سنوات التيه: «الإخوان المسلمون» بعد محمود عزت
تعيش جماعة الإخوان المسلمين اليوم واحدة من أحلك فتراتها في التاريخ، إذ تتعرض منذ منتصف عام 2013 لعملية اجتثاث عنيفة في مصر، وتفقد حلفاءها الإقليميين لا سيما تركيا التي تسابق لتطبيع علاقاتها مع مصر، ما يهدد المساحة الآمنة التي وفرت ملجأ لأفراد الجماعة على مدى 8 سنوات، كما سمحت بإقامة أنشطتها المعارضة ومنحها متنفسًا في ظل سعي النظام المصري لإنهاء وجودها، ليس فقط بالمعنى السياسي، وإنما الاجتماعي والدعوي أيضًا.
يضع ذلك قادة الجماعة وأفرادها أمام تحدٍّ عسير يبدون أمامه عاجزين عن الصمود، فضلًا عن الحفاظ على تنظيمهم، لكن عددًا ممن يُحسَبون على القيادة التاريخية ما زالوا يراهنون على عامل الوقت وحده أملًا في عودة تدريجية إلى المشهد تعقب رحيل السيسي، في تكرار لمصالحة الجماعة مع السادات بعد وفاة عبد الناصر، متجاهلين تغير السياق السياسي الذي سمح بتلك العودة قديمًا، فضلًا عن الأوضاع الاجتماعية التي هيأت الظروف لبزوغ ما أُطلق عليه «الصحوة الإسلامية» في سبعينيات القرن الماضي، وهي التي يبدو أن الإقليم بأكمله يتراجع عنها اليوم.
جذور الصراع الداخلي
يعيش الإخوان المسلمون أزمة قيادة ربما ترجع إلى بدايات عام 2010 حينما انتُخب محمد بديع مرشدًا للجماعة، وهو الشخصية الدعوية التي لم تكن معروفة بدرجة كبيرة لدى الأوساط السياسية. صعود بديع جاء في مرحلة مفصلية إثر صراع دار بين تيارين يمكن تسميتهما مجازًا بالمحافظين والإصلاحيين.
التيار الذي كان يقوده في ذلك الوقت محمود عزت وخيرت الشاطر، ويميل للالتفاف حول التنظيم والتقارب يمينًا مع التيارات الإسلامية بدلًا من الانفتاح على التيارات السياسية العلمانية، حسم الصراع لصالحه وأقصى عددًا من رموز التيار الإصلاحي، على رأسهم عبد المنعم أبو الفتوح، الذين كانوا يميلون لتقديم مقاربات أكثر تقدمية.
أزمة القيادة عادت للظهور مع بروز الشخصية القوية لنائب المرشد خيرت الشاطر الذي أمسك بزمام الأمور إلى جانب محمود عزت صاحب الخبرة التنظيمية الكبيرة، ولعب الاثنان الدور الأبرز في خيارات الجماعة لا سيما قرار الترشح للرئاسة والتحالف مع الجيش واسترضاء التيار السلفي.
يمكن القول إن الجماعة دفعت ثمن خياراتها السياسية التي اعتُبرت إقصائية وغير واعية، إذ استبعدت شركاء الثورة من التيارات العلمانية، ولم تنجح في إرضاء حلفائها الذين انقضوا عليها لاحقًا بمساعدة بقايا نظام مبارك وشركاء الميدان، ليجد الإخوان المسلمون أنفسهم وحيدين تمامًا وتبدأ سنوات التيه تزامنًا مع تعرضهم لموجة قمع ورفض إقليمي غير مسبوقين.
إثر إزاحة الإخوان من السلطة واستهداف قادتها توارى غالبية من نجوا منهم خشية القبض عليهم، تاركين مهمة قيادة الجماعة لعدد من رموز الصفين الثاني والثالث الذين تسهل حركتهم، كون قوات الأمن لا تعرف الكثير عنهم مقارنة بقادة الصف الأول. قام هؤلاء بإدارة الأنشطة التي تركزت على الأعمال الاحتجاجية ضد السلطة الجديدة. لكن بعد سنوات قليلة، اضطُرت رموز الجماعة للظهور مجددًا والدخول في صراع مع القيادة المؤقتة التي لجأت لاستخدام العنف باعتباره أحد أدوات الصراع مع السلطة. القيادة التاريخية رأت أن هذا المسار يخدم مصلحة النظام ويسهل مهمته في اجتثاث الجماعة، إذ يعزز من اعتبارها تنظيمًا إرهابيًّا؛ وهي المقاربة الإقليمية التي يجري العمل بها منذ 2013.
هذا الظهور تكلل بإعادة السيطرة على الجماعة، لكن القادة التاريخيين دفعوا ثمنه باهظًا بالقبض عليهم واحدًا تلو الآخر، فسقط الرجل الثاني داخل مصر محمد عبد الرحمن، وفي نفس الوقت تلقى الجناح الآخر ضربات عنيفة على رأسها تصفية زعيمه محمد كمال، ليتبقى اسم واحد هو محمود عزت الذي سينجح في الإفلات من قبضة الأمن إلى سقوطه في صيف عام 2020، كاتبًا فصل النهاية لقادة الداخل ومسلمًا الراية إلى إبراهيم منير ومحمود حسين خارج مصر.
انتخابات معطلة ورؤية غائبة
شكل انتقال القيادة خارج مصر وضعًا غير مألوف جعل الجماعة أمام تحديات تنظيمية جديدة، لكنه لم يقلل مع ذلك من حدة الصراع الداخلي الذي بات يدور حول صلاحيات وهمية في ظل ضعف ماكينة العمل وانصراف غالبية الأعضاء عنها.
مجددًا، دفع الإخوان المسلمون ثمن ضعف آليات الديمقراطية داخل حركتهم، وصار النفوذ التنظيمي والتحكم في مصادر التمويل قادرَيْن وحدهما على حسم صراعات القيادة في ظل غياب تام لأي رؤية من شأنها أن تحسن من وضع الجماعة أو تسعى لإنهاء أزمتها.
لجأ قادة الجماعة في لندن وإسطنبول لتشكيل لجان عديدة، غالبيتها يتم اختيار أعضائها بالتعيين المباشر، ويمكن إقالتهم في أي لحظة بقرارات فوقية، ومن ثم تشكيل لجان جديدة تبدو جميعها مؤقتة، وكأن الجماعة اختارت أن تدخل نفسها في حالة جمود تام انتظارًا لقادتها المسجونين رغم استبعاد الإفراج عنهم في ظل الوضع الحالي.
مكتب الإرشاد الذي يعتبر أعلى سلطة إدارية بالجماعة فقد اثنين من أعضائه بالوفاة، ويقبع أربعة عشر عضوًا آخرون في السجون ليتبقى منه اسم واحد هو محمود حسين الذي كان يشغل منصب الأمين العام، ويبدو أن صراعًا مكتومًا يدور بينه وبين إبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد، حيث اعتبره منير عضوًا عاديًّا في اللجنة الإدارية التي شكلها لإدارة الجماعة بعد توقيف عزت، كما نشرت مواقع مقربة للجماعة نية منير إجراء انتخابات جديدة لا يُسمح فيها بترشح المسؤولين الحاليين، وهو ما يُفهم منه الرغبة في استبعاد حسين.
«مجلس الشورى العام» الذي يعتبر أعلى سلطة رقابية بالجماعة ويُنتخب منه مكتب الإرشاد انهار هو الآخر، إذ يوجد به اليوم نحو تسعين مقعدًا شاغرًا من إجمالي مائة وسبعة عشر مقعدًا، وذلك بعد توقيف ثلاثة وخمسين من أعضائه ووفاة سبعة وثلاثين آخرين، ليتبقى منه سبعة وعشرون عضوًا فقط، اعتذر ثلاثة منهم عن الاستمرار في دورهم.
قيادة الجماعة اعتادت الاحتفاظ للأعضاء المسجونين بمقاعدهم، لكن بالوضع في الاعتبار أن شرعية هؤلاء جميعًا كانت تنتهي قبل عدة سنوات، إذ إنهم منتخبون منذ عام 2010، فضلًا عن الاضطرار لمخالفة اللائحة مرات عديدة تحت ضغوط الواقع غير المعتاد، يظهر أن إبراهيم منير ومن معه إما أنهم لا يستطيعون تجاوز القيادة التاريخية التي تقبع اليوم في السجون، أو أنهم قلقون من أن تؤدي أي انتخابات لتغير في مسار الجماعة يعتبرونه انحرافًا عن رسالتها، والنتيجة هي حالة جمود تنظيمي وغياب لأي رؤية ما يؤدي لتآكل شرعية الجماعة في نظر أعضائها ويفتح الباب لتجاوزها.
الرهان على الأيديولوجيا
خيارات الإخوان في المنفى محدودة، وتتسم أيضًا بالعشوائية وافتقاد الحس السياسي، ففي الوقت الذي يتجه النظام التركي إلى تطبيع علاقته مع مصر، يلجأ قادة الجماعة للاجتماع مع حزب السعادة ذي التأثير المحدود، في بحث عن تلاقٍ أيديولوجي كَوْن الأخير هو وريث الأحزاب التي أسسها الزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان.
لكن ما فات الإخوان هو أن الحزب يقف حتى اليوم ضمن صفوف المعارضة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بل ينظر إلى الأخير باعتباره حزبًا علمانيًّا منشقًّا عن حركة إسلامية. ورغم اشتراك الإخوان السابق مع هذه الرؤية والتأكيد على أنهم أقرب فكريًّا إلى أربكان من أردوغان، إلَّا أن الظرف السياسي الحالي ليس مواتيًا لأي مهاترة سياسية، وهو ما تؤكده رسالة «الشكر والتقدير» التي نشرها إبراهيم منير عقب الزيارة، وأكد فيها وفاء الجماعة لكرم الضيافة واحترامها للقوانين والنظم الداخلية في تركيا.
الزيارة لا تأتي كمحاولة من الجماعة لتسويق قضيتها بين أطراف تركية غير حكومية، إذ كان الأولى لها أن تقوم بذلك منذ سنوات طويلة، حيث يعتمد خطاب حزبيْ المعارضة الرئيسية بالفعل (حزب الشعب الجمهوري وحزب الجيّد) على ضرورة التخلي عن الإخوان، بل يذهبان بعيدًا إلى درجة القول باحترام قرار مصر تصنيفها جماعة إرهابية، ويشبِّه قادة الحزبين الأمر بتصنيف تركيا لحزب العمال الكردستاني باعتباره تنظيمًا إرهابيًّا.
هذا كله فضلًا عن القدرة المحدودة لحزب السعادة على التأثير في السياسة التركية، ما يعني أن زيارة الإخوان لم تأتِ إلا بسبب التقارب الفكري معه، في وقت تبدو فيه حكومة العدالة والتنمية في طريقها لتغيير موقفها قليلًا تجاه الجماعة، ما يشير مجددًا إلى لجوء الإخوان للأيديولوجيا الإسلامية كحل وحيد في مواجهة جميع تحدياتها، ويدل بدرجة ما على أن سنوات التيه تلك وما سبقها من صراع سياسي خسرته الجماعة لم يضيفا إلى رصيدها سوى التشبث بخيارات غير براجماتية، ما يزيد من أزمتها ويقودها نحو مصير يشبه تمامًا مصير حزب السعادة نفسه.