«الكتابة وأهلها»: عمر طاهر يصف لنا الصبر
من جديد يطل علينا المصري الأصيل «عمر طاهر»ببرنامج متميز. الحقيقة أن تعبير «المصري الأصيل» ليس من اختراعي، لكنه من اختراع عمر طاهر ذاته الذي سمّى به أحد برامجه السابقة «مصري أصلي». لم أجد أشمل وأعم من هذا التعبير أصف به حالته؛ فقد لا أنصفه إن وصفته بالكاتب، أو المُعد، أو السيناريست، أو حتى المذيع، هو تشكيلة مجتمعة من كل شيء بنكهة مصرية خالصة.
يطل علينا هذه المرة ببرنامج له نكهته الخاصة عن «الكتابة وأهلها»، يصحبنا في حلقات هذا البرنامج كل حلقة مع كاتب ذي نكهة خاصة، ليغوص بنا في عالمه ويحل لنا معضلة ما من معضلات الكتابة، ويصف لنا الصبر.
أول ما لفت نظري في البرنامج هو عمر طاهر نفسه الذي جلس طيلة هذه الحلقات ومع كل كاتب قابله متأدبًا، ولم ينطق عن نفسه كثيرًا، ولم يجادل بلسان الكاتب المتمرس الذي جاء يجادل كاتبًا آخر. تواضع عمر طاهر في حضرة مُعلميه الذين سيصفون له الصبر أثار دهشتي، وتحديدًا ذاك الموقف حينما كان مستغرقًا في طرح فكرة أنه يغار من الكاتب الذي استطاع أن يصنع لنفسه لونًا خاصًا، وقاطعه «صنع الله إبراهيم» قائلًا: «مثلك هكذا».
لم يدرِ عمر طاهر حينها أين ذهبت كلماته وتوقف التسجيل لعدة لحظات حتى عادت له جرأة وشجاعة الإكمال. ربما تكون هذه هي القاعدة الأولى من الصبر التي يعلمها لنا عمر طاهر بعيدًا عن ضيوفه: التواضع في حضرة المُعلمين، وجميعنا متعلمون مهما بلغنا.
«إبراهيم عبد المجيد» لا يحزن على رحيل الأفكار
الكاتب ما هو إلا فكرة صاغها قلم، لكن ماذا لو ذهبت الفكرة؟ كيف يخط القلم؟ هذا ما يعلمنا إياه الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد، يقول إنه لا يحزن على فكرة رحلت، ويصف الأفكار التي ترحل ولا يستطيع الكاتب الإمساك بها مرة أخرى أنها لم تكن بتلك الضرورة. فالفكرة الحقيقية هي التي تظل تُداعب خيالك وتلازمك صحوك ونومك حتى تتشكل بالكامل على الورق، أما تلك التي تأتي سريعًا وترحل سريعًا فلا تحزن عليها، بل استعد لقدوم أخرى.
«أحمد خالد توفيق» لا تبهره كثرة المبيعات ولا ثناء القراء، ولا حتى ذمهم!
من أكثر الحلقات الشيقة والممتعة لكل كاتب يريد أن يتعلم الصبر حلقة الكاتب الراحل د. أحمد خالد توفيق، التي يتحدث فيها عن أمور تشغل كل كاتب مبتدئ أو حتى متمرس.
خرافة الأكثر مبيعًا لا تبهر أحمد خالد توفيق، وأيضًا لا تنفره، فيرى كاتبنا الراحل أنه ليس كل كِتاب حقّق رواجًا في السوق هو كتاب جيد، كما أنه ليست كل الكتب الأكثر مبيعًا كتبًا سيئة، الفيصل الوحيد هو التجربة، فأسطورة الأكثر مبيعًا لا تهم.
يتطرق العرّاب إلى نقطة أخرى مهمة في تشكيل منهج أي كاتب: أن يبتعد عن «ما يطلبه المستمعون»، فينبغي أن تكون الكتابة عمل إبداعي خالص ليس إرضاءً لفئة بعينها، ولا طلبًا لرضا طائفة معينة من النقاد؛ فهنا سيقع الكاتب في هوة النسيان السحيقة، قد يحقق مبيعات عالية، لكنه سيختفي مع الزمن!
يؤكد الراحل د. أحمد خالد توفيق أن الجماهيرية في حد ذاتها قد تكون عبئًا على الكاتب، وقد تحد من حريته، كما أنها تجعل منه صنمًا لجمهوره، يرون فيه القيم والمبادئ التي تخيلوها، وحينما يرون منه عكس ذلك سيحطمون هذ الصنم بأيديهم.
«حمدي أبو جليل» يكتب لمن لا يقرأون!
هذا ما سيواجهه كل كاتب في مرحلة ما من حياته، وقد يكون طيلة حياته: أن يكتب وسط جماعة لا تقرأ، وألا يجد له جمهورًا من الأساس. يحكي الكاتب حمدي أبو جليل أنه نشأ في بيئة بدوية سيناوية، التعليم فيها يعد شيئًا من الترف، والقراءة والكتابة قد يصلان لأن يكونا بدعة، لكنه مع ذلك كان يكتب، ورغم ضيق الحال في فترة ما من حياته، وعمله في «الفاعل» كان يستمتع ويجد نشوة وحبورًا في قراءة بعضٍ مما كتب لجماعة من العمال، وينسيه ثناؤهم المتواضع كل منغصات الحياة.
من المواقف الطريفة التي يرويها حمدي أبو جليل أن الكاتب في مصر لا يستطيع التصريح بكونه كاتبًا – ربما لأن هذه الكلمة لم تحظ بالتقدير بعد، أو معناها ما زال مبهمًا للكثيرين – فكان يستخدم عوضًا عن ذلك كلمة صحفي، وهذا ما سبب له الكثير من المتاعب في الكمائن والدوريات الأمنية؛ فصار يصف نفسه بالـ«موظف» إذا ما سئل عن مهنته.
لماذا تكتب؟
كان عمر طاهر مصرًا على أن يكرر هذا السؤال على كل ضيوفه من الأدباء، تنوعت آراؤهم وتباينت، فنجد أحمد خالد توفيق أجاب بأنه يكتب لأنه قرأ كثيرًا وكان لابد لهذه الفورة من المعرفة أن تخرج، وأن الكتابة له بمثابة علاج نفسي. وجاءت إجابة صنع الله إبراهيم سلسة وتلقائية: «لا أجيد شيئًا آخر، ولا أستطيع تحقيق ذاتي في غير الكتابة». بينما الكاتب إبراهيم عبد المجيد كان يرى أنه منذور للكتابة منذ الصغر، منذ قرأ قصة «الصياد التائه» بدأ ينساق للكتابة طواعية.
أما الكاتب عبد الرحيم كمال فكانت الكتابة بالنسبة له لسانًا آخر، لسانًا يتيح له مزيدًا من الحديث لمزيد من الأشخاص: «أن تحكي عن كل القصص والحكايات بداخلك من خلف ستار، ثم يكشف الستار وتُفاجأ بأعداد هائلة من البشر قد سمعت ما قلت».
هل الصبر ممكن أم أنه خيال؟
لا أدري أهي مصادفة أم أن عمر طاهر تعمد اقتباس اسم البرنامج من المقطع الشهير من أغنية أم كلثوم «ودارت الأيام»، إذا كان مُقتبسًا من الأغنية فقد وصفت كوكب الشرق الصبر بعبارة: «لقيته خيال». فما هو الصبر الذي أراده عمر طاهر؟ هل هو الصبر على الكتابة ودروبها الوعرة؟ ربما.
هذا البرنامج يقدّم للكُتاب المبتدئين وصفة سحرية للدخول إلى عالم الكتابة الساحر، والجلوس لساعات مطولة مع أبرز أدباء العصر الحالي، وأخذ زهرة من بستان كل منهم؛ فلكل واحد منهم تجربته الخاصة، كما أن البرنامج يناقش قضايا عدة تخص الكتابة من تشتت الأفكار وحتى النشر ومشاكله، والنقد والتعامل معه.
السؤال هنا موجه لكل كاتب مبتدئ بعد مشاهدة حلقات هذا البرنامج: هل الصبر ممكن مع هذا الكم الهائل من الصعوبات التي ستواجهها حتى تصل إلى الاحتراف؟ وختامًا هل أهل الكتابة «صحيح مساكين»، كما أهل الحب؟
