أن تكتب مقالًا سينمائيًّا عن غزة
ألعاب الجوع، هاجس الحرب العادلة ونتائجها
تقول المؤلفة الأمريكية «سوزان كولينز» أن فكرة السلسلة الشهيرة «hunger games» جاءت لها خلال ليلة، تنقلت فيها بريموت التحكم بين برامج تلفاز الواقع الترفيهية، والتغطية الإخبارية لمشاهد حرب «العراق» الدموية. لتجد على تناقض الحالتين، خيطًا من المُشابهة!
تبدو التغطية الإخبارية للحروب على دمويتها، مُرعبة في البداية، ثم مُعتادة، وأخيرًا تحمل مألوفيتها البليدة للبعض قدرًا من التسلية المُحرمة، لأناس يُشاهدون الجحيم منقولًا على الهواء من مرفأ آمن. برنامج تلفاز واقعي، بدون ميزانية أو طاقم عمل أو فريق كتابة، ضحاياه حقيقيون وأبطاله كذلك.
صنعت «سوزان» من رحم تلك المُفارقة عالمًا خياليًّا من مُقاطعات تثور في وقت واحد ضد سُلطة وحشية، لكنها تنهزم بلا رحمة، عندها تُقرر السلطة بسادية تحويل الهزيمة إلى أوليمبياد حداثية تقوم كل عام بتخليد التمرد وإعادة تدويره في صورة برنامج تلفاز واقعي تُقدم فيه كل مقاطعة بطلًا شابًّا، قربانًا تعتذر به كل مدينة عن ثورتها القديمة، يتقاتل أبطال المُقاطعات في حرب دموية مُسلية تُبث على الهواء. برعاية السلطة المتوحشة. لتُكفر الأجيال الجديدة عن خطيئة الثورة التي قامت بها الأجيال الأقدم. فلا تفكر أبدًا في تكرار التمرد.
تقول «كولينز» إن جوهر «ألعاب الجوع» هو مُحاولتها لمُقاربة سؤال الحرب العادلة just war الذي شغلها طويلًا، في عالمها الخيالي يتعرض سُكان المُقاطعات للعبودية، والإذلال، مما يمنحهم شرعية للثورة، لكن ما جدوى الثورة أمام كيان عملاق سوف يسحق الثورة وقت حدوثها؟ مُحولًا إياها كل مرة إلى عرض تلفاز واقعي عالمي، يُشاهده الملايين بتبلد بارد بينما ضحاياه هي أجيال شابة وربما طفولية لتكون ضحية لذلك العرض العقابي. عرض يكون ناجحًا كل مرة بقدر ترويعه وزلزلته لنفوس المشاهدين.
تبعًا لكولينز، رغم أخلاقية وشرعية الهجوم الذي شنته المُقاطعات فإن ابتذال هزيمتهم بأكملها في صورة عروض تلفاز واقعية تخلد عقابهم، يجعل فعل المقاومة نفسه محل مُساءلة، يقف وحيدًا في مرمى اتهامات العبث واللاجدوى؟ لأنه ينتهي كل مرة لأكثر صور الحضور ابتذالًا، كابوس بالبث المُباشر. ومذبحة تأديبية تُجرى بقوانين تلفاز الواقع. ورغم كل ذلك تختار «سوزان»، عبر شخوصها، فعل المُقاومة.
خلال أحداث «السابع من أكتوبر» وما تلاها، قاربت الميديا الغربية سؤال الحرب من الزاوية نفسها.
في دراما «ألعاب الجوع»، بينما كان المُعتاد هو عدوان السلطة على المقاطعات الصغيرة، جاءت المفاجأة المُزلزلة من ثورة المُقاطعات بشكل مُنظم ومؤلم للسلطة.
قامت «إسرائيل» بخمس حروب سابقة على قطاع غزة والذي يُشبه كثيرًا في ضيق مساحاته وفقر إمكاناته مُقاطعات عالم «ألعاب الجوع»، حروب تمت تغطيتها بالكامل من الإعلام الغربي كأحداث مٌعتادة في منطق الواقع العالمي على وحشيتها، ولكن خلقت أحداث «طوفان الأقصى» خللًا مخيفًا في التغطية لكونها مقلوب هذا الواقع المُعتاد. المقاطعة الصغيرة أطلقت طوفانًا من جحيم على السلطة الراسخة.
قررت السردية الإعلامية الغربية بالإجماع لكي تقبل أي صوت عربي مُتحدث بداخلها أن يُدين أولًا فعل المقاومة نفسه، بعد إثقاله بصور أفعال بربرية مثل الاغتصاب وقطع رءوس الأطفال لتنزع صفة الأنسنة تمامًا عن المهاجمين، بروباجندا تراجع عنها بقلق «البيت الأبيض» نفسه وأكد عجزه عن التيقن من حدوثها، ثم بعد الإدانة يأتي الحديث عن سؤال الجدوى من الأساس لأي تحرك في وجه سلطة مركزية فاعلة بحجم اسرائيل، خاصة مع علم الفلسطينيين أن إسرائيل ستُقدم برنامج تلفاز واقعيًّا دمويًّا قدمته من قبل مرارًا، لكن تلك المرة عليها تقديمه بصورة أكثر وحشية لتستعيد هيبتها.
تكتسب المذبحة في هذا الخطاب شرعية دولية لكونها مُتوقعة الحدوث رغم انعدام السببية بين الفكرتين، وينتقل سؤال الإعلام من مُساءلة شرعية الحرب أو المذبحة والسياق التاريخي الذي صنع هجومًا بتلك القوة من الأساس في تلك البقعة المأزومة من العالم إلى سؤال ما هي جُرعة الرد المُناسبة لإسرائيل؟ وهو سؤال تشويقي مُستمد بالأساس من الحلبات الرومانية، ودرجة الفتك اللازمة لإسعاد الجمهور وإرضائه ليعود لواقعه بدرجة من النشوة الآمنة أن شيئًا في نظام العالم لم يتغير. يكتمل ديكور الحلبة بتوصيف الطرف الآخر بحيوانات بشرية وتأطير قتلهم بنبوءة «أشعياء» التوراتية التي تجعل المذبحة حتمية كونية لا مجال لمُساءلتها. فهي برعاية الآلهة.
الحرب كاستعراض إعلامي
في كتابه الشهير «مُجتمع الاستعراض» كي يختار الفيلسوف «جي ديبور»، صورة مجازية مُعبرة عن مُعاملة الأنظمة الرأسمالية الحديثة لأفرادها، كان عليه أن يستعيرها من وسيط السينما، وهي الصورة الأيقونية للجمهور خلال عرض فيلم Bwana Devil أول فيلم 3D بالألوان عام 1952. تُظهر الصورة الجمهور وهم يرتدون نظارات المُشاهدة كمتفرجين مُستلبي الإرادة، رغم أنهم يجلسون معًا متجاورين إلا أن كلًّا منهم مُنفصل في خضوع تام لإرادة ما يُعرض عليه. يرى «ديبور» أن الرأسمالية تصنع في أفرادها التأثير نفسه.
تبعًا لديبور تقوم وسائل الإعلام الحديثة باختزال كل حدث مهما كان مروعًا إلى سرديات مُبسطة يتم تكرارها بلا ملل مصحوبة بطوفان من الصور يتجاوز التعقيدات الجغرافية والتاريخية لما يعرضه، مُحولًا بالصورة ما يحدث إلى حدث يُمكن تفسيره بشكل موحد عالميًّا، ومُبسط إلى جماهير مُستلبة لا تملك القدرة على تفنيد ما تراه أو محاولة البحث عن تتمة لسياقه خارج مربع الشاشة الصغير.
تنتصر السردية المُبسطة مهما كان الحدث وحشيًّا، ومهما كان الاشمئزاز من المعروض حاضرًا. تستفيد الدول الحديثة من ذلك التأثير في تحويل حُروب كاملة غير شرعية إلى حدث مُتوقع ومُستساغ ومنطقي، إذا تم بثه بالسردية المُناسبة.
الإرهاب كفيلم شيق
كتب «ديبور» ذلك التصور السوداوي لأثر الإعلام على مُتلقيه في عام 1967، في وقت كان فيه التلفاز اختراعًا ثوريًّا قادمًا بطوفان من الصور، ليمنع المُتلقين من التواصل الإنساني والنزول للشوارع لرؤية الأحداث بأم أعينهم، إنما ليتحولوا بحسب «ديبور» إلى وحدات مُنعزلة على أريكة منزلية يُشاهدون صندوقًا معدنيًّا سحريًّا في منازلهم الصغيرة يوحدهم بسرديته ويفصلهم عن التواصل معًا والتفنيد لما يرونه في غرفهم الصغيرة.
لم يحيَ «جي ديبور» لوقت وسائط التواصل الاجتماعي الحالية التي يُمكنها بتغيير بسيط في خوارزمياتها أن تصنع عُزلة كاملة للمرء عما اعتاد مشاهدته وعمن اعتادوا متابعته، أن تُحول شخصًا عاديًّا بشكل اضطراري إلى قرصان الكتروني بارع في لي عُنق الألفاظ والحروف وتشويه الصور البصرية بالشطب العشوائي ليُفلت من رقابة روبوت ذكي بارد.
أن تمحو خوارزمية جديدة حُضور ملايين الأشخاص وأصواتهم المُستغيثة من بقعة بعينها في العالم فيصير ما يحدث لهم وهم خيالي خافت الصوت. وأن تتحول مجزرة عُرضت ببث مُباشر إلى سؤال تقني حول مصدر الصاروخ الذي صنعها.
يقول «ديبور» إن القاعدة تصير ببساطة:
ما هو جيد يُعرض، ما لم يعرض، غير موجود بالأساس.
المشاهير في مُجتمع الاستعراض
يقول «ديبور» إنه في ثقافة مُجتمع الاستعراض، يتم تفريغ المشاهير celebrities من أي تأثير فرداني يُمكن أن يُحدثوه لتغيير السردية المفروضة عالميًّا في أي سياق، بينما يظهر المشاهير كأمثلة على التحقق والنجاح الفردي إلا أنهم على حد وصفه enemy of the individual أعداء لفكرة الفردانية لأنهم يسوقون نظام حياة كامل مُهيمن على فردانيتهم تقف وراءه مؤسسات وبنية مُعقدة تخلق الفرد المشهور والمؤثر على صورتها وتوجهاتها. ولو خالف تلك الصورة أو تحرر منها فستنبذه في الحال ليعود فردًا خلوًا من أي تأثير.
في أشهر مشاهد «ألعاب الجوع» يتحول الأبطال كرهًا إلى رموز إعلامية لمُجتمع اللعبة، يتحدثون بوجوه تُحاول أن تخلو من الانفعال، تتبرأ تمامًا مما تتطلبه فردانيتها، ومن الثمن الواجب دفعه لذلك، فتظهر الشخصيات الرئيسية بشكل آلي يكشف مُعاناتها الداخلية مع استلاب ملامحها الخارجية لصالح لعبة إعلامية بالأساس.
أتذكر تلك الحالة بالتحديد عند رؤية فيديو «محمد صلاح» الذي صنعه بعد أيام من مُطالبات جماعية له باستخدام رأسماله المعنوي للحديث عن مذابح حرب غزة، يظهر صلاح بسردية حذرة تسير على صراط حاد بين التورط في الحدث أو التبرؤ منه، البعض وصف برودة الحديث وآليته بأنه مُنفذ بالأساس بتقنية الذكاء الاصطناعي، ليتحرر صاحبها من أي انفعال إنساني يُمكن أن يفلت منه ويؤخذ عليه. وهو ما زاد الانطباع باغترابه الكامل عن الحدث الذي يتطلب التعاطف من صاحبه.
لا يهدف المقال لإدانة «محمد صلاح» أو تبرير موقفه، إنما توصيفه كمثال ممتاز عن تعقد العلاقة بين المؤثر في فردانيته وعلاقته بالمؤسسات التي يتمظهر عبرها بالدور والمكانة.
أن تتحطم السردية من شاشتها
رغم وصف «ديبور» للإعلام بتلك الصورة كبيئة قمعية من الزيف المُصور، فإنه يعترف بصعوبة استدامة الأمر، صعوبة استدامة سردية بعينها باعتبارها الحقيقة الوحيدة لما يحدث.
في دراما «ألعاب الجوع» تولد المُقاومة من رحم تلفاز الواقع الذي ابتذل الثورة القديمة عبر شخصية «كاتنيس إيفردين» التي تتحول عبر الوسيط الذي صُمم لنقل رسالة الإذلال عالميًّا إلى وسيط مُسخر لنقل رسالتها بتثوير المُقاطعات. تتحول شخصية تلفزيونية مُستدعاة من السلطة لإكمال سيرك من الإذلال في تلفاز الواقع إلى أيقونة للثورة على الوسيط والفكرة نفسها.
تنفلت السردية الإعلامية للحرب على غزة من الشاشات العالمية إلى فضاءات أكثر عشوائية وصعوبة في السيطرة عليها، مثل مؤثري التيك توك والانستجرام، وبالتضييق الكامل على المنصات، يقوم البشر في العواصم العالمية بأكثر الأفعال قدمًا وبساطة، والتي ظهر مجتمع الاستعراض بالأساس – حسب ديبور – للحد منها وهو التواصل الإنساني في الشوارع بالتظاهر والمحاورات وتبادل المعلومات. لتنفجر مظاهرات بمئات الآلاف في قلب العواصم التي أعلنت تأييدها غير المشروط للسردية المُهيمنة في الإعلام مثل باريس ولندن وبرلين.
ورغم ابتذال الحرب وضحاياها في صورة أرقام وإحصائيات مُملة، فإن منطق الربح يفرض نفسه، فيُسخر إعلاميون مشاهير بالعالم مثل «بيرس مورغان» منصتهم للأصوات المقموعة التي تجر وراءها مُشاهدات مليونية من مجتمعاتها التي تتوق لرؤية نفسها حاضرة في السردية العالمية.
في عالم «ألعاب الجوع» صُنع مُجتمع كامل على الدعاية التلفزيونية والأسطورة المُصورة، والأدوات نفسها كانت الطريق لتفكيك رواية هذا العالم.
طغت على وسائل الإعلام العالمية طويلًا السردية الإسرائيلية حول الكيان المُحاصر ببطولة كواحة للديمقراطية في شرق أوسط همجي يتوق لابتلاعه، فتحت إسرائيل أبوابها لكاميرات العالم لتوثق التناقض الشعري بين أمة مُحاطة بأعدائها كضحية كاملة، لكنها لا تتوقف عن التقدم التقني والعُمراني والتكنولوجي.
في عام 1987 مع بدء الانتفاضة الأولى تحطمت تلك الصورة، عندما ظهر أطفال بحجارة مُثيرة للشفقة، أمام وحوش المُدرعات والآليات المعدنية، ليسحبوا بكادرات درامية في جوهرها وسينمائية في شعريتها دور الضحية أو داود الصغير من السردية الإسرائيلية التي تحولت أمام العالم لشرير حكايتها أو جالوت العملاق. تكرر الأمر نفسه في الانتفاضة الثانية عام 2000 عندما أُذيع على الهواء مصرع طفل يحتمي بأبيه الذي يبدو بلا حول أو قوة أمام سيل رصاص مُنهمر. ليمنح «محمد الدرة» وجهًا مألوفًا لمأساة قوامها أرقام باردة وإحصائيات مُجردة. عندما يصير للمأساة وجهًا يصير التعاطف ورطة عالمية.
في كل مرة تتحول مُعاناة شعب كامل إلى برنامج تلفاز واقعي مُمل لفرط تكراره، ومثير للتبلد رغم زيادة إحصاءاته وأرقامه، تنفلت صورة بعينها لتؤنسن السياق بأكمله وتورط المُتلقين في الحدث، ليحدث شرخ في حالة مُجتمع الاستعراض. وهو ما اعتمدت عليه «كولينز» ليكون التويست في عالمها الخيالي.
ما بدأ كمراوحة مُملة بين برامج التلفاز الواقعي ومشاهد الحرب الوحشية في بلد بعيد مُستدعى لعالمها عبر سرديات إعلامية مُمنهجة وصارمة، تحول بقلمها إلى مفارقة شيقة في عوالم الخيال، عندما تعدو بطلتها «كاتنيس» بين العالمين وتُحطم زيف الصورة وتحتلها لتؤنسن ضحاياها. وتصير شاشة التلفاز الواقعي المُصممة لإذلال المُقاطعات شرارة الثورة على سردية العاصمة المتوحشة.
أن يصنع نولان فيلمًا عن غزة
بدأ «ديبور» أول سطر في كتابه مُجتمع الاستعراض، كمُحاكاة ساخرة لأول سطر كتبه كارل ماركس في رأس المال، بينما قال «ماركس» إن الثروة في المُجتمعات الرأسمالية تظهر في صورة مُراكمة هائلة للسلع، يقول ديبور إن الحياة في المجتمعات الرأسمالية الحديثة باتت تُقدم نفسها في صورة مُراكمة هائلة للمشاهد المُصورة، كل شيء بات يُمكن استدعاؤه وتحويله إلى صورة مُمتعة وربحية حتى لو كان المأساة نفسها.
للمفارقة كان فرسا الرهان في السينما العالمية هذا العام هما فيلمي «باربي» و«أوبنهايمر»، وكان جوهر الحملة الدعائية للفيلمين هو أن يُجرب المتلقين في كل بلدان العالم تجربة المشاهدة لهما تباعًا في نفس اليوم، خاصة أن كل فيلم يقدم نفسه بجو وألوان وشُحنة تناقض الآخر. ورغم هذا التناقض الشاسع بين الحكايتين، فإن ما يجمع بينهما هو شعور واحد يُمثل العمود الفقري لكل حكاية على حدة، وهو الذنب الغربي.
يُقدم «باربي» الذنب الغربي على الصورة الماركسية، حيث الإنسان بات يُعرف نفسه بما يملكه وبعلاقاته مع السلع، وبالتالي امتلكت سلعة بسيطة مثل باربي سُلطتها في تكريس صورة القوام والجمال الأنثوي، لتخضع ملايين النساء لصورة سلعة اشترينها بنقودهن. سلعة بلا حول ولا قوة لكن سلطتها المعنوية جارفة.
بينما يُقدم «أوبنهايمر» الذنب الغربي على صورة «ديبور»، حيث تتحول مأساة قُتل فيها آلاف الأشخاص بتلاعب إعلامي سردي إلى مأزق عرضي خلقه إنسان تأله وهو «روبرت أوبنهايمر» الذي قدمه نولان في صورة «بروميثيوس»، ليصير ذلك عنوان الغلاف، نصف إله إغريقي قدم النار للبشر فبنوا بها حضارتهم وكذلك مُمكنات هلاكهم.
رغم تحقيق الفيلمين لأرباح فلكية فإن المُتلقي مُستلب بالكامل أمام دلالات الحكايتين، بينما الذنب يجمع القصتين إلا أن الإنسان الغربي في الحكاية الأولى ذنبه أنه أضعف من مقاومة سلعة ومنح مصنعًا بعيدًا يُنتج دمى مُتماثلة القدرة على ترسيم تصورات الغربيين حول أنفسهم، بينما في الحكاية الثانية ذنبه أنه أقوى مما ينبغي، بدرجة نصف إله، وأن خيار شخص واحد مثل «أوبنهايمر» حمل التطور التقني في يد والهلاك الكامل في يد أخرى.
فكرت طويلًا في مُفارقة سؤال خيالي فانتازي، هل يُمكن أن يصنع «نولان» يومًا فيلمًا في المستقبل عن غزة؟ أو أن تُقدم غزة في المخيال الغربي بعد سنوات طويلة، كمأزق أخلاقي لشخص غربي يُساند إبادة مدينة وفق سردية مُراوغة؟
ينقسم المتلقون الغربيون في تعاطيهم مع السردية السائدة عن الحرب الحالية، بين مؤيد ومُعارض، يُعاني المُعارضون للإبادة بين الشعور بالذنب الذي يتأرجح بين الذنب للانتماء لجانب العجز أو الذنب للانتماء للجانب المفرط في قوته، عجزهم عن ردع قادتهم عن توجيه مليارات من أموال دافعي الضرائب لإبادة وجوه أطفال أبرياء لا يعرفونها إلا في المقاطع المصورة للأشلاء، وكذلك الشعور بالذنب لأنهم ينتمون للقوة الكبرى في العالم، التي يُمكنها إنهاء حرب كانت تُحتضَر بالفعل بإدخال عالم كامل عصر الفناء النووي.
للمفارقة كان «نولان» هو الذي قدم النسخة الأكثر شعبية من بطل المخيال الأمريكي باتمان، والذي يُعاني من عُقدة الذنب نفسها، أنه فرد واحد، أضعف من الدفاع بمفرده عن المدينة، وأنه بتصديه للدفاع في ثوبه الأسود يصير رمزًا للقوة المارقة التي تعمل خارج مظلة القانون، يُمثل باتمان مُعضلة لقوانين العدالة الأمريكية، فهو يُنفذ عدالته الخاصة، ولذلك يصير نصف إله لدى البعض ونصف شيطان لدى البعض الآخر.
تظهر تلك المفارقة مرارًا في المخيال الأمريكي، ونجد ذروتها في الرجل الحديدي iron man الذي يتحول من تاجر ومُخترع أسلحة مورست بها مذابح إبادة في البلدان النامية إلى مُدافع عن الحُرية في وطنه الأم. وتظل تلك المفارقة هي جوهر القلق للشخصية السينمائية على الشاشة والشخصية الأمريكية في الواقع.
يقول «وودي آلان» إن كثيرًا من الحكايات بما فيها الكوميديا نفسها هي مُعادلة المأساة زائد الوقت الكافي لنسيانها وخلق مألوفية مع واقعها، لذلك بات مُمكنًا عام 2023 تقديم فيلم عن مُعاناة صانع القُنبلة الذرية، بينما كم يُمكن أن يمر من الوقت والزمن، قبل أن تُستعاد «فلسطين» في المخيال الأمريكي والعالمي كمرآة للذنب الغربي، كخطيئة مُتبقية للعالم الحديث من زمن الكولونيالية القبيح؟
يظهر كثير من المُتلقين الغربيين في مقاطع بدموع حقيقية عاجزة أمام مذبحة تُجرى بموافقة وتسهيل قادتهم، مذبحة لو حدثت في السينما الأمريكية فسيأتي بطل خارق مؤرق بعقدة ذنب شخصية ليُنقذ أفرادها، ليُمثل الشخصية الأمريكية الحقيقية التي لا تخضع لإملاءات حكومتها، بل تصحح أفعالها، ولكن في نهاية تلك المقاطع يموت الأبرياء بينما البطل لا يأتي، لأن الواقع أكثر قسوة في صدقه من الميثولوجيا السينمائية التي تحل إشكالات الذنب الغربي وتاريخه على الشاشة بدلًا من حلها في الواقع.
فريدي كروغر، أن تقتلنا الأحلام
في عام 1984، قدم الكاتب والمُخرج الأمريكي «ويس كرافن» شخصية «فريدي كروغر» الكيان المُرعب الذي يقتل الناس في أحلامهم، ينام المرء ليجد «كروغر» كابوسًا يستحوذ على روحه في الحلم، فلا يستيقظ أبدًا.
يقول «ويس كرافن» إنه استعار فكرة الشخصية التي تُمثل الآن علامة حاضرة في وجدان الرعب الأمريكي، من خبر في صحف «الغرب الأوسط» عن أطفال جاءوا للولايات المُتحدة ليعيشوا في كنف عائلات بديلة هربًا من جحيم نظام «الخمير الحُمر» والإبادة الدموية في «كمبوديا» آنذاك، ظل الأطفال طويلًا يُعانون من كرب ما بعد الصدمة، وكوابيس مُتكررة يستيقظون في نهايتها غير مُصدقين أنهم نجوا، بالوقت وبدون تلقيهم للرعاية النفسية المناسبة، يموت الكثير من الأطفال في نومهم بلا سبب، فلا يجد البعض تفسيرًا إلا أنهم قتلتهم كوابيس ذكريات الحرب التي عايشوها.
يقول عالم النفس الكندي الشهير «غابور ماتي» إنه يتذكر سيدة فلسطينية تواصلت معه من «أريحا» للنقاش حول عملها في إعادة تأهيل أطفال فلسطينيين تعرضوا لتجربة الحرب والسجون لفترات طويلة عبر تقنيات التأمل والتدريبات الصوفية، عندما شرح لها «غابور» خبرته الطبية في التعافي من كرب ما بعد الصدمة، أخبرته الطبيبة:
«الفلسطينيون لا يمتلكون رفاهية، أن يعانوا كرب ما بعد الصدمة وويلاته، لأن التروما لم نجاوزها إلى المابعدية، التروما يومية وحاضرة ومُستمرة».
لأسبوعين كاملين ظلت المُعضلة حاضرة، كيف يُمكن للمرء أن يكتب مقالًا سينمائيًّا عن واقع أكثر بشاعة من السينما، السينما هي مُحاولاتنا لخلق جمالية مُشتقة من الحدث، كيف يُمكن أن تخلق سينما عن حدث لم ينتهِ بعد؟ وجماليته تنسحق تحت أطنان من الركام والجُثث؟ كيف تكتب عن أطفال يقتلهم الواقع، قبل أن تقتلهم تبعات الكوابيس والأحلام؟