يحيى بن يحيى الليثي: تلميذ مالك الذي خشيَه الملوك
بالرغم من كثرة علماء السلاطين في التاريخ، فإن ذخيرة متميزة ممن قالوا «لا» في وجه من قالوا «نعم» تبقى قائمة في تاريخ العلماء العرب والمسلمين. من بين هؤلاء الذين حاولوا دفع الجورِ بالعدل، والركون بالهمة، والقعود بالوثبة، كان الفقيه الأندلسي الكبير يحيى بن يحيى الليثي، تلميذ الإمام مالك، والذي لم يصرفه طلبُ العلم والانصرافُ لفنونه ودقائقه عن القيام بواجب العلم الأسمى، وهو العمل بمقتضى العلم، فكان له صولات وجولات مع ملوك الأندلس الأمويين من نسل عبدالرحمن الداخل، كاد يدفع حياته ثمنًا لها.
الذي فضَّل العلم على الفيل!
وُلِدَ يحيى بن يحيى عام 152 من الهجرة، وأصوله من البربر، من قبيلة مصمودة. منذ صباه، طغى ولعُه بطلب العلم الشرعي، فحاول أن يروي غليله منه لدى علماء الأندلس، لكن ذلك لم يكن كافيًا لإرضاء نهمِه للعلم.
وهناك في مدينة الرسول، عليه الصلاة والسلام، والتي كانت قاعدة الإمام مالك، ومهوى أفئدة وشخوص محبي طلب العلم على مذهبه، كان ليحيى بن يحيى مواقف بارزة، كان من أوائلها موقف يبدو صغيرًا، لكنه رفع أسهمه كثيرًا لدى الإمام مالك.
بينما الناس جلوس في مجلس الإمام، حدثت جلبة شديدة نتيجة تجمهر الناس لمشاهدة فيل، وهو حدث نادر في المدينة، فقام كل من في مجلس مالك سوى يحيى بن يحيى لمشاهدة الفيل. فسأله الإمام مالك عن سبب عدم قيامه لمشاهدة الفيل، فرد عليه يحيى قائلًا:
فأعجب الإمام من جدية تلميذه، وسأله عن اسمه وبلده، ولم يزل مُقرّبًا منه منذ ذلك الحين، ولقَّبه بـ«عاقل أهل الأندلس».
لم يكتفِ يحيى بن يحيى بدرس الإمام مالك، وبقراءة كتابه الشهير «المُوَطَّأ» عليه، إنما نهل من علم غيره من أئمة الحجاز والمدينة المنورة ومصر، كالليث بن سعد وسفيان بن عُيينة وعبد الله بن وهب وغيرهم.
ثُمَّ استغلَّ مُقامَهُ في المدينة، فذهب للحج، لكن ما كاد يُنهي حجَّه، ويعود إلى مدينة الرسول، حتى وجد الإمام مالك في مرض موته، فظلَّ إلى جواره، حتى لفظ أنفاسَه الأخيرة، فشارك يحيى في جنازة إمامه وأستاذه، ثم عاد بميراثِه العظيم منه إلى الأندلس.
قيمته العلمية الفريدة والتمكين لمذهب الإمام مالك
من المعلوم بالضرورة من تجارب تاريخية عديدة، أن الدعم السياسي يحدث فارقًا جليًّا في انتشار الأفكار، ومواجهتها وحامليها لعوادي الزمان. ولذا كان يحرص الكثير من المفكرين، وأصحاب المذاهب، على امتلاك السلطة، أو على الأقل تحييدِها، من أجل الحفاظ على بقائها وازدهارها.
رغم أن قضية التمذهب على أحد المذاهب السُّنيَّة الأربعة لم تعد تشغل الكثيرين في الزمن الحاضر، وأن العلماء والمفتين المعاصرين يميلون إلى التنويع في أخذ الفتيا من المذاهب الأربعة ومن غيرها، فإنه من اللافت أن المسلمينَ في دول المغرب الإسلامي حتى الآن يميلون بشكلٍ واضح إلى تبني مذهب الإمام مالك.
تعود تلك السيطرة للمذهب المالكي في غرب العالم الإسلامي إلى تلامذة الإمام مالك الذين أخذوا عنه العلم في المدينة المنورة، ثم عادوا إلى الأندلس والمغرب لنشر ما تعلموه بها، وكان من أبرز هؤلاء الإمام يحيى بن يحيى، والذي رغم عودته من رحلته العلمية شابًّا، فإن هالة استثنائية من الوقار والهيبة أحاطت به، وشهد له الصغير والكبير بالعلم والإخلاص، فالتفَّ حوله المئات والآلاف من طلاب العلم بالأندلس، وأخذ المذهب المالكي ينتشر في تلك البيئة الخصبة كالسيل في الأرض الجراد.
حكم هشام بن عبدالرحمن الداخل الأندلس بين عامي 172-180 هـ، وكان متديِّنًا ورِعًا، وذاع عنه الإعجاب بالإمام مالك، بل نقلت بعض الروايات أن الإعجاب كان متبادلًا بين الرجلين على بعد المسافة بينهما، وأن الإمام مالك قد أشاد بعدل هشامٍ وتديُّنه. ولذا لم يكن مستَغربًا أن أحسنَ هشام استقبالَ العلماء الأندلسيين من تلامذة مالك، كيحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار، وزياد بن عبدالرحمن .. الخ، ودعم جهودهم في نشر المذهب المالكي ماديًا ومعنويًا، فحلَّ تدريجيًا محلَّ مذهب الإمام الأوزاعي الذي كان ذائعًا بين مسلمي الأندلس آنذاك.
وساعَدَ على انتشار المذهب المالكي في الأندلس أيضًا، كما يفسر الإمام الأندلسي ابن حزم – إمام القرن الخامس الهجري بالأندلس، ورائد المذهب الظاهري بها – أن أمراء الأندلس المعاصرين للإمام يحيى، لم يكونوا يعيِّنون في مناصب القضاء بالأندلس سوى من يرتضيهم الإمام يحيى – رغم أنه شخصيًا زهد في كافة المناصب بما فيها منصب القضاء – مما جعل من تبني المذهب المالكي وسيلة للكثير من الطامحين من طلبة العلم للوصول للقضاء، والذي كان من أبرز المناصب في قيمته المادية والمعنوية.
اقرأ: الفقيه السياسي: ابن حزم الأندلسي كمعارضٍ لملوك الطوائف
ويؤكد المؤرخ الشهير ابن عذاري المراكشي ما ذهب إليه الإمام ابن حزم، فذكر أن الإمام يحيى كان مُعظَّمًا بشكلٍ استثنائي في عهد الأمير عبدالرحمن بن الحكم بن هشام 206 هـ – 238 هـ، فكان إذا لم يُغجبْهُ أداء أحد القضاة، قال له: «استعفِ، وإلا رفعت بعزلك!»، فتنتهي حياته العملية كقاضٍ.
الإمامُ الثائر
ما كاد يحيى بن يحيى يتجاوز سن العشرين، حتى صعد إلى سُدة الحكم في الأندلس الأمير هشام بن عبدالرحمن الداخل عام 172 هـ، والذي مثَّلت فترة حكمه القصيرة نسبيًا – 8 أعوام – عصرًا استثنائيًا من العدل، والتقرب إلى العلماء، وتمكينهم من القيام بواجب الإصلاح والإرشاد، حتى شبَّهه البعض بالخليفة العادل إبان دولة الأمويين بالشرق، عمر بن عبدالعزيز.
بدأ انقلاب الأحوال مع وفاة هشام عام 180 هـ، وتولّي ابنه الحكم بن هشام مقاليد السلطة، إذ لم يكن حظ الأندلس في هذا التوريث جيدًا كما كان بين عبدالرحمن الداخل وهشام.
مضى الحَكَم في إدارة الدولة على غير سيرة أبيه، فكان سريع البطش، مستبدًا برأيه، كما كان مُسرفًا في إنفاق أموال الدولة. كذلك كان الحَكَمُ متبرِّمًا من نفوذ الفقهاء الذي تصاعد في زمن أبيه الذي كان يُكِّن لهم الاحترام والتقدير، ولا يخالف فتواهم في أمور الحكم والرعية. أدَّى تصاعد المظالم في عصر الحكم إلى تجييش قطاعاتٍ عديدة من المجتمع الأندلسي ضده، وفي القلب منهم الكثير من الفقهاء، والذين كان من أبرزهم يحيى بن يحيى الليثي.
جهرَ أئمة المالكية وفي الصدر منهم يحيى بن يحيى بانتقاد الحَكَم، وألهبوا مشاعرَ الجماهير ضد بذخِه وبطشه، فاجتمعَ على كراهيته الكثير من الأندلسيين، لا سيَّما العناصر غير العربية التي أُقصيت عن منابع السُّلطة والثروة، كالبربر، وكذلك المولَّدين، وهم نتاج التزاوج بين سكان الأندلس الأصليين، والعناصر التي وفدت مع الفتح الإسلامي.
عام 189هـ، تطوَّرت الأمور بشكلٍ كبير، إذ حدثت محاولة جدية لخلع الحَكَم، واستبداله بأموي آخر هو محمد بن القاسم المرواني، وشارك في تلك المحاولة العديد من الأعيان والفقهاء، ومنهم يحيى بن يحيى، لكن خاف المراوني، فأبلغ الحَكًم بما يُحاك ضدَّه، فتقبَّض على العشرات، وأمر بإعدامهم وصلبهم، وكانوا أكثر من 70 رجلًا، بينما فرَّ يحيى بن يحيى إلى طُليطلة، وعيسى بن دينار وغيرهما، واختبؤوا لفترة.
في العام التالي ثار سكان ضاحية قرطبة المعروف بالربض، لكن نجح الحكم في قمع الثورة. لكن ظلَّت النار تحت الرماد، لا سيَّما مع اشتداد عسف الحكًم في أعقاب تلك الثورات الفاشلة. عام 202هـ، اندلعت واحدة من أعنف الثورات في التاريخ الأندلسي، وهي ثورة الريض، والتي كادت تطيح بالحكم، لكنه نجح في قمعها بمنتهى القسوة، وهجَّر الآلاف من أهل منطقة الربض من الأندلس، ففروا إلى الإسكندرية، ثم إلى جزيرة كريت حيث أسسوا إمارة إسلامية هناك دامت قرنًا من الزمان.
لا يُعرَف على وجهِ التحديد متى ظهر الإمام يحيى من رحلة فراره، وكيف عاد سريعًا إلى الواجهة. يذكر البعض أنه بعد حينٍ طلب الأمان من الحكم، فأمَّنه. بينما يُرجِّح آخرون أن ذلك تأخَّر إلى زمن عبدالرحمن بن الحكم بن هشام، والذي قرّب الإمام يحيى بن يحيى، وأراد أن يجعله قاضي القضاة فرفض، واكتفى بنفوذه في تعيين القضاة.
ولم يدفع هذا القرب من الحكام الإمامَ يحيى إلى التساهل في أمور الدين لطلب رضاهم. فمن القصص الشهيرة من سيرته أن الأمير عبدالرحمن بن الحكم جمع الفقهاء ومنهم يحيى بن يحيى ليستفتيهم في مواقعته لجاريته في نهار رمضان، فأفتاه يحيى بن يحيى بصيام شهريْن متتابعيْن، فلم يجادِل الحاضرون، رُغم أن مذهب الإمام مالك يبيح في تلك الحالة اختياراتٍ أيسر، مثل الإطعام أو عتق رقبة. فلمّا سُئل يحيى عن سبب حمله الأمير على الاختيار الأشق قال: «لو فتحنا له هذا الباب، لسهُل عليه أن يطأ كل يوم، ويعتق رقبة، فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود».
نهاية الرحلة
رحل الإمام يحيى عن الدنيا عام 234 هـ وقد تجاوز الثمانين بقليل، وعاش بعد خصمه الذي طلب رأسَه، الحكم بن هشام، 28 عامًا، في حكم ابنه عبدالرحمن الثاني بن الحكم، والذي وإن لم يكن على قدر جده هشام في العدل والحرص الجليّ على إقامة الدين، فإنه لم ينحدر في حكومته إلى درجة جور أبيه وبطشه، فأعان يحيى بن يحيى وأترابه على التعايش الطويل مع حُكمِه.