عالم أقل سلامًا: مؤشر السلام العالمي 2020
شهد العالم خلال هذا العقد العديد من الاحتجاجات الشعبية والنزاعات المسلحة وأعمال العنف والأعمال الإرهابية. وما إن شارف العقد على نهايته، حتى كانت جائحة كورونا التي هدّدت السلم العالمي كأحد أخطر الأوبئة في تاريخ البشرية وأوسعها انتشارًا.
وفي هذا السياق أصدر معهد الاقتصاد والسلام (IEP) النسخة الـ 14 من مؤشر السلام العالمي (GPI)، والذي يُصنِّف 163 دولة ومنطقة مستقلة وفقًا لمستوى سلامتها، ويغطي 99.7% من سكان العالم، باستخدام 23 مؤشرًا نوعيًا وكميًا، حيث يقيس المؤشر حالة السلام عبر ثلاثة مجالات رئيسية هي: مستوى السلامة والأمن المجتمعي، ومدى استمرار النزاع المحلي والدولي، ودرجة العسكرة.
واتساقًا مع الظرف العالمي، حرص تقرير هذا العام على التعرض بالتحليل لجائحة كورونا وتأثيراتها على السلام الإيجابي والاقتصاد. ونسعى عبر هذا التقرير إلى عرض أبرز نتائج المؤشر.
نتائج عامة
تدهور مستوى الهدوء العالمي للمرة التاسعة في السنوات الـ 12 الماضية، وللمرة الرابعة في السنوات الخمس الأخيرة. وحافظت أيسلندا على موقعها الذي تشغله منذ عام 2008 كأكثر الدول سلمًا في العالم، فيما جاءت أفغانستان للعام الثاني على التوالي كأقل الدول سلمًا، كما ظلت أفغانستان وسوريا والعراق وجنوب السودان منذ 2015 حتى الآن ضمن الدول الخمس الأقل سلمًا. كما لاحظ المؤشر أن الفجوة بين الدول الأقل والأكثر سلمًا تزداد اتساعًا منذ عام 2008.
وبينما كان «الإرهاب والصراعات الداخلية» أكبر المساهمين في التدهور العالمي في السلم خلال العقد الماضي، إلا أن إجمالي وفيات العمليات الإرهابية انخفض كل عام على مدى السنوات الخمس الماضية منذ أن بلغت ذروتها في عام 2014، حتى وصلت الآن إلى أدنى مستوياتها في العقد الماضي.
وقد بلغ الأثر الاقتصادي للعنف على الاقتصاد العالمي في 2019 حوالي 14.5 تريليون دولار بما يعادل 10.6% من الناتج العالمي الإجمالي، وبتحسن عن 2018 نسبته 0.2% بفضل انخفاض الأثر الاقتصادي للإرهاب وللنزاعات المسلحة في الشرق الأوسط. وتكبدت سوريا وجنوب السودان وأفغانستان وفنزويلا على التوالي أكبر تكلفة اقتصادية للعنف كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الصعيد الإقليمي تظل أوروبا المنطقة الأكثر سلامًا في العالم -رغم تسجيلها تدهورًا طفيفًا في السلم- حيث تضم 6 من الدول الـ 10 الأكثر سلمًا، كما تدخل جميع دول القارة -عدا دولتين فقط- في النصف العلوي من المؤشر. وتعد تركيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي تصنف ضمن أقل 25 دولة. فسجلت تدهورًا طفيفًا نتاج استمرار أزمة اللاجئين في أوروبا طوال عام 2019 التي أدت إلى زيادة التوترات مع اليونان والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى مواصلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قمع المعارضة، وارتفاع معدل الحبس بنسبة 8.3%.
وحيث كان الصراع في الشرق الأوسط المحرك الرئيسي للتدهور العالمي في السلم طوال العقد، ظلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هذا العام الأقل سلمًا في العالم للعام السادس على التوالي. فتقع أربعة من دولها ضمن الدول العشر الأقل سلمًا في العالم، مع وجود ثلاثة فقط من دولها ضمن الـ 50 دولة الأكثر سلمًا. وقد سجّلت سوريا -كثاني الدول الأقل سلمًا- تحسنًا طفيفًا في الهدوء بفضل تراجع الصراع، فرغم استمرار تشرد ولجوء ملايين السوريين إلا أن نحو 35.000 نازح عادوا إلى ديارهم في إدلب عقب اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/آذار 2020، بالإضافة إلى تحقيقها لأكبر انخفاض في الوفيات، فيما أضحت أفغانستان الآن صاحبة الحصة الأكبر من قتلى الصراعات الداخلية.
وحسب أنواع الحكومات، حدثت الغالبية العظمى من زيادة النزاع المسلح خلال العقد الماضي في الأنظمة الاستبدادية، ورغم أن تدهور السلام في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية والهجينة والديمقراطيات المعيبة كان أكثر من الديمقراطيات الكاملة، إلا أن الأخيرة تشهد تدهورًا منذ خمس سنوات بسبب عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الاجتماعية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.
عام احتجاجي في ختام عقد الاحتجاجات
وجد التقرير زيادة حادة في الاضطرابات المدنية منذ بداية هذا العقد، حيث ارتفع عدد أعمال الشغب والإضرابات العامة والمظاهرات المناهضة للحكومة في جميع أنحاء العالم بنسبة 244%. وقد شهدت أوروبا أكبر عدد من الاحتجاجات وأعمال الشغب والإضرابات خلال تلك الفترة، تليها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تراجعت الاضطرابات فيها منذ ذروة الربيع العربي عام 2011 إلى 2018 بنسبة 60%، وفي الفترة ذاتها فإن 8 دول فقط على مستوى العالم لم تسجل أي اضطرابات مدنية، بينما شهدت الهند العدد الأكبر.
وتميز عام 2019 بزيادة الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم حيث شهدت خلاله أكثر من 96 دولة مظاهرة عنيفة واحدة على الأقل. وقد عرض التقرير لهذه الاحتجاجات من خلال إلقاء نظرة سريعة على أهم دوافع ووقائع ونتائج هذه التظاهرات في دول من مختلف مناطق العالم.
وفي الأشهر الأخيرة واجهت حكومات العالم ضرورة ملحة لتقييد الحركة من أجل احتواء فيروس كورونا، فانخفضت المظاهرات بنسبة 90% من 11 مارس/آذار إلى 11 إبريل/نيسان 2020. ومع ذلك فإن من المرجح أن تؤدي الصدمة الاقتصادية التي ستتبع عمليات الإغلاق إلى زيادة الاضطرابات المدنية.
كما يربط التقرير بين الاحتجاجات ونوع الحكومات، حيث انخفض معدل الاضطرابات المدنية في الأنظمة الاستبدادية بنسبة 30% من عام 2011 إلى 2018، فيما سجلت الديمقراطيات المعيبة أكبر زيادة بارتفاع معدل المظاهرات عشرة أضعاف، كما شهدت الديمقراطيات الكاملة مستويات معتدلة من الاضطرابات طوال العقد الماضي، لكنها تتميز بكونها أقل عرضة للعنف أو انهيار الاستقرار السياسي أو تغيير النظام.
تأثيرات كورونا
يرى التقرير وجود علاقة بين معدلات وفيات الفيروس وأعمار السكان، حيث تسجل الدول ذات النسب الأكبر من المواطنين المُسنين معدلات وفاة أعلى، كما أنه يؤثر على الرجال أكثر من النساء، وتزداد معدلات الإصابة في المناخات الأكثر برودة. بالإضافة إلى عوامل مؤثرة أخرى، كمستويات الفقر والرعاية الصحية والنظام الصحي وقدرة السلطات على تنفيذ التباعد الاجتماعي.
ومن المرجح أن تؤدي الأزمة والتدابير المتخذة حيالها إلى انكماش النشاط التجاري والاقتصادي، ودخول معظم الدول في حالة ركود في عام 2020، حيث تتعرض اقتصاديات السفر والسياحة لانكماشات شديدة لا تتعافى منها قبل التوصل إلى لقاح الفيروس، بالإضافة إلى تضرر الضيافة وتجارة التجزئة والموارد المعدنية والتعليم والترفيه والطاقة والشحن والخدمات المصرفية والمالية، بينما قد تتجنب قطاعات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وإنتاج الغذاء الاضطرابات الشديدة. كما قد تتغلب بعض الخدمات المهنية كالتسويق والمحاسبة والموارد القانونية والبشرية على الأزمة بشكل جيد نسبيًا إذا ركزت على العملاء الذين لم يتأثروا بشدة بالوباء، وسينتعش قطاع البناء عقب انخفاض حدة الوباء بمحاولة الحكومات تنشيط الاقتصاد عبر مشروعات البنية التحتية.
ويُرجِّح التقرير أن تتعافى الدول التي تجمع بين: مستويات دين عام منخفضة، وأداء حكومي قوي، وبيئة أعمال جيدة، ومستويات مرتفعة من رأس المال البشري، وسيادة اقتصادية مرتفعة، وعلاقات دولية جيدة، واستثمار قوي في البحث التكنولوجي والعلمي بشكل أسرع.
وستتمكن حكومات الدول المتقدمة التي كان وضعها المالي جيدًا نسبيًا قبل الأزمة من الاقتراض لزيادة مدفوعات الرعاية ودعم الشركات، مما يخفف من آثار الوباء على معدلات الفقر. وعلى العكس من ذلك فإن الدول التي كانت مثقلة بالديون قبل الوباء ستكون قدرتها على دعم النشاط الاقتصادي وتنفيذ حزم التحفيز أقل. كما ستكون قدرة الدول النامية على تطبيق الهبات المالية محدودة بسبب ضيق قاعدتها الضريبية، مما قد يؤدي إلى زيادة معدلات انعدام الأمن الغذائي ونسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر.
ويمكن أن يزيد الفيروس خطر انعدام الأمن الغذائي أربعة أضعاف في الدول التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي مقارنة بالدول ذات المخاطر المنخفضة، فقد اعتمدت بعض البلدان المُصدِّرة للأغذية سياسات حمائية لتأمين إمداداتها الغذائية، مما قد يؤدي إلى نقص في الدول التي تعتمد بشدة على الواردات.
وفي هذا السياق حذّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من أن بعض المجتمعات ستواجه «أزمة داخل أزمة»، بإضافة خطر المجاعة إلى خطر العدوى، حيث يزيد الانكماش الاقتصادي والإغلاق (لذي يضر بسبل العيش) وحظر السفر (الذي يمنع وصول المساعدات) من احتماليات المجاعة. وهو ما تزداد خطورته في الدول التي تعاني نسبة كبيرة من سكانها بالفعل من الجوع ونقص التغذية.
وبما أن الدول ذات الاعتماد المنخفض على التجارة الدولية كانت أقل تأثرًا باضطرابات الوباء، فقد زاد تركيز الدول على التوازن بين العولمة والسيادة الاقتصادية، وبدأت الحكومات في إدراج اعتبارات السيادة الاقتصادية في خطط الإنعاش بعد الجائحة. فأطلقت اليابان برنامجًا لمساعدة الشركات اليابانية على تحويل بعض أنشطة التصنيع من دول أجنبية مرة أخرى إلى الداخل، كما تناقش الحكومة الفيدرالية والشركات في الولايات المتحدة كيفية إعادة بعض التصنيع إلى داخل الحدود.
ورغم أن قرارات حظر دخول الأجانب كانت للسيطرة على الوباء، وليست قرارات عدائية، لكن يجادل التقرير بأن هذه الأعمال بالإضافة إلى خوف السكان من الوباء قد أدت إلى ارتفاعات كبيرة في حالات كره الأجانب والتنميط العنصري.
كما رصد التقرير حالات قمع لحرية الصحافة في بعض الدول، مشيرًا إلى أن الدول التي تتمتع بحريات إعلامية كانت أكثر قدرة على بث معلومات أكثر دقة عن الوباء والإجراءات اللازمة لمواجهته.
التهديدات البيئية
تضاعف العدد الإجمالي للكوارث الطبيعية أربع مرات في العقود الأربعة الأخيرة، وذلك مع زيادة تأثيرها الاقتصادي الذي ارتفع من 50 مليار دولار أمريكي في الثمانينيات إلى 200 مليار دولار أمريكي سنويًا في العقد الماضي. كما أن نزوح السكان جرّاء النزاعات والكوارث الطبيعية بين عامي 2008 و2017 كان أكبر من النزوح جراء الصراعات المسلحة.
ويعتقد المنتدى الاقتصادي العالمي أنه بحلول عام 2050، سيكون للمخاطر البيئية التي يسببها تغير المناخ تأثير سلبي أكبر من أي تغيرات اقتصادية أو جيوسياسية أو مجتمعية أو تكنولوجية أخرى. وأن الدول التي ستفشل في التكيف مع ذلك هي التي ستواجه أكبر المخاطر.
وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2050، سيتسبب تغير المناخ في هجرة 86 مليون مهاجر إضافي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، و40 مليونًا في جنوب آسيا و17 مليونًا في أمريكا اللاتينية، مع تدهور الظروف الزراعية ومستوى توافر المياه في هذه المناطق. ومن المرجح أن يكون المقيمون في الدول الأقل نموًا –والذين لا يقدرون على تخفيف هذه المشاكل- أكثر عرضة للهجرة التي قد تتسبب في زيادة الصراع المجتمعي في دول الاستقبال.
ويتوقع تقرير التقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) زيادة درجة حرارة سطح الأرض بين عامي 2030 و2052 بمقدار 1.5 درجة مئوية. وهو ما قد يتسبب في سقوط أمطار شديدة مع فيضانات مفاجئة في بعض الأماكن وحالات جفاف في أماكن أخرى، بالإضافة إلى استمرار ارتفاع مستوى سطح البحر وتآكل الساحل.
وقد زادت درجات الحرارة على مدى السنوات الـ 30 الماضية، حيث أكدت الإدارة الوطنية الأمريكية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) والإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) أن درجات الحرارة العالمية في السنوات الخمس الماضية هي الأكثر سخونة على الإطلاق، مما يعكس الاتجاه المستمر للاحترار. وتعتبر أفريقيا جنوب الصحراء أكثر المناطق تعرضًا لمخاطر التغير المناخي على الصعيد العالمي، حيث يتعرض 45% من سكانها لمخاطر مناخية.
وفيما يخص قضية المياه فإن أربعة مليارات شخص يعانون من ندرة شديدة في المياه لمدة شهر واحد على الأقل سنويًا، كما يعيش أكثر من ملياري شخص في بلدان تعاني من إجهاد مائي مرتفع، وتعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأكثر ندرة في المياه.
كما ازداد استخدام المياه بنسبة 1% سنويًا على مدى العقود الأربعة الماضية، وهو ما يعود إلى النمو السكاني وزيادة النشاط الاقتصادي وتغير أنماط الاستهلاك وزيادة الطلب على المياه.
ويُرجِّح التقرير حدوث تغيرات مستقبلية أكثر تطرفًا في أنماط هطول الأمطار بالقارة الأفريقية. كما يتوقع برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن تكون جميع بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى شحيحة المياه بحلول عام 2025.
وقد أدت التوترات حول موارد المياه النادرة إلى تزايد أعداد النزاعات المتعلقة بالمياه، وهو ما يختبر قدرة النظام العالمي المتعدد الأطراف على التوسط في الأعمال العدائية وتوزيع الموارد.
وفيما يخص قضية الغذاء، فإن تقديرات مؤشر الجوع العالمي تشير إلى أن جمهورية أفريقيا الوسطى واليمن وتشاد تعد أكثر البلدان تعرضًا –حاليًا- لمخاطر الجوع وانعدام الأمن الغذائي.
إجمالاً، فإن العالم الآن أقل سلامًا بكثير مما كان عليه في عام 2008، حيث يعود تراجع الهدوء خلال العقد الماضي إلى مجموعة واسعة من العوامل، على رأسها زيادة النشاط الإرهابي بالإضافة إلى صراعات الشرق الأوسط وتصاعد التوترات الإقليمية في أوروبا الشرقية وشمال شرق آسيا وزيادة أعداد اللاجئين وتصاعد التوترات السياسية في أوروبا والولايات المتحدة. لكن يكشف المؤشر عن بدء تلاشي صراعات وأزمات العقد الماضي، لتحل محلها موجة جديدة من التوتر وعدم اليقين نتيجة لوباء كورونا. كما تظل هناك حاجة إلى معالجة عالمية للتهديدات البيئية للحد من تفاقم آثارها.