المطبخ المصري العظيم: رحلتي من الشكشوكة إلى السانتا روزاليا
محاور الموضوع
- الاحتفال بالطعام
- آكلو الخبز
- الفطير المشلتت VS. الكرواسون
- المطبخ النباتي
- المطبخ القبطي
- الفو جرا المصرية
- قانون الطعام العام
- الفيتا اليوناني
- الملوخية الياباني
- جسر زرياب
- أعياد المصريين
تمتد شهرة الحضارة المصرية للعديد من النشاطات لكن عندما يبدأ الحديث عن الطعام تنحصر الحكايات وتبدأ مصطلحات مثل «فقر المطبخ المصري» أو نباتيته في الظهور منهية أي محاولة جادة لفهم طبيعة المطبخ المصري الذي اقترن بحضارة ممتدة التاريخ نجحت في إثراء كل نشاطاتها الحضارية فلا يبدو معقولًا أن نشاط مثل الطعام لم يبلغ مجده في ظل الحضارة الفرعونية القديمة، لذلك نبحث عن التاريخ المخفي للمطبخ المصري والذي ربما ليس بهكذا اختفاء إذ يبين المؤرخون للطعام بشكل عام وللمطبخ المصري بشكل خاص أنه حتى يومنا هذا هناك مئات الأطباق التي ابتدعها الفراعنة ما زالت جزءاً أساسياً من المطبخ المصري وجزءاً أصيلاً من المطبخ العالمي، سواء بنفس شكلها القديم أو بتعديلات على الأصل، ولن يتوقف بحثنا عند المطبخ الفرعوني، ولكن سنمر بمراحل تطور المطبخ المصري في العصور اللاحقة أيضًا.
بدأت حكايتي مع المطبخ المصري كأي مهتم بالطعام، يجرب ويبحث عن الجديد، وبعد التطور الكبير الذي شهده سوق المطاعم في مصر من دخول العديد من العلامات التجارية للمطاعم السريعة ومن ثم التحضير لدخول مطابخ عالمية أخرى، بدأ بحثي يتحول من البحث عن اسم مطعم للبحث عن نوع مطعم، فعوضًا عن البحث عن اسم مطعم ما بدأت في البحث عن المطاعم الإيطالية ثم الفرنسية فالآسيوية أجرب العديد من الأطباق وأحاول جاهدًا أن أطور ذائقة ما نحو الطعام، وصولًا لمطاعم تدمج بين عدة مطابخ كالياباني والهندي، أو المكسيكي والفرنسي أو التايلاندي والإيطالي. لكن في معرض البحث هذا توقفت قليلًا بعد سنوات لأسأل نفسي، أين المطبخ المصري من كل هذا؟ هل هو بالفعل مطبخ فقير لا يصلح للعالمية التي نعيشها اليوم، أم أننا أفقرناه بحصره في أدوار الشر والمسبك والمقلي في ظل عالم يبحث عن روتين غذائي مفيد وصحي؟
بدأت رحلة البحث عندما وجدت فيديو منشوراً على موقع مكتبة الكونجرس الأمريكية لندوة أقامتها طباخة ومؤرخة وناقدة طعام إيطالية الجنسية تدعى إيمي رايولي، تناولت فيها تاريخ المطبخ المصري وتأثيره وربما كان ذلك هو المحتوى الوحيد الذي وجدته يعطي معلومات هامة وواضحة عن المطبخ المصري، تبعه كتاب لنفس المؤرخة بعنوان Nile Style: Egyptian Cuisine and culture (أسلوب النيل: المطبخ المصري وثقافته) مما أعطاني الفرصة لفهم أعمق للمطبخ المصري.
الاحتفال بالطعام
ربما يعزو البعض الاحتفال بالطعام لشكل الديانة المصرية القديمة والتي شابهت كل الديانات التي سبقتها وعاصرتها وربما تلتها في تقديم قرابين من الحيوانات بالإضافة إلى أطعمة وهدايا للمعابد حتى تتقرب إلى الإله، لكن رغم تكرار هذا الأمر في كل الديانات البدائية حول العالم، فإن المصريين طوروا شغف الاحتفال بالطعام، ليس على طريقة مهرجانات الطعام في أوروبا في العصر الحالي، لكن بوضع الطعام كجزء أساسي من روتين الاحتفال، فلكل مناسبة أو احتفالية هناك طعام مخصوص لها، سواء كان هذا الاحتفال من صنع المصريين أو من أثر ثقافات وحضارات مختلفة وفي حينه سنعرض تفصيلًا كيف أضاف المصريين الطعام لمناسبات دينية واجتماعية غير مرتبطة بثقافتهم بل جلبها آخرون لهم، ليكون جزءاً أساسياً من هذا الاحتفال.
فنجد أن المصريين أحيوا مولد النبي محمد – عليه الصلاة والسلام- بحلاوة المولد، والتي أضيفت أيضًا لباقي الموالد المختلفة التي احتفلوا بها، ثم ربطوا بين عيد الفطر والكحك في العصر الفاطمي، وبين عيد الأضحى والفتة المصرية معشوقة نابليون وحضروا العاشوراء في ذكرى كربلاء. حقيقة كان المصري يبحث عن أي مناسبة لإضافة عنصر جديد للمطبخ المصري، من جهة هو تأكيد أهمية هذا الاحتفال له ومن جهة أخرى يظهر حجم التطور والتعقيد في المطبخ المصري الذي كان قادرًا على تطوير طعام مناسب لكل احتفالية. فكيف كانت البداية؟
آكلو الخبز
التاريخ: موسم حصاد القمح 3500 سنة قبل الميلاد
المكان: وادي النيل
ينشد المصريون الأهازيج احتفالاً بموسم جمع ودرس القمح، تلك احتفالية خاصة نتيجة للعلاقة بين المصري والقمح، أو بين المصري والخبز تحديدًا، المنتج الأكثر تداولًا على موائدهم منذ فجر الحضارة حتى يومنا هذا، لكن ما هو شكل هذا المنتج وكيف تطور؟
يذكر المؤرخون أن القمح الذي أوشك على التقديس في الحضارة المصرية القديمة كان المكون الأساسي في غذاء المصريين، ووصف المؤرخون الإغريقيون الذين زاروا مصر أهلها بأنهم «أكلو الخبز» من كثرة وجوده على موائدهم، ربما يشتهر العيش البلدي في يومنا هذا لكن هذا الخبز مر بمراحل تطور عديدة وظهر مئات الأنواع منه ومن المخبوزات المختلفة التي لم تشكل فقط تاريخ المطبخ المصري وحاضرة ولكنها ساهمت بشكل واضح في تطور المخبوزات حول العالم.
وبقي الخبز مكوناً أساسياً في وجبات المصريين حتى أن الدولة كان تعطي كل عامل من بنائه الأهرام خمسة أرطال خبز كل يوم بالإضافة لكوب من البيرة تساعدهم على العمل بشكل يومي.
كان لدى الفراعنة عدد غير محدود من أنواع الخبز، من 40 لـ100 نوع، ولا تزال بعض الأنواع متداولة وحتى تعرف بنفس اسمها الفرعوني مثل «بتاو» (مشتقة من كلمة سبات باللغة المصرية القديمة) وكان يصنع من القمح والسمنة واللبن والذرة. وهناك «الميفا» وهو نوع من الخبز ما زال منتشراً عند البدو وتوجد أنواع أخرى شهيرة مثل «المرحرح» و«الشمسي» و«البطاطي» وبالطبع الفطير المشلتت. ويمكن أن تشاهد في المتحف الزراعي المصري بالجيزة عدداً هائلاً من المخبوزات التي سيدهشك مدى تشابهها مع ما يصنع اليوم، ستجد السميط البلدي، والفينو الأفرنجي والباجيل البولندي، والشُريك الذي ما زال البعض يقوم بتوزيعه في المقابر كصدقه.
وانتقل هذا الشغف بالخبز من مصر إلى العالم كله تقريبًا عبر سلسلة من التحولات الاجتماعية في مصر والاحتلال الأجنبي والتبادل الثقافي، فتجد أن أشكال الخبز والمخبوزات المختلفة لدى الفراعنة ما تزال متكررة حتى اليوم في العديد من الدول. وربما يمكن بسهولة تتبع ليس فقط تكرار هذه النماذج لكن الأهم تكرار نفس التكنيك الذي استخدمه الفراعنة للخبز مع العديد من المخبوزات الحالية والتي سيكون أولها أسطورة الكرواسون.
الفطير المشلتت vs الكرواسون
يتمتع الكرواسون بواحدة من أكثر القصص التاريخية إثارة وإن كانت لا تتمتع بأي دليل على صحتها أو حتى وقوعها جزئيًا أو كليًا. تبدأ الحكاية في كتاب ألفريد جوسشاك «Larousse Gastronomique» والتي ذكر فيها أن الكرواسون هو طعام احتفالي بمناسبة صمود فيينا ضد محاولات الغزو العثماني للمدينة عن طريق حفر نفق سمع به في الليل خباز نمساوي وأبلغ الجيش والذي انتظر العثمانيون عند نهاية النفق المزعم وقتلوا كل الجنود في تلك المحاولة، واحتفالاً بذلك صنع الخباز النمساوي فطيرة على شكل هلال، أحد مكونات العلم العثماني، لكن جوسشاك نفسه يعيد نفس الحكاية في كتاب آخر له هو «History of Food and Gastronomy» ولكنه يبدل فيينا ببودابست في المجر وبنفس التفاصيل تقريبًا، والحقيقة أن أي من هذه الحكايات لا دليل عليه على الإطلاق خاصة أن الأوروبيين أنفسهم كان لديهم نسخة مشابهه من الكرواسون اسمها كيبفيرل ربما يعود تاريخها للقرن السابع الميلادي.
ونعود للبحث عن العلاقة بين الكرواسون والفطير المصري المشلتت الذي كان أحد الأطعمة المميزة عند الفراعنة. فبداية من ناحية الشكل يختلف الاثنان جدًا، الأول هلالي الشكل، والثاني دائري. لكن بعيدًا عن المسألة الشكلية وبالبحث في الشق الموضوعي للمسألة نجد أن الكرواسون والفطير المشلتت هما في الأصل نفس الشيء تقريبًا إذا تحرينا الطريقة التي يصنعان بها، فالأساس في الحالتين هو طبقات من الدقيق المعجون والتي يوضع بينها كميات من الزبد ثم يعاد طيها عدة مرات، وفي كل مرة يضاف كمية جديدة من الزبد تساعد في النهاية على خروج المخبوز بطبقات رقيقة للغاية يمنع الزبد التصاقها ببعضها فتعطي هذه النتيجة التي نراها في الفطير المشلتت والكرواسون.
وبعيدًا عن أي محاولة لإلصاق كل جديد بقديم لدينا، فأي خبير طعام يدرك تمامًا أن الفكرة الأساسية وراء الكرواسون هي طريقة عمل الفطير المشلتت وهو ما ذكره الكثير من مؤرخي الطعام الكبار حول العالم المهتمين بالتاريخ الفرعوني أو بالمطبخ المصري. ويمكنك بسهولة أن تتعرف على الشكل الهلالي المميز للكرواسون في النقوش الفرعونية أو مشاهدته مباشرة في المتحف الزراعي المصري.
المطبخ النباتي
كان المصريون القدماء شعباً أقرب ما يكون للنباتية لعدة أسباب يمكن استنتاجها من قراءة الجزءين الأول والثاني في موسوعة مصر القديمة للأستاذ سليم حسن، ومنها احترام المصريين للحيوانات كأرواح تشاركهم الحياة وليس لسبب عبادتهم، فالمصريون لم يعبدوا الحيوانات لكونها حيوانات، ولكن لاعتقادهم أن بعض الأرواح الخيرة أو الشريرة قد تسكن في حيوان ما، أو لاعتقادهم أن بعض الإلهة قد تسكن جسد حيوان ما، فقدسوا الثعبان والذئب خوفوًا على حقولهم وحيواناتهم المدجنة، وقدسوا البقرة لاعتقادهم بتجسد الإله حتحور فيها، وساهم ذلك في تعامل مختلف للمصريين مع الحيوانات. فكانت الخضروات والفاكهة والحبوب بأنواعها هي المكون الرئيسي لغذاء المصريين، تلى ذلك الطيور ورغم تقديم بعض القرابين من الثيران أو الأبقار أو الخراف فإن وجودها في المطبخ المصري كان ضعيفًا.
وساهم خروج اللحوم الحمراء من وجبات المصريين في بحثهم على أفضل الطرق للمحافظة على حياة صحية وغذاء كاف وبه كل ما يحتاجه الإنسان، وهو على عكس ما يتصور البعض ساهم في إثراء المطبخ المصري فتعددت طرق الطبخ وتكنيكاتها بصورة مذهلة يمكن أن يدركها بسهولة أي متتبع لقوائم الطعام الأوروبية أو الأمريكية المخصصة للنباتيين والتي هي في الحقيقة محاولة لإيجاد بديل عن اللحم دون محاولة لإنتاج صنف طعام بالأساس نباتي وليس مجرد بديل له، وهو ما نجح فيه المصريون للدرجة التي سمحت للمسيحيين المصريين أن يصوموا عشرات الأيام كل عام مكتفين بالوجبات المصرية النباتية دون أن يعانوا من إيجاد وصفات جديدة أو طرق مختلفة لطهي الطعام وتحضيره.
المطبخ القبطي
لا يمكن إدراك حجم التأثير المتبادل بين المطبخ المصري والمطبخ المسيحي القبطي، هل مال الأقباط لنباتية المصريين القدماء أم استغلوها واستفادوا منها، في جميع الأحوال تبقى الحقيقة أن المطبخ القبطي أحد نماذج المطبخ المصري الأصيل يمكن أن يبين لنا مدى تطور وتعقد طعام المصريين.
ويشرح شارل عقل في كتابه المتميز غذاء للقبطي الدور الذي يلعبه الصيام المسيحي في حياة المسيحيين وتحديدًا في مطبخهم حتى أنه يتخيل أن بإمكانه وضع قائمة بألف وواحد طريقة لصنع الفول المدمس، ولا عجب فيما يدعيه عقل، فالحقيقة أن هذا بالضبط هو ما فعله المصريون القدماء من ابتكار فتجد أن الفول الذي يعتبر واحداً من أقدم المحاصيل المعروفة في التاريخ بعمر أكثر من 7000 سنة وجد فيه المصريون ضالتهم، فصنع مدمسًا في طبق الفول المصري الأشهر، وصنع مجروشًا في الطعمية (الفلافل)، وصنع مجروشًا ومطبوخًا في البصارة وأُكل قبل تجفيفه في الفول النابت نيئًا أو مسلوقًا.
ولإدراك معنى هذا التنوع يمكننا النظر في كل طريقة بشكل منفصل، لتجد أن كل واحدة منها تقريبًا هي طريقة طبخ يمكن إعادة تطبيقها على مئات الأنواع من الحبوب ومن ثم إنتاج آلاف الأطباق المختلفة.
نفس الشيء حدث في العدس مثلًا بتعدد طرق طهيه، ثم هناك مرحلة كاملة من تطور طهي الأوراق النباتية كالسبانخ والملوخية وغيرها، ولم يتوقف الأمر عند الحبوب والأوراق ولكن امتد لمنتجات الألبان والطيور أيضًا والتي سنرى كيف أنها تتكرر وتنسخ في العديد من المطاعم العالمية.
الفوا جرا المصرية
يعد طبق الفوا جرا «Foie gras» (بمعنى الكبد السمين) واحداً من أشهر الأطباق الفرنسية، وهو ببساطة طبق مكون من كبدة الأوز مضافاً إليها أنواع مختلفة ومتنوعة من الصلصات، لكن يشترط أن يتم إطعام الأوزة نفسها قسرًا، وهو ما يعرفه المصريون بمصطلح (التزغيط) وكان المصريون القدماء ينتبهون لرحلة هجرة الأوز والبط السنوية فكانوا يعمدون لتسمين الطيور قسرًا بالفول حتى لا تستطيع الطيران ليجدوا أن طعم لحومها أفضل كثيرًا من ذي قبل فتحول التسمين لواجب منزلي معتاد عند ربات البيوت منذ الدولة القديمة قبل 5000 عام وحتى اليوم.
ويواجه طبق الفوا جرا مشكلة كبيرة ستواجها أيضًا الجبنة الفيتا والملوخية من المطبخ المصري، وليست المشكلة في كونها أصبحت مرتبطة ثقافيًا بدول أخرى، لكن لأنها أصبحت قانونيًا تابعة لدول أخرى طبقاً لقوانين الطعام التي سنت في أوروبا في تسعينيات القرن العشرين لحماية وصفات الطعام الشعبية.
قانون الطعام العام
أقرت العديد من الدول قوانين تساعدها على حماية تراثها ضمن القوانين الدولية التي تحمي التراث وكل منتج ثقافي إنساني ليتم ربطه ببلده الأصلي، ومن ضمن ما يمكن توثيقه هو الطعام، سواء بتوثيق وصفة معينة مرتبطة بتراث بلد أو مدينة أو بتوثيق منتج معين باسم بلد ما، هناك العديد من الحالات المشهورة جدًا لكن سنوجز ما هو مرتبط بمصر.
بداية كبدة الأوزة المتزغطة على الطريقة المصرية أصبحت حكرًا على فرنسا، هي التي تضع المعايير التي من خلالها يمكن وصف هذه الوجبة باسم فوا جرا، وتواجه هذه الوصفة تحديًا مختلفًا لأن جماعات الرفق بالحيوان تعترض على طريقة تسمين الأوز، وتحاول منع تصدير الوجبة أو انتشارها في الدول الأوروبية الأخرى، وصدر بالفعل قرار منذ سنوات قليلة بمنع استيرادها في بلجيكا. لكن ما يعنينا هو أن طبقًا مصريًا صميمًا بداية من التكنيك الخاصة بالتسمين حتى طريقة الطهي هو مصري بتاريخ يتجاوز الأربعة آلاف سنة أصبح اليوم ملكًا لفرنسا.
الفيتا اليوناني
نفس الشيء تكرر مع الجبنة الفيتا والتي أصبح اسمها جبنة فيتا يوناني بعد أن استطاعت اليونان أن تحمي اسمها من خلال قانون يسمى «Protected designation of origin» أو حماية تسمية المنشأ بعد صراع من الدنمارك على حقوق الجبنة الفيتا التي وجدت في مقابر فرعونية تعود لأكثر من 2500 سنة قبل الميلاد تحديدًا في عصر الدولة المصرية القديمة (3200 – 2700 قبل الميلاد)، ومع ذلك لم تتدخل مصر في هذا الصراع الذي انتهى لصالح اليونان والذي أصبح معترفًا بشكل رسمي أنها مسئولة عن الجبنة الفيتا ولا يستطيع أي مصنع أو شخص أن يكتب اسم فيتا على أي جبن لا يطابق المواصفات اليونانية ودون موافقة منها وأصبحت الفيتا هي «الجبنة المصنعة من بشكل حصري لبن الخراف أو الخراف والماعز في المناطق اليونانية التالية بيلوبونيس، وسط اليونان، إبيروس، ثيساليا، مقدونيا، تراقيا، وجزر ليسفوس وسيفالونيا حصرًا».
الملوخية الياباني
رغم ارتباط الملوخية الوثيق بالتاريخ المصري القديم والحديث فإن اليابان قد قامت بتسجيل الملوخية لديها من خلال تسجيل البذور وشربة الملوخية كمنتج ياباني بالإضافة للحلبة بحسب تصريحات الدكتور فوزي نعيم، رئيس لجنة تسجيل البذور بوزارة الزراعة، ودخلت الملوخية أسواق اليابان منذ أكثر من 25 عامًا لكن هذا التاريخ لا يقارن بوضعها في مصر حيث إنها ظهرت في مصر منذ أكثر من 5000 عام ولها العديد من القصص الشعبية والتاريخية بداية من تسميتها وحتى منعها.
اشتهرت تسمية الملوخية من كلمة الملوكية وهو الوصف الذي أطلق عليها بعد أن وصفها أحد الأطباء المصريين للمعز لدين الله الفاطمي في أول زيارة له لمصر بعد أن أصيب بمرض في معدته، وبعد تناوله الملوخية شفي تمامًا فصارت ملوكية لكونه ملك مصر وحورت حتى أصبحت ملوخية، لكن الوضع المثالي للملوخية تحول عند قدوم الحاكم بأمر الله أحد أغرب من تولوا الحكم في مصر، فبعد أن منع خروج السيدات من البيوت نهائيًا وحرم على صانعي الأحذية صنع أي أحذية نسائية وإغلاقه المحال صباحًا وحتى صلاة العشاء على أن تفتح أبوابها ليلًا فقط. قرر في يوم من الأيام تحريم الملوخية بحسب خطط المقريزي ولا يعرف السبب الحقيقي للتحريم، لكن يذكر البعض أن الحاكم كان يعتقد قدرتها على إثارة شهوة النساء.
ورغم هذا التاريخ الغني للملوخية فإن اليابان التي تعرفت عليها منذ ربع قرن فقط نجحت في تسجيل بذورها ومن ثم أحد طرق طهيها.
وهناك العديد من الوصفات التي لم يتم تسجيلها لكنها محل خلاف ثقافي بين عدة دول أشهرها المسقعة، التي تكتب بنفس الطريقة في اليونانية وتطبخ تقريبًا بنفس الوصفة، لكن لوجود الطماطم كمكون أساسي فيها ومع ظهور الطماطم فقط بعد اكتشاف الأميركتين في القرن السادس عشر فإن مصدرها الأساسي يظل مجهولاً لولا أن الباذنجان لم تعرفه أوروبا حتى القرن السابع عشر عندما قدمه الأتراك لأوروبا عن طريق التبادل التجاري أيضًا كما دخلت الطماطم، البطاطس، والكاكاو دول الخلافة الإسلامية باتفاقيات تصدير بين الخلافة العثمانية وإسبانيا.
جسر زرياب
فور هروب أبو الحسن علي بن نافع الموصلي المعروف بزرياب من بغداد وحتى استقراره في الأندلس عند عبدالرحمن الثاني نجح في نقل الكثير من الثقافة العربية للأراضي الأوروبية وكثيرًا مما نقله بقي هناك حتى يومنا هذا، ويعزا لزرياب الكثير من الإبداعات والابتكارات بداية من إدخال وتر جديد للعود حتى تقصير شعر الرجال مخالفًا للنساء وارتداء الألوان الزاهية في الصيف والقاتمة في الشتاء، لكن كان لزرياب اهتمام آخر وهو الطعام وساهم بشكل كبير في نقل عدة محاصيل ووصفات للأندلس ليعين ملوك الأندلس في غربتهم، وبقي من هذه المحاصيل الكثير حتى اليوم.
قدم زرياب لأول مرة فكرة الوجبة الثلاثية المكونات، شوربة، طبق رئيسي وحلوى، ثم رحل إلى مصر بأمر من الملك لإحضار مجموعة محاصيل كان أهمها البامية، التوابل، الكركديه، وأخيرًا الأرز المصري الذي يتمتع بصفات مختلفة كثيرًا عن الأرز المنتشر في أوروبا بحبته القصيرة وغناه بالنشا مما نتج عنه أطباق متنوعة ومختلفة عما عرفه الأوروبيون قبل ذلك.
وكانت أهم هذه الأطباق طبق الباييا، وهي تحريف لكلمة بقايا العربية، وهي وصف قريب جدًا للطبق فهو مجموعة متنوعة من فواكه البحر تقدم مطبوخة بالأرز المصري.
أعياد المصريين
نعود لنتذكر أعياد المصريين، وكيف حولوا كل احتفال لمناسبة لتقديم طعام جديد، كان البيض الملون والملانة والأسماك المملحة بأنواعها مرتبطاً لدى القدماء بعيد شمس النسيم وقت دخول الربيع، وكان المصريون يحتفلون بعيد ميلاد الفرعون بصنع كعكة مزينة توزع على الناس، وربما يكون ذلك أول شكل لكعكة عيد الميلاد التي نعرفها اليوم، وكان من الدارج أن يطلب من زائري القبور توزيع الطعام ترحم على الميت وذكر ذلك كان شائعًا جدًا في القبور الفرعونية.
ومع دخول مظاهر احتفالية جديدة طور المصريون أنواع طعام جديد، فمع دخول الإسلام وإبان الحقبة الفاطمية صنعت الدولة كعك العيد في عيد الفطر، ووضعت في كل كعكة قطع نقد ذهبية كنوع من توزيع الصدقات في العيد، ومع الوقت استبدل المصريون هذه القطعة الذهبية بالعجمية المصنوعة من عسل النحل، وفي مولد النبي محمد – عليه الصلاة والسلام-قدم المصريون الحلويات المتنوعة، خاصة النوجا والتي انتشرت من مصر إلى العديد من الدول، حتى أصبحت الحلوى الأساسية في باليرمو بجزيرة صقلية في مهرجات سانتا روزاريا الشهير.
وفي عيد الأضحى ورغم توافر اللحم فيه، فإن الطبق الذي طوره المصريون كان الفتة المصري، أرزا مطبوخاً وخبزاً جافاً مسقياً بالشوربة وصلصة طماطم، وإن كان من المعتاد إضافة مكعبات اللحم على الطبق، لكن التكوين الأساسي للطبق وطريقة طهيه لا تتمحور حول اللحم، اللهم إلا الشوربة التي يسقى فيها الخبز ويمكن أن تتوارى حتى دون لحم بطهي العظام في الماء وإضافة التوابل. وهذا دليل جديد على الذهنية المصرية التي كانت وربما بسبب الفقر أو عدم التوافر، خاصة أن مصر ليس بها مرعى طبيعي للحيوانات، كانت تنظر للطعام من وجهه نظر نباتية، تلك الطريقة لم تمنعها من الابتكار والتنويع بل والريادة في تقديم طرق طبخ لم يعرفها العالم من قبل، وربما مع التطور المعرفي للناس في عصرنا الحديث وانتشار النباتية يعود المطبخ المصري للشهرة مرة أخرى، فأي نباتي لن يجد في أي مطبخ عالمي ما يمكن أن يجده من تطور وتعقيد في النكهات والوصفات النباتية كما المطبخ المصري.
هذه كانت رحلتي مع المطبخ المصري العظيم، رحلة بدأتها يومًا ما في سن الثانية عشرة بتحضير طبق شكشوكة للعشاء نال استحساناً وتعاطفاً من عائلتي حتى عودة أحد أصدقائي الأجانب لمصر محملًا بحلوى غريبة من مهرجان سانتا روزاريا بصقلية في رحلته هناك والتي لم يتوقع ألا تثير إعجابي رغم التهامي لها، فقد كنت أعرفها جيدًا من قبل.