وبغض النظر عن شخص تميم يونس نفسه ومقصده من الأغنية، ولكن تقبل المجتمع للأغنية يشبه بالضبط نفس اللغط الدائر حول نوعية الفن التي يقدمها محمد رمضان مثلاً واعتراض الجمهور عليها لأنها ترسخ لشخصية البلطجي الناجح الذي يصبح قدوة، أغنية سالمونيلا أيضاً تواجه نفس الأزمة، أزمة أنها تقدم لمجتمع يتلهف على أي شيء يبرر به فساده واضطرابه ومشكلاته العميقة.

المشكلة الحقيقية ليست في الأغنية في حد ذاتها، المشكلة أن الأغنية تقدم لجمهور مصري، جمهور يقدس الباد بوي ويعاني من مشاكل عميقة بين الرجل والمرأة، جمهور يعيش في وطن يعاني من قلة كل الموارد التي تنتج إنساناً سوياً، المشكلة قد تكون في أن المجتمع المصري غير جاهز للديموقراطية كما قال عمر سليمان.