رحلتها من نيتشه إلى نيبال: ياسمين صبري ولعنة الفتاة الجميلة
وجه ينبض بالأنوثة الطاغية، وكذلك الجسد، ابتسامة ساحرة تخطف القلوب، وروح خفيفة تطفو على نغمات الصوت النسائي الحاد والحنون، صورة مثالية للمرأة التي تتفق ومعايير الجمال للقرن الحادي والعشرين، ما جعلها أيقونة تهافتت على التعاقد معها مجلات الأزياء والعلامات التجارية العالمية، تلك هي ياسمين صبري، الممثلة المصرية الشابة المثيرة للجدل، وذات الإمكانيات الفنية المحدودة.
لطالما رافقت الجميلات الناجحات وصمة لا تكاد تتركهم أينما حللن وارتحلن، ألا وهي لعنة الجمال، نعم الجمال يمكن أن يكون لعنة طبعًا، فكم من الأشخاص الذين لا يرون سببًا لنجاح المرأة الجميلة سوى أنها فقط جميلة، تلك الرؤية التي بالطبع تقع في فخ مغالطتي التعميم والانحياز التأكيدي، ولكنها أيضًا لا تخلو من الوجاهة المنطقية، ففي عالم يضع المظاهر على رأس أولوياته، يكون الجمال عاملًا ضروريًا من عوامل القبول الاجتماعي، وبالتالي النجاح.
يبدو أن تلك الفكرة شعرت بها ياسمين، كما أنه من الواضح أيضًا أنها أدركت حقيقة إمكانياتها الفنية المحدودة أو الضعيفة التي لا ترتقي لمستوى جميلات السينما المصرية عبر تاريخها اللاتي جمعن بين الموهبة والسحر النسائي، مقابل جمالها البرّاق الذي ربما لم يختلف عليه شخصان، فأخذت على عاتقها عناء نفي تلك الفكرة من خلال التأكيد على كونها إنسانًا مثقفًا ذا نظرة فلسفية عميقة تضرب على الأوتار الحساسة لجوهر الحياة ومعاني الأشياء.
وعلى الرغم من محاولاتها المستمرة والمستميتة، لم يقتنع الجمهور بما تحاول ياسمين ترويجه، ربما لأن الجمهور لا يمكن خداعه، وربما لأنها حتى لم تنجح في رسم شخصية الفنان المثقف بالجودة الكافية التي تجعل الكذبة حقيقة.
نيتشه وهتلر وياسمين صبري
سُئلت ياسمين من أحد المراسلين بمهرجان الجونة السينمائي حول رأيها عن جائحة كورونا، خلال أخطر فترات الجائحة وأكثرها عنفًا ووحشية، بالطبع لم تستطع أن تجيب الإجابة البسيطة المستساغة التي لن يتوقف عندها أحد، حيث اختارت مجددًا الجواب الذي يمكن أن يحمل في طياته حكمة ما، أو رؤية تنم عن عقل يتقد بالذكاء، فأجابت: «أنا مش مهووسة بالخوف من المرض، أكيد هييجي للعالم كله، واللي ياخده ياخده واللي يكمل يكمل.. والبقاء للأقوى»!
القوة، لطالما احتلت مكانًا مميزًا في الفلسفة، وربما تظهر أبرز تجلياتها عند الفيلسوف الألماني الشهير «فريدريك نيتشه»، الذي اتخذ من إرادة القوة أساسًا لتشييد مشروعه الفلسفي برمته، حيث اعتبر «نيتشه» أن الإنسانية يجب أن تنطلق من مفهوم إرادة القوة الذي من شأنه أن يعبر بالإنسان من القيم التي تمجد الضعف وكل ما يتأتى عنه، إلى رحاب القوة التي ستسمو بالإنسانية وتحررها من أغلال الأخلاق الهدامة.
ولكن ما علاقة ياسمين صبري بفريدريك نيتشه، هل كانت تقصد القوة التي بشّر بها نيتشه؟ في غالب الظن لا، ولكنها قصدت بالطبع أحد تجليات الفلسفة النيتشوية في العصر الحديث، وفي الغالب أيضًا دون دراية منها، لقد تحدثت ياسمين عن النازية!
نعم تمامًا كما قرأت، النازية؛ اعتقد الحزب النازي الألماني الغني عن التعريف أن فقط الأقوياء هم من يستحقون الحياة، ولم يتوقف الأمر عند الاعتقاد فقط، فخلال فترة حكمه سيئة الذكر لألمانيا، قام الحزب النازي بإعدام الآلاف من ذوي الإعاقات الجسدية والعقلية ظنًا منه أنهم غير قادرين على العمل والاشتراك في عجلة الإنتاج، إضافة لكونهم يشكلون عبئًا على المجتمع أيضًا.
في ظل جائحة عالمية مروعة أصابت ربما جميع البشر على الكوكب بحسب تقديرات بعض الخبراء، لم يكن ردًا كهذا الرد يناسب أدنى درجات اللياقة الاجتماعية، بل وحتى البداهة، للتعاطف مع ملايين البشر الذين فقدوا ذويهم جراء المرض اللعين، بل وبالأحرى بعض زملائها في الوسط الفني الذين توفوا أو فقدوا أقرباءهم.
لم تكن ياسمين تدرك بالطبع أن حديثها يمكن أن يذهب إلى هذا البُعد، ولكن مجددًا، هي فقط مَن تتحمل مسؤولية ما تتفوه به، فإذا اختارت ارتداء ثوب الحكمة، فلا بد لها أن تتقبل تبعات اختياراتها.
السر: ثقة الأغبياء
قالت ياسمين في أحد لقاءاتها التلفزيونية إن أول كتاب قرأته في علم النفس هو كتاب «The Secret» أو «السر» وأشارت إلى أنه كان البوابة التي دخلت منها إلى عالم علم النفس الذي وقعت في حبه لاحقًا، وأضافت أن الكتاب الثاني كان «اكتشف قواك الخفية»، الذي بدوره ساعدها في التعرُّف على نفسها بحسب ما صرحت به.
لم تكتفِ ياسمين بهذا القدر، فقد قالت إنها شعرت بأنها تريد أن تتعرف أكثر على «علم النفس» بعد قراءتها للكتابين السابق ذكرهما، وذلك ما دفعها لأن تقرر أن تدرس علم النفس في جامعة هارفارد!
تدور أفكار الكتاب الأول «السر» حول ما يعرف بنظرية الجذب، وفحواها باختصار أن التفكير الإيجابي قادر على تغيير حياة الإنسان للأفضل من خلال جذب المواقف والظروف الإيجابية، عن طريق طاقة الجذب التي تنتشر في الكون وتلاحق من يستدعيها، أو بعبارة واحدة، ما تبحث عنه يبحث عنك.
لا بد وأنك دُهشت من الفكرة التي ربطتها ياسمين صبري بعلم النفس، فهي لا تمت بعلم النفس بصلة لا من قريب ولا من بعيد، ولا حتى لأي من العلوم التجريبية أو الإنسانية، فهي من النوع الذي يطلق عليه فلاسفة العلم «علم زائف»، التي لا تختلف كثيرًا عن أساطير الأبراج وحظك اليوم وغيرها من الألاعيب العقلية الرائجة؛ ولا يعد الكتاب الثاني مختلفًا أيضًا، فهو كتاب شهير من كتب التنمية البشرية الأعلى مبيعًا المتخصصة في تزويد الكسالى بالأوهام السعيدة.
هنا تكون الفاجعة مضاعفة، فالأزمة لا تكمن فقط في التأثُّر بتلك الأفكار الطفولية الساذجة، بل أيضًا في اعتبار هذه الخزعبلات تنتمي إلى علم النفس، ففي الواقع هذا لا ينم على شيء إلا أن ياسمين لم تقرأ حرفًا في علم النفس في حياتها، أو ربما جمعت معلوماتها عنه من منشورات مواقع التواصل الاجتماعي التي تروج للعبارات الميلودرامية المبتذلة كنوع من أنواع علم النفس.
بل وذهبت ياسمين إلى حد الشروع في دراسة علم النفس في جامعة هارفارد، إحدى أعرق وأهم الجامعات في العالم.
تخيل معي صديقي القارئ، فقط أطلق العنان لخيالك وتصور معي هذا المشهد، في المحاضرة الأولى بجامعة هارفارد، يسأل الأستاذ المسؤول عن تدريس المواد المدخلية لعلم النفس الطلاب الحاضرين عن الكتب التي قرأوها في علم النفس أو عن ماذا يعروفون بشأن علم النفس عمومًا؛ فتنطلق ياسمين مبادرة للإجابة عن السؤال، ومعبرة عن حبها العميق لعلم النفس وتأثيره على حياتها، ثم تذكر الكتابين اللذين تسببا في وقوعها بغرام علم النفس.
ليبتسم الأستاذ المحاضر، ويشكرها على إجابتها وحماسها، ويخبرها أن كتابي «السر» و«اكتشف قواك الخفية» لا يمتّا لعلم النفس بصلة، ويؤكد لها أنه لا داعي للقلق والإحباط، فهنا ستتعرف على علم النفس الحقيقي.
تتغير ملامح وجه ياسمين، وتتبدل من الحماس إلى الدهشة وربما قليل من الإحراج، وتبدأ في التفكير حول الكلية التي يُدرّس بها قانون الجذب.. انتهى المشهد.
راهب بوذي في الهيمالايا
للمفارقة، ربما يكون المشهد الخيالي الذي رويناه آنفًا يحمل قدرًا من الحقيقة في داخله، بالطبع من قبيل المصادفة ليس إلا، فياسمين ربما تكون أدركت أن علم النفس ليس المجال الذي يناسب اهتماماتها، فقررت التوجه إلى دراسة ما تهتم حقًا به، وهو ما يطلق عليه علم الطاقة.
ذكرت ياسمين خلال لقاء من لقاءاتها الكثيرة التي دومًا ما تحمل الأخبار «السعيدة» لمتابعيها، أنها ذهبت إلى دولة نيبال التي تتميز بوجود عديد من الكوادر والمؤسسات المتخصصة في تدريس علوم الطاقة والروحانيات، بحسب ما قالت؛ كما أشارت إلى ممارستها لليوجا برفقة راهب بوذي زاهد، ذلك الحكيم الأسطوري الذي أخبرها بأن معاناة البشر تكمن في شيئين اثنين لا ثالث لهما، هما: التعلُّق والجهل.
يعد الزهد العام من بين أهم القيم التي روجت لها الفلسفات الشرقية وعلى رأسها البوذية طبعًا، الذي تسرّب إلى الفلسفة الغربية على نحو أوضح من خلال الفيلسوف الألماني الشهير «آرثر شوبنهاور»، الذي جمع بين الفلسفة البوذية التي نظرت إلى العالم بنظرة زاهدة غير مبالية، والأدوات العقلية والفلسفية للفكر الغربي، لينتج في النهاية نموذجًا فلسفيًا أصيلًا استطاع أن يحتل مكانة مهمة في تاريخ الفكر الغربي، وظل حتى الآن من بين أشهر إنتاجات الفلسفة الأوروبية.
لكن تلك الفكرة لاقت نقدًا واسعًا في الفلسفات الغربية اللاحقة، حيث اعتبر علماء الاجتماع في القرن العشرين أنها باتت لا تناسب الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المعاصر، ليس فقط لأنها تتبنى موقفًا عدميًا من العالم، بل لأنها بالأحرى تعد استسلامًا لمنظومة السوق الرأسمالية التي تهدف لتكديس الثروات واحتكار أدوات الإنتاج في يد حفنة صغيرة من المُلاك.
كما اهتم بها أيضًا علماء النفس، وعلى رأسهم «إريك فروم»، الذين رأوا أن الترويج لقيم الزهد في ظل حياة العالم الرأسمالي المعاصر يعد سلاحًا نفسيًا يهدف لتفريغ طاقة السخط وإرادة التغيير، وتحويلها من أن تكون موجهة ضد منظومة السوق غير العادلة، إلى مجرد مجموعة من الطقوس التأملية التي تحاول تغيير الذات بدلًا من تغيير الواقع المسبب للمعاناة والآلام.
وبغض النظر عن آراء الفلاسفة والمفكرين الجدد في الزهد وعلاقته بالمجتمع الرأسمالي، تظل هناك فكرة أساسية ترتبط بما قالته ياسمين بصفتها ممثلة وشخصية عامة تمتلك جميع أدوات الترف والحياة الرغدة، من مال وجمال وشهرة ومكانة اجتماعية، حيث يكون هنا الزهد الذي تدّعي ياسمين أنها تتعلم من منتسبيه مجرد شعارات لا تتعدى حاجز الترف الفكري الذي توفره لها حياتها السهلة.
تلك الحياة التي لا تتوفر للغالبية العظمى من البشر، لا سيما في المجتمع الذي تنتمي إليه ياسمين، حيث لا تتوفر لهم المساحة الكافية من الوقت ولا المجهود ولا القدرات المالية التي تمكنهم من الاعتقاد في الزهد والترفع عن العالم، العالم الذي يكافحون فيه يوميًا ربما فقط من أجل البقاء.. وهنا تغدو كلمات ياسمين العفوية مجرد حماقة جديدة تشير إلى مدى اتساع المسافة بين عالم ياسمين صبري والعالم الحقيقي.
وختامًا، ليس المقصود بالطبع من تلك الكلمات تخصيص نقدٍ شخصيٍ لياسمين صبري، فهي ليست مسؤولة ولا صانعة قرار، هي مجرد إنسان يحاول التعبير عن رؤيته للعالم، ولكن ما نصبو إليه تحديدًا هو الاشتباك مع ذلك الخطاب الذي بات يغلف أتفه وأكثر الكلمات والأفكار ابتذالًا بغلاف الحكمة والمعرفة والنظرة الثاقبة، الذي بالطبع يؤثر على المجال العام، ولو حتى بقدر ضئيل!