السترات الصفراء: روح الشعب التي لا تموت
جذبت حركة السترات الصفراء الفرنسية الاهتمام في مصر والعالم العربي بصورة كبيرة، فالفرنسيون نزلوا إلى الشارع مطالبين بتحسين أحوالهم الاقتصادية وإلغاء الضرائب على الوقود ورفع الحد الأدنى للأجور وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء.
وكان قوام حركة «السترات الصفراء» سكان الأرياف والضواحي والطبقات الفقيرة والمتوسطة التي لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الضرائب، في سياق نظام ينحاز للأغنياء وكبار الملاك وطبقات رجال المال والأعمال والبنوك والصناعة، ويتعامل بعنجهية وتعال مع الطبقات الكادحة والتي يزداد عبء الأحوال المعيشية على كاهلها بالمزيد من الضرائب.
تدخل حركة السترات الصفراء تحت مسمى ما يُطلق عليه في العلوم الاجتماعية «الحركات الاجتماعية الجديدة NSM»، وهذه الحركات الاجتماعية تُعرف بأنها حركات مرنة وشائعة، أي أنها بلا هيكل قيادي واضح أو هيكل رأسي، كما هو الحال في التنظيمات والجماعات والحركات الاجتماعية التقليدية، ومعنى شيوعها أي أنها لا تعبر عن طبقة محددة، ولكنها تشيع بين كل الطبقات وتجتذب كافة الأيديولوجيات، فهي عبارة عن مظلة Umbrella تتجمع تحتها كل القوى التي ترفض الإجراءات التي تؤدي إلى المزيد من الشروخ الاجتماعية بين الطبقات.
لماذا انتفض الفرنسيون؟
ترسخ السياسات الاقتصادية التي يُطلق عليها «النيوليبرالية»، التي تنظر للفقراء ومتوسطي الدخل بأنهم كسالى ويستحقون الفقر الذي يعيشونه، ممارساتها تجاه الفقراء والمتوسطين بأنهم لم يبذلوا ما يجب عليهم ليتحقق لهم الثراء والغنى كأولئك الفالحين الذين استطاعوا تحقيق الثراء وهم في الحقيقة لم يكونوا قادرين على تحقيقه إلا لأن السياسات الاقتصادية انحازت إلى شرههم الذي لا يكف عن اكتناز الأموال وتوظيفها لتحقيق مزيد من الكسب والربح ليس عن طريق العمل وإنما عن طريق المال.
تتسع الاحتجاجات التي تعبر عن حركة السترات الصفراء بقدرتها على جذب المزيد من المؤيدين لها، فقد جذبت إليها قطاعات من طلاب الثانويات والجامعات، كما جذبت إليها سكان المدن واستطاعت أن تنتقل من الأرياف والضواحي إلى قلب العاصمة الباريسيه، حيث مثلت تحديًا كبيرًا للرئيس الفرنسي ولنظامه وحكومته، وهو ما أرغم النظام على التراجع وتعليق قراره بفرض الضرائب على الوقود من أجل دعم أشكال جديدة من السيارات صديقة البيئة والتي لا يستطيع المتظاهرون والمحتجون شراءها مع ضغوط الحياة الصعبة التي يواجهونها.
هناك مشكلة بنيوية في النظام السياسي الفرنسي تتمثل في عجزه وعدم قدرته على النفاذ للطبقات المتوسطة الدنيا والفقيرة، كما أن الحركات الاجتماعية هناك تعمل خارج المؤسسات الرسمية، وذلك لأن رؤيتها أنها لا تعبر عنها، ومن ثم فإنها تعني عجز الأحزاب السياسية بل وعجز النقابات أن تكون قادرة على الدفاع عن مطالب الفئات التي نزلت إلى الشارع مباشرة لتعبر عن سخطها ورفضها لما تعتبره استهانة بمطالبها وعدم التفات لسماع مطالبها وصوتها.
تقدم الحركة الاجتماعية ما يُطلق عليه عادة «الإطار العام لمرجعية الاحتجاج»، والذي يعبر عن مطالبها العامة بالمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير حد الكرامة الإنسانية الذي يعني توفير شروط كريمة للحياة. صحيح أنه ليس هناك أيديولوجيات واضحة للحركة؛ بيد أنه لديها مطالب عامة تستطيع ليس فقط جذب الفئات الاجتماعية المضارة من سياسات الحكومة؛ وإنما أيضًا يمكنها اختراق التيارات الرئيسية في المجتمع وتذكيرها بمبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي قامت على أساسها الثورة الفرنسية والجمهورية وثورة الطلاب في مايو عام 1968.
إن قدرة حركة السترات الصفراء على التظاهر المستمر لأربعة أسابيع متصلة يعني أن الحركة استطاعت أن تنجح في اختراق قيم التيار الرئيسي في المجتمع وإظهار نفاق النخب السياسية والطبقات الحاكمة وأنها لا تعبر عن القيم التي قامت عليها فرنسا وقامت عليها الجمهورية.
الحراك الفرنسي وقيم الجمهورية
كان لدى حركة «السترات الصفراء» ما يُطلق عليه «الفرصة الثقافية»، أي القدرة على تقديم نفسها باعتبارها محاولة لاستعادة قيم الجمهورية التي اهتزت تحت سنابك السياسات الاقتصادية المستهترة والتي لا تعبر عن التيار الرئيسي في المجتمع القائم، الذي تعاقد اجتماعيًا وسياسيًا على احترام قيمة المساواة والعدالة وتحقيق جسور لتوحيد المجتمع، وليس بناء أسوار عازلة بين الطبقات عبر ما يُطلق عليه «العزل الاجتماعي الاختياري للأغنياء» و«العزل الاجتماعي الإجباري للفقراء»، حيث يكون الأغنياء فيه هم من يختارون لأنفسهم عزلة في أبراج عاجية من الحياة المخملية، بينما يٌفرض على الفقراء أن يعيشوا في أحياء فقيرة وضواحٍ لا تمتلك الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
كما كان هناك ما يُطلق عليه «الفرصة السياسية»، حيث كان تعامل الحكومة مع المظاهرات والاحتجاجات عبر القانون، وكانت الشرطة تعرف حدودها ومسئولياتها، ومن ثم أبدت قدرًا من التعاطف مع المحتجين، ولم يكن هناك عنف أو تعمد إراقة الدماء أو الاستهانة بأرواح الذين خرجوا في مواجهة النظام وسياساته باعتبارها سياسات ظالمة.
احترم الجميع التظاهر والتزمت الدولة خطة الحفاظ على أرواح المتظاهرين. صحيح أن أكثر من ألف متظاهر قد تم القبض عليهم في الأسبوع الرابع، لكن الحقيقة أنه لم يُقتل أي أحد، وبدت سياسات الدولة وسلوك الشرطة ملتزمًا بالقانون، وهو ما منح الحركة فرصة الاستمرار في الخروج عبر استخدام الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعي.
لا ريب في أن أدوات التواصل الاجتماعي مثلت فرصة للحركة لتعبر من خلالها عن حضورها وقدرتها على النفاذ إلى قطاعات الشباب خاصة، بل النفاذ إلى دول مجاورة مثل بلجيكا وهولندا،ولذا فإننا بإزاء ما يمكن أن نُطلق عليه «ربيعًا أوروبيًا» تسعي من خلاله حركة السترات الصفراء لإعادة الاعتبار لقيم العدالة والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية ، كما كان الربيع العربي يحاول عام 2011.
ما يجري في باريس يتابعه الشباب في العالم العربي وتراودهم أحلامهم أن وهج الربيع العربي لا يزال بعد لم يطفأ، وأنه يشع اليوم في عاصمة النور ويسري في بلدان مجاورة كهولندا وبلجيكا وهو ما يعني أن جذوته لم تطفأ بعد.
يكتب الشباب الفرنسي المتظاهر على الحوائط 1968-2018 إشارة إلى ثورة الطلاب والعمال في أواخر الستينيات والتي انتهت بالفشل، بيد أنها فتحت الباب واسعًا لنقد المجتمعات الرأسمالية بوصفها مجتمعات للاستعراض والاستهلاك والإنتاج بلا هدف ولا معنى عبر عملية عقلنة رأسمالية ذات طابع أداتي تُفقد الإنسان إنسانيته.
كان الربيع العربي 2011 رمزًا لاستمرار الثورة على الظلم، وليقول من جديد إن التاريخ لم يمت بعد، وإن ثورة 1968 الفرنسية تجد روحها الجديدة تُبعث هنا في مصر وفي تونس، وها هي حركة السترات الصفراء تقول أيضًا إن الربيع العربي لا يزال حيًا وإن قوى الثورة المضادة الكارهة له تتبدد أحلامها في إخماده، فلا يزال تحت الرماد وميض ناره يُوشك أن يكون له ضرام.