نهاية العقد الماضي أعد الدكتور «نفيد شيخ»، من جامعة لويسفيل بالولايات المتحدة،دراسة تحت عنوان Body count. A quantitative review of political violence across world civilizations، أي «عداد القتلى.. دراسة إحصائية للعنف خلال حضارات العالم»، تناولت 321 حالة من حالات الحروب، والحروب الأهلية، وعنف أنظمة الحكم.

الحضارات الإنسانية والمعتقدات الدينية التي شملتها الدراسة هي: الإسلام، والمسيحية، والبوذية، والهندوسية، بالإضافة إلى الصينيين وعدد من الحضارات البدائية، وقد تم الإحصاء والتصنيف وفقا لأسس ثقافية ودينية لمجمل عدد ما قتله التابعون لكل حضارة وديانة خلال الحروب والصراعات الأهلية منذ القرن الأول للميلاد إلى عام 2008 م.

عداد القتلى.. دراسة إحصائية للعنف السياسي خلال حضارات العالم

تفند نتائج الدراسة الكثير من الأساطير السائدة في عالمنا اليوم، عن مزاعم العنف المتأصل في الإسلام ولدى المسلمين، وتدفع ربما في المقابل للتأمل في سيرورة العنف البشري تاريخيا على أسس مغايرة للعوامل التقليدية والمستقرة في قراءة تلك الظاهرة.

ولكن لا تكتمل في الحقيقة رؤيتنا حول سيرورة العنف البشري والأنماط الدينية والثقافية التي يصدر منها العنف، من خلال الإحصاءات التاريخية وحسب، دون تسليط الضوء أيضاً على الجوانب الأنثروبولوجية والتاريخية لتك الظاهرة البشرية، التي رسمت بالدم الحدود التاريخية لخرائط العالم القديم والحديث.

وسنركز هنا في هذا المقال بوجه خاص على تأمل ودراسة مسار تاريخي كاشف لنسق محدد ومتصل من الهجرات السكانية الكبرى والعنيفة التي غيرت الملامح العرقية والثقافية للعالمين القديم والجديد، وشكلت القوام السكاني للمجتمعات الغربية تحديداً، وهو المسار الذي سيكشف لنا تتبعه لغزا وسرا دينيا وتاريخيا كبيرا بنهاية المطاف.


التاريخ و الميثولوجيا

ستكون نقطة البداية جغرافيا في رحلتنا للتبع الزمني العكسي لمسار تلك الهجرات المشار إليها هي منطقة جبال ألطاي في آسيا الوسطى في حوالى 4000 عام قبل الميلاد، إبان الهجرات الكبرى للقبائل الهندو-أوروبية من هناك، باتجاه شرق القارة الآسيوية، وباتجاه أوروبا غربا عبر القوقاز مرورا بإسكندنافيا وصولا إلى أقصى الغرب من القارة الأوروبية.

حيث عاشت قبائل الهندو-أوروبيين الأولى وفقاً للدراسات الأنثروبولوجية أثناء أواخر العصر الحجري الحديث، أي ما يقرب من أربعة آلاف عام قبل الميلاد. في منطقة سهول الغابات مباشرة الواقعة شمال الطرف الغربي من سهول بحر قزوين وصولا إلى شرق أوروبا، لتصل بعد ذلك في أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد فروع الهنود الأوربيين البدائيين إلى الأناضول وإيجة وغرب أوروبا ووسط آسيا.

مخطط الهجرات الهندوأوروبية من 4000 إلى 1000 قبل الميلاد وفقا لنظرية كورغان

ولتاريخ تلك المنطقة التي حددها مخطط كورغان كمنطلق للهجرات الهندوأوروبية الأولى سرديات أسطورية مهمة تروي جانبا من تاريخ الأسلاف المبكرين لشعوبها من قبائل الجوكترك والمغول، إحدى أبرز تلك السرديات هي أسطورة إرگنه-قون Ergenekon، التي وردت في معظم المصادر التاريخية التي تروي تاريخ المغول والگوك تورك أو الجوك-ترك.

تحكي تلك الأسطورة عن هزيمة أسلاف تلك القبائل على يد تحالف من الأعداء، اضطرتهم إلى الانسحاب من خلال أحد الممرات الجبلية الضيقة في منطقة جبال ألطاي شاهقة الارتفاع التي تغطي تلك المساحة شاسعة الاتساع في شمال آسيا الوسطى، للنجاة بحياتهم هم وأولادهم وماشيتهم، حيث وجدوا بنهاية ذلك المضيق الجبلي الوعر أرضا مليئة بالجداول والينابيع عاشوا فيها لمدة أربعة قرون.

بعد أن تكاثر عددهم بشكل كبير وتكاثرت ماشيتهم وضاقت عليهم تلك الأرض المحصورة بين الجبال، أخذ أسلاف الجوك ترك والمغول في البحث عن طريق للخروج من تلك السلاسل الجبلية العظيمة التي تحيط بهم من كل اتجاه، لكن جميع محاولاتهم في هذا الإطار لم تثمر، وفي النهاية عرف أحد الحدادين منهم أن أحد الجبال يتكون من معدن الحديد وحسب.

فاجتمعوا في المكان الذي أشار إليه الحداد وجمعوا الحطب والفحم بكميات هائلة وأحاطوا بها الجبل وأطرافه، وبعد أن انتهوا من تجميع الحطب والفحم على الجبل بدءوا بتأجيج النار بنفخ الكير بأعداد كبيرة، وبعد أن سخن الجبل بدأ الحديد بالذوبان وسال من الجبل، فُتح بالجبل ثغرة تكفي لعبور جمل من خلاله، ليبدأ أسلاف الگوك تورك والمغول في الخروج من أرگاناقون عبر ذلك المعبر.

وتذكر الأسطورة أنه في اليوم نفسه الذي خرجت فيه القبائل المحاصرة من محبسهم الطويل وراء الجبال بقيادة الأمير «بورتاجينه» سليل «قايي خان» قام الأخير بإرسال رسل إلى البلدان المجاورة، وأبلغهم بعودة شعب الگوك تورك من جديد، الذين فرضوا سيطرتهم من جديد وبنوا إمبراطورية قوية منيعة لاحقا، وقد صار اليوم الذي خرج فيه بالنسبة للمغول والكوك ترك يوما مقدسا تقام فيه الاحتفالات والمراسم الكبيرة.

وقد بلغ الاحتفاء بأسطورة أرگه ناقون التي تتصل بشكل وثيق بأسطورة أخرى هي أسطورة البوزقورت الشهيرة، الذروة في عهد جنگيز خان، الذي يُذكر أنه كان شخصيا مغرما بهذه الأسطورة.

وقد جرت العادة في إمبراطورية الهون التي امتدت إلى أوروبا أن تعقد مراسم دينية كل سنة، وكان الخاقان – الملك- يترأس تلك المراسم بنفسه، وخلال هذه المراسم يذهب الخاقان والأمراء إلى مغارة تسمى -آتا- أي الأب، ويقومون هناك بشعائرهم الدينية، ويقومون بالابتهال للأجداد وتقديسهم، وتلك الشعائر نفسها كان معمولا بها في عهد إمبراطورية الكوك تورك.

وكان من مظاهر الاحتفال بذلك اليوم الإتيان بقطع من الحديد وتسخينها على النار ممسكين قطع الحديد بالملقاط، ثم يضعونها على السندان وبعدها يبدءون طرقها بالمطرقة، ومن ثم يتبعهم بفعل ذلك أمراء الگوك تورك.

منمنمة «المنغول يغادرون وادي إرگنه-قون» في كتاب الشعر الملحمي، بالفارسية، لأحمد تبريزي «شاهنشاه نامه» (أو “چنگيز نامه”)(1397—1398، المكتبة البريطانية، لندن)

وربما لغرابة وجود جبل معدن الحديد الخالص كما ورد في السردية الأسطورية السالفة، رغم الطابع الميثولوجي الذي يغلفها، فلعل أسطورة إرگنه-قون ترتبط من جهة أخرى بقصة أخرى في فترة ما قبل التاريخ، وهي في الميثولوجيا المصرية القديمة تحديدا.

وهي القصة التي يمكن استقراؤها من نقوش حجر شباكا الأثري، ومن بعض الإشارت في كتاب البوابات في الديانة المصرية القديمة، والقرآنية، عن بناء المعبود المصري القديم أوزوريس، الإله ذي قرني الكبش أو الثور الذي يقول عنه الفيلسوف والمؤرخ اليوناني بلوتارخ إنه طاف الأرض ليعلم الناس الحضارة والزراعة. الذي تحولت رحلته أيضا مع المسار الظاهري لحركة الشمس في مشرقها ومغربها في المعتقدات المصرية القديمة لرحلة رمزية للموت والبعث، لحائط أو جدار محصن في بقعة ما في شمال الأرض التي وصل إليها كما يُفهم من نصوص نقوش حجر شباكا. أو في شرق المعمورة كما يشير كتاب البوابات الجنائزي بشكل ضمني.

وهو ما يشير عند التراكب النصي بين القصتين إلى جهة الشمال الشرقي من أرض مصر، وهو الموقع الجغرافي لآسيا الوسطى بالنسبة إلى مصر، وهي المنطقة التي كانت بالفعل كما سنرى بعد قليل مصدر قلق وتهديد حقيقي للحضارات المبكرة في الشرق الأدنى والشرق الأوسط.

جدير بالذكر أن اسم أوزوريس بعد إزالة الإضافة اليونانية الملحقة على نهاية الأسماء، هو أوزير أو عزير بإعادة العين المخففة إلى الألف بعد تصحيف الاسم خلال منطوقه اليوناني القديم، وكما سبق أن أشرنا فأوزوريس بعيدا فقط عن شهرته برحلته إلى المشرق والمغرب مع مسار حركة الشمس وطوافه الأرض لتعليم الشعوب والأمم الحضارة كما ذكر بلوتارخ، فأهم سمات سرديته أنه مات وعاد للحياة مجددا.

صورة للمعبود المصري القديم أوزوريس

ويحل هذا في الحقيقة إشكالا دينيا تأويليا وتاريخيا لدى المسلمين، في تحديد هوية الشخص الذي قال عنه اليهود عزير ابن الله، حيث تم الخلط بينه وبين عزرا الكاتب، الذي لم يعرف عن اليهود تاريخيا وصفه بهذا الوصف، وعلاقة اليهود بأوزير أو أوزوريس يمكن إدراكها باختصار شديد من خلال عبادتهم لعجل أبيس تأثرا بإقامتهم في مصر القديمة،الذي لا يمثل سوى أوزوريس نفسه، حيث إن ذلك العجل هو أوزوريس-آبيس Osiris-Apis الذي اشتق منه اسم سيرابيس المعبود القديم الذي انتشرت عبادته في مصر خلال العهد البطلمي.

وعلاقة اليهود بعجل أبيس لا تنحصر وحسب بما جري في عهد النبي موسى بعد خروج بني إسرائيل من مصر، حيث تم اتخاذ عجل أبيس معبودا رسميا لمملكة إسرائيل الشمالية في عهد يربعام أول ملوك مملكة إسرائيل الشمالية المنشقة عن مملكة إسرائيل الموحدة.

يربعام يضع اثنين من العجول الذهبية، من الكتاب المقدس ( المصدر : https://commons.wikimedia.org/wiki/File:Jeroboam_sets_up_two_golden_calves.jpg)

وقد ذهب العديد من التفسيرات التاريخية والدينية في هذه النقطة محل التناول في هذا الاتجاه جزئيا أو كليا، ومن أبرزها ما ذهب إليه د.حاتم الهمدان في كتاب له عن شخصية ذي القرنين القرآنية، وهي مقاربة قامت على العديد من المعطيات التاريخية والدينية المقارنة، ومنها ما ورد في الفقرة السابقة.

ولذلك ربما لم يكن جبل الحديد بالنهاية في أسطورة أرگاناقون سوى جدار من الحديد والمعادن المنصهرة، لاسيما وأن العديد من دول وإمبراطوريات العالم القديم، رغم بعدها الجغرافي عن تلك المنطقة، انتبهت في وقت مبكر إلى المخاطر التي تتأتى منها، ولذلك نجد أن تلك المنطقة من العالم شهدت منذ القدم بشكل استثنائي بناء العديد من السدود التاريخية المعروفة.

من أشهر السدود تاريخيا في هذا الإطار على سبيل المثال: بوابات الإسكندر بالقوقاز في منطقة جبال داريال، وبوابات دربند التي تقع في روسيا الفيدرالية الآن – كلمة دربند تعني الأبواب المغلقة بالفارسية- وسور جورجان العظيم، الذي تم بناؤه على يد ملوك الإمبراطورية تزامنا مع بناء سور الصين العظيم الذي تم بناؤه على الحدود الشمالية والشمالية الغربية للصين المتاخمة لمنطقة جبال ألطاي أيضا.

والأخير لم يكن سورا عاديا وحسب، بل مشروعا دفاعيا واستراتيجيا ضخما، يتكون من عدد كبير من الحوائط الدفاعية وأبراج المراقبة والممرات الاستراتيجية وثكنات الجنود وأبراج الإنذار.

وتبين جميع الشواهد السابقة بجلاء شديد مدى الشعور بالقلق السائد تاريخيا من الأخطار المستمرة المنبعث تحديدا من وراء سلسلة جبال ألطاي، التي شيدت كل هذه الحصون والسدود والحوائط والأسوار والبوابات حولها، لدى الحضارات والمجتمعات القديمة في تلك المنطقة، حيث عانت مناطقها تاريخيا من الغارات والهجمات المستمرة من قبل القبائل التي كانت تعيش وراء تلك الجبال.

ومن الهجمات الحية في ذاكرة منطقتنا حتى اليوم على سبيل المثال في هذا الإطار، الغارات والمذابح الهائلة التي قام بها التتار والمغول خلال القرن الثالث عشر الميلادي في العالم الإسلامي.


الاتجاه غربا

من أبرز الإمبراطوريات التي شكلتها القبائل التركية والمغولية لاحقا هي إمبراطورية الهون التي أنشأتها قبائل الهون في أوروبا. وهي تسمى في مدونات التاريخ التركي بإمبراطورية الهون الأوروبية أو إمبراطورية الهون الغربي، والهون هم مجموعة قبائل أصلها أوراسي، تحركوا في الجهة الغربية من فيافي آسيا عام 350.

وبفضل قدرتهم العسكرية الفائقة احتلوا وأخذوا تحت سلطتهم أوروبا تقريبا بالكامل. حيث قلبت هذه الهجرات الضخمة التي تشكلت بضغوط إغارات الهون بنية أوروبا الاجتماعية والثقافية والديموغرافية رأسا على عقب.
خريطة لإسكندنافيا. من رسم الجغرافي ورسام خرائط الألماني يوهان بابتيست هومان (1664 – 1724) ، مؤرخة من عام 1715م

حيث شكلت إغارات الهون إيذانا برسم ملامح البنية السكانية والعرقية الحالية لها، بعد عصر الهجرات أو فترة الهجرات (Migrations Period) والتي تعرف أيضا بفترة الغزوات البربرية (Barbarian Invasions) أو Völkerwanderung (هجرة الشعوب بالألمانية)، وهي فترة من الهجرة البشرية المكثفة لأوروبا منذ حوالي عام 376 إلى 800 بعد الميلاد أثناء فترة الانتقال من العصور القديمة المتأخرة إلى فترة العصور الوسطى المبكرة.

وقد تميزت هذه الفترة بتغييرات سكانية عميقة في الإمبراطورية الرومانية وفي المناطق المحيطة بها (ما بعد الجبهة البربرية Barbarian frontier). والهجرات التي حدثت أولا هي هجرات القبائل الجرمانية مثل القوطيين، الوندال، الأنجل، الساكسون، اللومبارديون، السويبيون، والفريسيون والفرانكيون؛ ثم لحقتها هجرات شعوب الهون، الآفار، السلاف والبلغار .

هذا فضلا على هجرات الفايكينج والنورمان والمجريون، حيث استوطن الجرمانيون (Germanic) أو التيتونيون (Teutonic) أو البرابرة كما كان يطلق عليهم الرومان في البداية المناطق المحاذية للإمبراطورية الرومانية وكانوا مصدر إزعاج دائم لها ثم أصبحوا لاحقا أحد أهم الأسباب الرئيسية لسقوطها بعد إغاراتهم المستمرة والمدمرة عليها.

وتعد أشهر القبائل الجرمانية في هذا الإطار هي قبائل القوط بفرعيها القوط الشرقيون والقوط الغربيون والفاندال والسكسونيون والأنغلوسكسونيون واللومبارد والفرنج والفايكنج وغيرهم، وقد انتشروا إلى باقي مناطق أوروبا ممتزجين بالشعوب والسكان المحليين في أصقاع أوروبا الأخرى (مثل الكلت وأيضا السلاف/الفنديون والرومان) مشكلين الأساس المستقبلي للأمم الأوروبية المختلفة.

ومن خلال التتبع الأنثروبولوجي لشجرة اللغة الهندو-أوروبية يمكننا التأكد من ذلك التقفي الجينالوجي السابق لأصول الشعوب الأوروبية، حيث تتبع كثير من فقهاء اللغة مثل المستشرق الإنجليزي وليم جونز واللغويين الدنماركيين راسموس راسك وكارل ڤرنر جذور اللغات الأوروبية الحديثة، وتوصلوا هم وغيرهم إلى أنها تنتمي إلى أسرة لغوية واحدة هي الهندية – الأوربية Indo-European، وهي الأسرة أو المجموعة اللغوية التي تكلمتها الشعوب المختلفة التي قطنت المنطقة الجغرافية الممتدة من شمال الهند حتى سواحل البحر الأسود.

ومع هجرة الشعوب الهندو-أوروبية شمالا وغربا وشرقا تفرعت من هذه الأسرة مجموعة كبيرة من اللغات، كاللغة الكلتية والغالية الإيرلندية والغالية الأسكتلندية والويلزية واللّغات البلطيّة، وتنقسم إلى ثلاث لغات: اللّيتوانيّة واللاتفية والبروسيّة القديمة التي انقرضت حوالي 1700 بعد الميلاد، واللغة السّلافيّة، والتي تنقسم إلى: السّلافيّة الجنوبيّة: البلغاريّة، الصربية الكرواتية والسّلوفينيّة والبوسنية. والسّلافيّة الغربيّة: التّشيكيّة، السّلوفاكيّة والبولندية، والسّلافيّة الشّرقيّة: الرّوسيّة والأوكرانيّة، واللّغات الجرمانيّة: اللغة الإنجليزية، اللغة الألمانية، اللغة النرويجية، اللغة السويدية، اللغة الدنماركية، اللغة الهولندية.

وقد تم النظر في أوروبا لاسيما في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى متحدثي اللغات الهندية الأوروبية الأصليين على أنهم يمثلون وخلفاءهم حتى اليوم الحاضر جنسا سائدا أو جنسا فرعيا سائدا من الجنس القوقازي، حيث يسمى الاعتقاد بوجود تلك النظرية أو الأفكار بالآريانية، نسبة للعنصر الآري، وربما تحمل في هذا السياق تسمية العرق الأبيض الأوروبي بالجنس القوقازي حتى اليوم دلالة واضحة عن الأصول البعيدة التي قدم منها أسلافهم من وراء جبال القوقاز.

وقد نشأت العديد من المعتقدات التنجيمية عن العرق الأبيض في الأوساط الباطنية الغربية، ومنها تحدرت الكثير من المفاهيم تاريخيا وإلى اليوم عن تميز وتفوق هذا العرق، ومن تلك المعتقدات استقت النازية الألمانية مفاهيمها المعروفة في هذا الإطار، حيث كان أدولف هتلر والعديد من مؤسسي الحزب النازي على سبيل المثال أعضاء في السابق في جمعية ثول التنجيمية والروحانية في ألمانيا التي كانت تؤمن بتلك المعتقدات الغامضة.

والنازية ليست المثال الوحيد لتلقيات هذه الأفكار بالمجتمعات الغربية في هذا الإطار، حيث تأسست كذلك نتيجة لتلك المعتقدات العديد من جماعات العنصرية البيضاء في العالم الغربي كالكو كلوكس كلان في الولايات المتحدة الأمريكية، التي بلغت عضويتها الذروة في العشرينيات من القرن الماضي، حيث ضمت وفق تقديرات حوالي 15% تقريبا من التعداد الرسمي للسكان هناك.

الصليب المعقوف ( سويستيكا). هو رمز هندو-أوروبي قديم يمثل الجنس الآري بدورته الطموحة في السيطرة على العالم وفق بعض المعتقدات

من عصر الفايكنج إلى نهاية الحرب العالمية الثانية

يعد عصر الفايكنج في أوروبا كما يسميه المؤرخون إحدى الفترات المنسية في تاريخ تلك القارة، رغم أهميته في رسم ملامحها العرقية والثقافية، ويمتد ذلك العصر من أواخر القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر. ويؤرخ له منذ رسو الفايكنج على شواطئ إنجلترا في 8 من يونيو عام 793م.

وهو اليوم الذي شهد تدمير أحد الأديرة المسيحية على جزيرة ليندسفارن، التي كانت مركزًا شهيرًا للتعلم في جميع أنحاء القارة الأوروبية، وقد صدم الدمار الذي أحدثه الفايكنج على تلك الجزيرة مسيحيي القارة في ذلك الوقت، الذين لم يشهدوا من قبل قسوة وفظائع كتلك التي جرت على أرض تلك الجزيرة.

وقد توسعت إغارات وفتوحات وهجمات الفايكنج بعد لتشمل مختلف أرجاء القارة الأوروبية، ويعتبر عصر الفايكنج في الدول الإسكندنافية منتهيًا بتأسيس السلطة الحاكمة في هذه الدول وإقرار المسيحية بأنها الديانة السائدة. ويقدر هذا التاريخ تقريبًا بنهاية القرن الـ 11 م.

وتذهب إحدى القراءات التاريخية لتلك المرحلة إلى أن تحول الفايكنج إلى المسيحية كان له آثار بعيدة المدى على المسيحية الغربية، ومن أبرزها تحول رحلات الحج المسالمة التي كان يتم تنظيمها من أوروبا إلى مدينة القدس في المشرق إلى الحملات العسكرية الصليبية شديدة القسوة والوحشية التي بدأت في نهايات القرن الحادي عشر، وأدت إلى مقتل عشرات الآلاف من سكان المشرق الإسلامي، سواء من المسلمين أو من المسيحيين المشرقيين.

ولم تكن الحملات الصليبية في هذا الإطار سوى لمحة فقط من تصدير العنف إلى خارج القارة الأوروبية، حيث دارت رحى العنف داخل القارة الأوروبية نفسها، خلال حروب طويلة عديدة كحرب المائة بين فرنسا وإنجلترا، التي دامت 116 سنة مِنْ 1337 إلى 1453 م، وحرب الثلاثين عاما التي دارت بين عامي 1618 و1648 م، والتي اشتركت فيها معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذاك العصر،فيما عدا إنجلترا وروسيا.

وكان من آثارها المدمرة تدمير مناطق بأكملها تركت جرداء من نهب الجيوش. وانخفاض عدد سكان ألمانيا بمقدار 30 ٪ في المتوسط، وفي بعض المناطق بلغت الخسائر النصف، في حين أنه في بعض المناطق مات ما يقدر بثلثي السكان، وانخفض عدد سكان ألمانيا من الذكور بمقدار النصف تقريبا.

كما انخفض عدد سكان الأراضي التشيكية بمقدار الثلث. وجاء في موسوعة (قصة الحضارة) تحت عنوان: «إعادة تنظيم ألمانيا (1648-1715)»:

وقد كان من أبرز الحروب أيضا خلال تلك الفترة حرب إنجلترا وإسبانيا التي وقعت بين عام 1588 وعام 1604، وحروب الاسترداد المسيحية بين القوط الغربيين ومسلمي الأندلس التي انتهت عام 1492 م، وهو العام نفسه الذي وصل فيه كريستوفر كولمبس إلى جزر البحر الكاريبي في أمريكا الوسطى، لتتبعه جحافل المستوطنين الأوروبيين الذين توسعت مستوطناتهم على حساب السكان الأصليين للأمريكيتين. الذين كان انتشارهم يمتد على كامل القارة من شواطئ المحيط الأطلنطي شرقا إلى شواطئ المحيط الهادئ غربا.

كان الهنود الحمر ذلك العرق البشري شبه المندثر الآن، يتكون من العديد من الشعوب التي قدر قوامها الديموجرافى قبل الاستيطان الأوروبي بحوالي 25 مليون نسمة، وكان يفصل بين تلك الشعوب المختلفة ما يشبه الحدود السياسية بين نظم حكم قبلية تقليدية غطت مختلف أرجاء تلك القارة الواسعة . ولم يتبق بالنهاية الآن من السكان الأصليين في الولايات المتحدة اليوم سوى 150 ألف نسمة تقريبا.

وقد تعددت الأسباب التي يعزو إليها المؤرخون تناقص أعداد الأمريكيين الأصليين، وكان من بينها الأوبئة والصراع مع الأوروبيين، ويعتقد العديد من الدارسين أن أمراض العالم القديم التي جلبها الأوربيون عن قصد من أجل إبادتهم تسببت في وفاة ما بين 90% و95% من السكان الأصليين للعالم الجديد.

يذكر هوارد سيمبسون في هذا السياق في كتابه (الجيوش الخفية: دور الأمراض في التاريخ الأمريكي ) . (Invisible Armies: The Impact of Disease on American History) أن البريطانيين لم يجتاحوا أمريكا بفضل قوتهم العسكرية أو دوافعهم الدينية أو طموحاتهم، بل بسبب حربهم الجرثومية. حيث كانت السلطات البريطانية توزع على السكان الأصليين الألحفة والأغطية الحاملة للأمراض عمدا بهدف نشر الأمراض بينهم.

وقد بدأ التوازن الاستراتيجي بين الغرب المسيحي والعالم الإسلامي بعد اكتشاف أوروبا الغربية لقارتين كاملتين هائلتي الحجم والثروات، يميل لصالح أوروبا لأول مرة، وليميل أكثر بعد التوسع في الكشوف الجغرافية والالتفاف حول العالم الإسلامي بعد اكتشاف البرتغاليين لرأس الرجاء الصالح، وتحولهم هم والإسبان والهولنديون لإمبراطوريات كبرى بعد انتزاعهم للسيادة التجارية الدولية من المسلمين التي دامت لقرون.

في تلك الأثناء بدأت الإمبراطوريات الأوروبية تقضم أطراف أفريقيا وآسيا العالم الإسلامي، لتتوسع حركة الاستعمار للقوى الأوروبية وتصل بالنهاية للسيطرة على معظم أرجاء العالم تقريبا.

ولترث في الأخير كذلك تركة الإمبراطورية العثمانية رجل أوروبا المريض، وتتقاسمها فيما بينها، إبان نهاية الحرب العالمية الأولى، التي نشبت في 28 يوليو 1914 وانتهت في 11 نوفمبر من عام 1918 وخلفت أكثر من 37 مليونا من الضحايا من الجرحى والقتلى.

وهي الحرب التي تلتها بعد عقدين الحرب الأعظم في تاريخ الإنسانية، ألا و هي الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها أكثر من 100 مليون شخص من أكثر من 30 بلدًا، وأدت إلى وقوع ما بين 50 و85 مليون قتيل حسب التقديرات المختلفة، وهي في هذا الإطار الحرب الأكثر دموية في تاريخ البشرية على الإطلاق.

وقد خرجت من هذه الحرب الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى في العالم، ولا تزال، حيث ورثت دور الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية في السياسة العالمية، وأضحت تتحكم في النظام الدولي والتجارة الدولية عن طريق حضور واسع للقواعد العسكرية الأمريكية المتناثرة في شتى بقاع الأرض.

فضلا على انتشار الأساطيل وحاملات الطائرات البحرية الأمريكية في جميع البحار والمحيطات الدولية، وانتشار أنظمة المراقبة والأقمار الصناعية الأمريكية التي تتجسس على جميع وسائل الاتصال بشتى أشكالها في هذا العالم.


ختام

يلاحظ أنه رغم كل فتوحات المسلمين منذ أواسط القرن السابع الميلادي التي امتدت من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى غرب الصين وإلى شرق وجنوب أوروبا وإلى وسط أفريقيا، لم يتم إبادة أي حضارة أو عرق، بل نمت ساكنة كل تلك المساحات الجغرافية الشاسعة وازدادت ديموجرافيا، وازدهرت مدنها تجاريا، وعاشت أقلياتها الدينية في تسامح ديني جل نظيره في القرون الوسطى.

ولعله أصبح من المبتذل اليوم تكرار عبارة المستشرق والمؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون: « لم تعرف الأمم فاتحا أرحم من العرب، ولا دينا أكثر تسامحا مثل دينهم»، من كثرة ما تم الاستدلال بها في هذا السياق. إلا أنها تظل في المقابل حقيقة تاريخية لا مراء فيها.

وربما يبدو واضحا من خلال هذا العرض التاريخي القصير الفائت أن الإسلام أو العالم الإسلامي لم يكونا هما مصدر التوتر والعنف الأول في هذا العالم، كما يتم تصوير المسلمين اليوم، بل قد يكون في المقابل خسر عالمنا الراهن بتداعي العالم الإسلامي حضاريا وسياسيا الكثير.

فربما لو سبق المسلمون الأوروبيين إلى الأمريكيتين على سبيل المثال لظل اليوم أحفاد ساكنتها الأصليين يعيشون بيننا، كباقي شعوب العالم القديم، الذين لم تستطع القوى الأوروبية اقتلاعهم سكانيا أو إبادتهم بسبب وجود ذلك العالم الإسلامي، الذي شكل فضاء ديموجرافيا موحد الثقافة في قلب تلك المنطقة من العالم، حال مجرد ضغط وجوده بحد ذاته، دون عزل أجزائه الجغرافية عن بعضها البعض، وحدوث أعمال تطهير عرقي واسعة النطاق خلالها تاريخيا كتلك التي جرت في الأمريكيتين على سبيل المثال.

وهو العالم نفسه بالمناسبة الذي يغرق قلبه الجغرافي اليوم في بحر من الفوضى، بينما ينتقل تركيز ثقل الاهتمام الاستراتيجي الغربي منه الآن نحو شواطئ المحيط الهادئ في جنوب شرق آسيا. و هو ما لا يبتعد كثيرا في المحصلة عن القراءة الاستراتيجية للبروفيسور ومخطط السياسات الأمنية السابق في الحكومة الأمريكية صمويل هنتجنتون من نظريته عن صدام الحضارات، والصدام المقبل للحضارة الغربية مع الصين والعالم الإسلامي تحديدا في الحقبة الاستراتجية المقبلة من تاريخ العالم التي رأي أنها ستكون على الأرجح حقبة صدام الحضارات.


تنويه مهم

«هبطت حرب الثلاثين بسكان ألمانيا من عشرين مليونا إلى ثلاثة عشر ونصف مليون، وبعد عام أفاقت التربة التي روتها دماء البشر، ولكنها ظلت تنتظر مجيء الرجال. وكان هناك وفرة في النساء وندرة في الرجال. وعالج الأمراء الظافرون هذه الأزمة البيولوجية بالعودة إلى تعدد الزوجات كما ورد في العهد القديم . ففي مؤتمر فرنكونيا المنعقد في فبراير 1650 بمدينة نورنبيرغ اتخذوا القرار الآتي: لا يقبل في الأديار الرجال دون الستين.. وعلى القساوسة ومساعديهم -إذا لم يكونوا قد رسموا
وكهنة المؤسسات الدينية أن يتزوجوا.. ويسمح لكل ذكر بأن يتزوج زوجتين، ويذكر كل رجل تذكيرا جديا، وينبه مرارا من منبر الكنيسة، إلى التصرف على هذا النحو في هذه المسألة».

نود أخيرا أن ننوه بأن هذا المقال لا يهدف إلى الإساءة العرقية إلى أي شعب من شعوب هذا العالم، على عكس الدعاية العنصرية الموجهة منذ سنوات عديدة ضد العرب والمسلمين، إنما سعى إلى فهم حقيقة دينية وتاريخية غائبة، وتأمل تاريخي في ظاهرة العنف المرتكب إجمالا من قبل الأعراق والحضارات الإنسانية، كما فعل على مستوى إحصائي الدكتور نفيد شيخ في دراسته السابق الإشارة إليها في مقدمة هذا المقال.

فعلى عكس التلقيات الشعبية الخاطئة لقصة يأجوج ومأجوج القرآنية لدى جمهرة واسعة من المسلمين، فهم في الأخير جزء من بني آدم، ليس الأصل فيه الفساد، بل هم كسائر البشر، وقد تناولت النصوص الدينية فسادين كبيرين لهما فحسب، أحدهما في الماضي، والآخر كنبوءة ستحدث في مقبل الأيام.

والقرآن على هذا المستوى قد وصف اليهود بالأوصاف المعروفة في هذا السياق، ووصف البشرية برمتها بأن اتباع أكثرهم يحيد بالمرء عن سبيل الله، في الوقت نفسه الذي قال فيه عن اليهود وغيرهم من أهل الكتاب إنهم ليسوا سواءً، ولذلك نرجو من القراء الأعزاء ألا يثير المقال الجدل من هذه الناحية على الأقل.