معسكرات «تشينجيانج»: الأخ الصيني الأكبر يراقبك
خلال هذا العام (2020)، انشغل العالم بالحديث لفترةٍ طويلة عن عمليات الغسل الممنهج التي تقوم بها الحكومات الصينية تجاه مسلمي الإيجور الذين يقيمون في إقليم «تشينجيانج»، بعدما أودعتهم داخل سجون أو معسكرات اعتقال أطلقت عليها اسم «مراكز تأهيل».
تنافست وكالات الأنباء الدولية على تسريب أكبر كمٍّ من الوثائق التي تفضح ما يجري وراء الأسوار الصينية، لتكشف عن حجم مروِّع من الانتهاكات التي يتعرض لها مسلمو هذه المنطقة المنكوبة، في ظِل تمسُّك بكين بروايتها الرسمية التي لم تتوقف عن تكرارها كلما طُرحت عليها الأسئلة؛ هي معسكرات تدريب بريئة لا تسعى إلا إلى إعادة تأهيل هؤلاء السكان.
فما قصة هذه المعسكرات؟ وما هي حقيقة ما يجري فيها؟ ولماذا أعلنت الصين «الحرب العقلية» على مسلمي الإيجور؟
من هم الإيجور؟
شعب الإيجور، هُم مواطنون مسلمون يعيشون في إقليم تشينجيانج (يُعرف بِاسم تركستان الشرقية) الحيوي الذي يقع شمال غرب الصين، تعود أصولهم العرقية إلى تركيا، لذا فإن ثقافاتهم وعاداتهم أقرب إلى شعوب وسط آسيا عن الصين.
يبلغ عددهم 11 مليون مواطن، ما يجعلهم الطائفة الأكبر عددًا في تشينجيانج بنسبة 45% من سكان الإقليم، وبالرغم من أنهم نظريًّا يتمتَّعون بُحكم ذاتي، فإن الواقع العملي يكشف عن تدخل بكين السافر في أدق تفاصيل حياتهم.
لماذا تحاول الصين عزل الإيجور؟
يتمسّك مسلمو الإيجور بالرفض الكبير للثقافة الصينية، وأحيانًا كانت تتعالَى منهم مطالب بالانفصال عن الصين وإقامة دولة مستقلة لهم، وهو ما لم تقبله بكين بالطبع، وعزمت على رفض سيطرتها المطلقة على الإقليم، مهما كان الثمن.
فإقليم تشينجيانج كنز لا يُعوض بنظر الصين، يستحيل أن تُفرط فيه، فمساحته تُشكِّل سُدس مساحة الصين، ويمتلك حدودًا سياسية متميزة مع دول هامة مثل أفغانستان وقيرغيزستان وطاجكستان وباكستان وروسيا، بالإضافة إلى إقليم التبت الذي تخوض بكين نزاعًا آخر مع سكانه حول تبعيته لها، وبالتأكيد فإنها تخشى انتقال «عدوى الانفصال» من إقليم لآخر داخل حدودها.
وعلاوة على ذلك، يقع إقليم تشينجيانج على المسار القديم لطريق الحرير، وهو المشروع الذي تسعى الصين لإعادة إحيائه ضمن مبادرة «الحزام والطريق»، والذي تحاول به تعظيم علاقاتها التجارية والاقتصادية بمعظم دول المنطقة.
كما أن الإقليم هو ثاني أكبر مقاطعة يُستخرج منها النفط في الصين، ويمتلك احتياطيات طيبة جدًّا من الغاز الطبيعي والفحم والزنك والرصاص، ما يجعله مصدرًا غنيًّا بالطاقة التي لا تستغني عنها دولة صناعية كالصين، وكذلك يضم الإقليم عددًا من الصناعات الهامة مثل تكرير البترول وصناعة الصلب والكيماويات والأسمنت والمنسوجات وصناعة السكر.
اضطرابات لا تنتهي
الاحتجاجات الإيجورية على بكين ليست وليدة اليوم، وإنما بدأت منذ نشأة الحكومة الشيوعية، لكنها بلغت ذروتها عام 2009 حين صرّحت الحكومة الصينية بأنها «الخراب حلَّ على الإقليم» بسبب «العناصر الإرهابية» التي تدعم انفصال الإيجور، ولهذا فهي قررت إرسال آلاف الجنود من الجيش والشرطة لصد هذه الاحتجاجات وإعادة الاستقرار للإقليم.
وحرصت الصين من جانبها على التأكيد أن هذه الخطوة ليست عنصرية، تسعى بها لاضطهاد المسلمين في بلادها، فيما أرجع مؤتمر الإيجور العالمي (وهي منظمة تسعى بالطرق السلمية إلى تحديد المصير السياسي لشعب الإيجور) السبب وراء هذه الاحتجاجات إلى إهمال الحكومة الصينية لمسلمي إقليم تشينجيانج، فلم توفِّر لهم فرص العمل المناسبة كما لا تسمح لهم بالترقي في المناصب، على عكس قومية الهان (يبلغ عددها 40% من سكان الإقليم وتمثل القومية الغالبة في الصين ككل)، يعتبرهم الإيجور ضيوفًا على بلادهم هاجروا إليها من الأقاليم المجاورة، وبالرغم من ذلك فإنهم ينالوا حقوقًا أكبر منهم، ويُعاملوا كـ «مواطنين درجة أولى» في شتى نواحي الحياة سواء التعليمية أو المهنية أو الخدمية.
كيف عزلت الصين «تشينجيانج»؟
تقول صحيفة الإندبندنت البريطانية إنه بدءً من العام 2017 طبقت الحكومة الصينية مجموعة من القوانين «التطهيرية» داخل إقليم تشينجيانج، حيث ألزمت النساء بمنع تغطية وجوههن وحرمت على الرجال الملتحين دخول المصالح الحكومية، كما لم تعد تعتبر بكين «الزواج الشرعي عند مأذون» مسموحًا به في الإقليم، وغيرها من الإجراءات التي استهدفت شرائع المسلمين بشكل مباشر، وربما كان أفدحها هو طلب الحكومة من مسلمي الإيجور تسليم مصاحفهم التي يمتلكونها وإلا لتعرضوا للعقوبة.
كما تسربت مجموعة من الوثائق عن الحكومة الشيوعية بالصين، كشفت عن أن بكين وضعت نظامًا للمراقبة الجماعية لسكان الإقليم، كما دشنت وحدة للشركة التنبؤية التي يقوم عملها على تحليل البيانات الشخصية لمسلمي إقليم تشينجيانج.
ووفقًا لهذه الإجراءات العقابية الجماعية، وضعت بكين 1.8 مليون إيجوري تحت المراقبة المشددة لمجرد امتلاكهم تطبيق يُسمى Zapya على هواتفهم المحمولة، كما أمرت بالتحقيق مع 40.557 مواطنًا، واحدًا تلو الآخر.
كما نصت الوثائق على وجوب اعتقال كل الإيجوريين الذين يحملون جنسية أجنبية، ومراقبة من يعيشون في الخارج «حتى تستطيع الحكومة حماية الدولة من الهجمات الإرهابية للإيجوريين».
وبرغم كل هذا لا تتوقف الصين عن الدفاع عن إجراءاتها برغم كل الانتقادات العالمية لها، وهو ما يتجلَّى في تصريح السفير الصيني بالمملكة المتحدة ليو شياو مين. حينما قال إن تلك الإجراءات وفرت الحماية للسكان المحليين، ولم يعد هناك هجوم إرهابي واحد في شينجيانج خلال ثلاث سنوات بداية من2017 وحتى الآن.
داخل معكسرات تشينجيانج
تحت زعم مكافحة الإرهاب، أنشأت بكين قرابة 400 معسكر احتجزت بين أسوارها مليون شخص تقريبًا، مع إعلان الصين رغبتها في الاستمرار في بناء المزيد من المعسكرات لاحتجاز المزيد من الإيجوريين، سعيًا نحو «إعادة برمجة مسلمي الإيجور».
أعلنت بكين، أنها تسعى لإجراء عمليات إعادة تثقيف بحق مسلمي الإيجور حتى تصنع منهم مواطنين صالحين وتُبعِدهم عن طريق الإرهاب، ولتحقيق هذا الغرض أعدَّت لهم مدارس تُعلمهم «البُعد عن التطرف الإسلامي»، وتُلقنهم مفاهيم الرحمة والتسامح والثقافة القانونية، وذلك عبر إخضاعهم لسلسلة متصلة من عمليات الإرشاد النفسي وتصحيح السلوك.
من جانبها تُصرُّ الصين على أن هذه المعسكرات «مراكز تعليم وتدريب مهني»، وهي الرواية التي يرفضها العالم، وعلى رأسه مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، الذي أكد أن ما يحدث في الصين ضد الإيجور ما هو إلا انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان.
وفي الوقت نفسه قدَّمت ألمانيا بيانًا للأمم المتحدة، نيابةَ عن 39 دولة، تدعو فيه الصين إلى احترام حقوق الإنسان خصوصًا إذا تعلق الأمر بالأقليات العرقية أو الدينية.
ووفقًا لمجموعة من الوثائق المسرَّبة من داخل الحزب الشيوعي الصيني، والتي نشرتها جريدة «نيويورك تايمز»، تثبت السياسات القمعية التي تحكم هذه المعسكرات، وأنها ليست معسكرات تعليم وتأهيل بل معسكرات تحوي أبشع مظاهر العنف القسري.
وفيما يتعلَّق بتبرير الاعتقال، وضعت السلطات الصينية دليلاً للتعامل مع أبناء المعتقلين وللإجابة على أسئلتهم التي وجَّهوها للمسئولين المحليين، فمثلًا إذا سأل طفل مسئول محلي: «أين عائلتي وجيراني؟» يتم الردُّ عليهم بإجابة مُعدَّة سلفًا، بأنهم في مدرسة تدريب أنشأتها الحكومة، وأن عائلتهم ليست مجرمة لكنهم يمتلكون أفكارًا دينية متطرفة وضارَّة، ولهذا يتم تأهيلهم على يدي أمهر المعلمين في الصين.
وشدَّدت التعليمات التي تصدر عن الحزب الشيوعي في تشينجيانج وقادة الأمن في الإقليم إلى المسئولين عن إدارة هذه المعسكرات، بأنه يجب التعامل معها باعتبارها سجونًا مشددة الحراسة؛ فتم توزيع كاميرات مراقبة في كل الأنحاء، علاوة على تطبيق سياسة صارمة لحفظ الانضباط، تشمل توقيع عقوبات قاسية بحق كل مَن يُخالف التعليمات.
وضعت الحكومة الصينية تعلُّم لغة الماندرين (لغة الصين الرسمية) كأولوية قصوى يجب أن يتحصَّل عليها كل خريجي المعسكرات، كما يبذل المعلمون جهدًا كبيرًا من أجل غرس الشعور بالذنب في نفوس المحتجزين.
خصَّصت إدارة المعتقل لكل سجين سريرًا ومقعدًا ثابتين في فصول التعليم، بالإضافة إلى مكان ثابت عند تنفيذ الأنشطة الرياضية، ولا يُسمح لكل سجين إيجوري، بتاتًا، بتغيير هذا الترتيب وإلا تعرَّض لعقابٍ شديد.
وتُقام عمليات «تقييم أيديولوجية» للمعتقلين بشكلٍ دوري وفقًا لنظام النقاط، وكلما زاد التزام السجين الإيجوري وانصياعه للبرنامج التدريبي حصلوا على نقاطٍ أكثر قد تمكنهم من نيل حُريتهم في آخر الأمر.
ولا يُسمح لكل معتقل بمغادرة المعسكر إلا بعد أن يمرَّ على أربع لجان تابعة للحزب الشيوعي، تتأكد من تحول المعتقلين إلى مواطنين صالحين وفقًا للمفهوم الصيني، وحتى عند نيل المسجونين حُريتهم فإنهم لا يضمنون حياةُ مستقرة، فيخضعون للرقابة الشاملة، كم يُجبرون على استضافة عائلات من عرقية «الهان» للعيش معهم في نفس المنزل.
وبالرغم من إعلان الصين أنها تودُّ إنهاء هذه المعسكرات فإنها لا تزال مستمرة في بناء المعسكرات، عن طريق طرح العديد من العطاءات لإنشاء معسكرات جديدة، ما يُشير إلى نيتها ضخ استثمارات ضخمة في هذا البناءات ذات الأسوار الشائكة والحراسات المُشددة، والتي رصدت الأقمار الصناعية قُربها من المجمعات الصناعية، ما خلق مخاوف إضافية من أن تستغل بكين هؤلاء المعتقلين للعمل في منشآتها الصناعية بلا مقابل.