اعتادت فرنسا وشعبها على خوض الحروب الداخلية النفسية على كافة الأصعدة، بدرجة باتت معها تلك الحروب، المتصلة ببعضها لسبب أو لآخر، هي السمة الأساسية لتلك الدولة في شتى المجالات. وفي كل لحظة كان يتحقق فيها إنجاز ما كان ذلك فرصة لبناء مجد يُطفَأ معه فتيل فتنة قد اندلع قبل سنوات.

وقبل 20 عامًا بالتحديد، تمكنت فرنسا من وضع نجمتها الأولى في السماء العالمية كبطل لكأس العالم في البطولة التي احتضنتها أراضيها، وبشكل معاكس للتوقعات. وها نحن الآن نُعلن فرنسا بطلة للمونديال الروسي، للمرة الثانية في تاريخها الكروي، وبشكلٍ لن نكن مبالغين إن قولنا إنه -أيضًا- معاكس للتوقعات.

ولأنه لن يضاهي أي مجد كروي مجد الفوز بالمونديال، فإنه في الحالتين اللتين تمكنت فيهما فرنسا من الظفر باللقب، كان هناك موعد مع قتل فتنة كبيرة، وليس مصادفة، أن يكون زيدان شريك في كلتا المرتين.


إمكانيات كبيرة تساوي تفكيرًا أقل

تشكيل الفريقين وتقييم اللاعبين

كل من الفرنسي «ديديه ديشامب» ونظيره الكرواتي «زلاتكو داليتش» يعتمد نظريًا على 4-3-3. الفروقات تكمن في التحولات. الجانب الكرواتي يتحول إلى 4-1-4-1 في الجانب الدفاعي: اقتراب «بروزوفيتش» أكثر من قلبي الدفاع وهبوط الأجنحة إلى مناطق الارتكاز من وسط الملعب، في حين يتقدم «لوكا مودريتش» و«راكيتيتش» لصنع مثلث قاعدته لأسفل مع رأس الحربة الوحيد، «ماندزوكيتش». أما أصحاب الرداء الأزرق، فهم يميلون إلى 4-4-2 في الحالة الدفاعية. يشارك «مبابي» ثلاثي خط الوسط لصُنع ساتر من وسط الملعب بشكلٍ أفقي قبل رباعي الدفاع، ويتبقى كل من «جريزمان» و«جيرو» في المقدمة.

أماكن تمركز اللاعبين خلال مجمل دقائق المباراة

ليس من العسير إيضاح أهمية خط الوسط بالنسبة لكلا الفريقين، لكن طمعًا في المزيد من التدقيق بالتفاصيل، فإن أهمية كل من بوجبا ومودريتش – تحديدًا – يمكن القياس عليها كل الأداء الخاص بفرقهما. الوصف هنا يميل للتصديق أكثر في جانب منتخب فرنسا وفي الشق الهجومي بالأخص، وذلك ليس تفضيلًا لـ«بول» على نظيره، لكن لأن مجمل خط وسط كرواتيا ناجح بما فيهم «لوكا» ولا يعتبر ذلك نجاحًا للأخير بشخصه، في حين أن وسط فرنسا هجوميًا ليس بالقوة المطلوبة في غياب لاعب مانشستر يونايتد.

ونزولًا على الفرضية السابقة، فإن المدرب الفرنسي قد نجح في فرض سيطرة كبيرة على معظم الأداء الهجومي لكرواتيا بقتله كل فرص بناء اللعب عن طريق مودريتش. المتعارف عليه منذ بداية البطولة أن كرواتيا اعتمدت على الضغط المتقدم والهجمة المرتدة، لكن من مناطق مبكرة جدًا في وسط ملعب الخصم. بمجرد قطع الكرة من مودريتش أو راكيتيتش فهي فرصة كبيرة للصعود سريعًا إلى مناطق الخطورة، بالتالي إبعاد الأول عن المناطق الخطرة في دفاعات فرنسا سمح لهم بقتل جزء كبير جدًا من فرص صعود كرواتيا هجوميًا.

تم ذلك عن طريق تضييق خط الدفاع واقتراب الرباعي الدفاعي من بعضه البعض وبالتالي فرص أقل في خسارة الكرة، وكذلك تقديم ذلك الخط باقتراب خط الوسط أكثر بحيث إذا فُقدت الكرة يكن هناك فرصة لتدارك الموقف سريعًا في موضع مناسب.

أماكن لمسات لوكا مودريتش خلال المباراة

يظهر في الصورة المرفقة أعلاه أن الكرواتي لم يلمس الكرة داخل منطقة الجزاء ولا بالقرب منها فيما يخص العمق. أضف إلى ذلك فشله ورفقاءه في قتل خطورة فرنسا هجوميًا بانعدام الضغط على المحرك الرئيسي للهجمة لديهم، سواء بمنعه من إرسال طوليات خلف خطوط الدفاع أو في التحرك بالمرتدات، حيث نجح بوجبا في 100% من الهجمات التي صعد بها من مناطق الدفاع وتمكن من إرسال 8 كرات طولية خلال 90 دقيقة، ناهيك عن صناعة الفرص وعن التهديف. هذا يمكن وضعه كتفسير بسيط لإحراز فرنسا 4 أهداف بينما سجلت كرواتيا 2 فقط. -حاول استثناء التحكيم والظروف البدنية ولو لدقائق-.

أماكن لمسات بول بوجبا خلال المباراة

عمل يبدو كبيرًا من جانب المدرب ديشامب، لكن الواقع يؤكد أنه عادي، ولن يكون بنفس الجودة لولا امتلاكه للاعب بقيمة بوجبا. يتكفل وحده بالأداء الهجومي اعتمادًا على قدراته، وكذلك قدرة على تطويع قدرات زملائه في الخط الهجومي. كما أنه يستمر منذ بداية البطولة في تقديم أرقام دفاعية ممتازة، وفي ظل مواجهة خط وسط قوي جدًا كالذي يملكه منتخب كرواتيا.


الرحلة من «معضلة أستريكس» إلى «معضلة ديشامب»

يُعيد ذلك الفوز أسطورة عاشت لسنوات وترعرعت في النفوس الفرنسية، تُسمى بـ«معضلة أستريكس». ذلك المصطلح نشأ منذ أزل قديم، حتى لا يمكن لأحدهم ربطه بتاريخ معين، لكن قيمته تعاظمت بسبب الخروج المحبط من مونديال 86 لـ«ميشيل بلاتيني» ورفاقه من دور نصف النهائي لكأس العالم لعام 86. وهو يعني في مضمونه أن فرنسا ملعونة بالهزيمة إلا الأبد.

فما تراءى للفرنسيين وقتها: أنه إن كان ذلك الفريق قد كتب عليه الهزيمة الأبدية مهما كان حجم جهوده، فبالتالي الطريقة الوحيدة لوضع اسم بلادهم على خارطة الكرة العالمية، هو لعب كرة القدم بشكلٍ «جميل». لأنه طالما كانت الهزيمة حليفتهم، فإن الجماهير الأخرى ستذكرهم فقط إن كان أداؤهم أثناءها يُقدم بالشكل الجمالي على الأقل، أو ما يمكن اختصاره في: الهزيمة والأداء المنضبط، أو «الجميل» كما يحبذ مرددوه.

ظن الجميع أن استخدام ذلك المصطلح قد انتهى بعد أن كُسر على يد أشهر مُهاجر إلى فرنسا، «زين الدين زيدان»، حيث بات هناك فرصة لفوز فرنسا بالمونديال، وتحققت بالفعل وانتهت اللعنة، لكن ما يبدو أن الأداء الذي قدمه «بول بوجبا» والبقية قد أجبرنا على العودة للحديث عنها من جديد. حيث كان في حين «زيزو» قد تغيرت القاعدة، وأصبح هناك إمكانية لتقديم أداء جيد يحالفه فوز، الأهم أن الأداء الجيد أساس التقييم في بلاد الـ«شانزليزيه».

لن يخفى على الجميع أن مهمة أي مدرب في موضع «ديديه ديشامب» مختلطة التقييم، فهي سهلة جدًا بسبب جودة اللاعبين وصعبة جدًا بسبب خلق توليفة سليمة من هؤلاء تحقق النجاح المرجو، نقطة قُتلت بحثًا، لكن بعد انتهاء كافة أحداث البطولة، فإن المدرب الفرنسي قد نجح – وباقتدار – في تدمير كل النتائج التي ترتبت على معضلة «أستريكس» السابق ذكرها – سُميت على اسم شخصية كرتونية معروفة بجهودها الشجاعة في المعارك ضد الرومان.

اقرأ أيضًا:حمل زجاجات المياه يسهل فوز فرنسا «ديشامب» باللقب

كانت موهبة «بلاتيني» في تلك الفترة هي طوق النجاة، فمن قبل وجوده لم تعرف فرنسا العديد من اللاعبين أصحاب موهبة بهذا الشكل مضافة إلى انضباط تكتيك ملحوظ. ومن بعد ذلك، نجح «زيزو» وجيل 98 في وضع تعريف جديد أو معطيات مختلفة لتلك المعضلة. وحسب ما دار خلال بطولة 2018، فإن قيمة الأداء الجمالي قد اندثرت تمامًا، وللأسف لا يمكن لأي من المتابعين – أيما كان انتماؤه – التفوه ولو بنصف كلمة، لأن اللقب الآن مستقر في باريس وبين أحضان الفرنسيين، لكنه كالعادة بمعضلة جديدة، لم يتوقف تأثيرها عند فرنسا وحدها بل في العالم أجمع، تسمى «معضلة ديشامب» – الفوز والأداء السيئ.


أي الإنجازين أكبر، بوجبا أم زيدان؟

بول بوجبا, منتخب كرواتيا, منتخب فرنسا, مونديال روسيا, نهائي 2018

إن حاولنا التغاضي عن معضلة الأداء تلك، فإن ذلك اللقب يفتح أبوابًا كثيرة للنقاش حول المقارنة بين الفرنسي من أصول غينية وبين مواطنه الجزائري الأصل. مقارنة لا يمكن الفرار منها بكل أسف، مع كامل الاعتراف بأن أي مقارنة، أيما كانت، تنتقص من جهود شقيها بلا جدال.

بعد اللقب الذي تحقق في عام 1998، تولدت فكرة لدى البعض بأن فرنسا لن تتمكن من تحقيق ذلك الإنجاز ثانية، لأنه ببساطة لن يكون هناك زيدان جديد. تأكدت تلك الفكرة في عام 2006، حينما قدم العجوز الفرنسي وقتها بطولة للتاريخ جعلت العالم أجمع يتفق على الاستنتاج السابق، وبات ذلك حقيقة لا تقبل الشك حينما خسرت الديوك اللقب بعد طرد الأخير على إثر واقعة «ماركو ماتيرازي» الشهيرة.

لكن لقب 2018 يبدو وأنه جاء لينفي كل المثبت وليهدم كل الأساطير التي عاش عليها الفرنسييون، فبعد الفوز بأداء ليس بالجميل فعلًا، يأتي شاب ليس به من زيدان في شيء، يستطيع تحقيق نفس الإنجاز وفي ظروفٍ أصعب. هنا يمكن اقتباس مقولة لكاتب مجهول قليلًا يذكر فيها قيمة المجد الذي يمكن أن تحياه إن كنت شخصًا لا يملك سمعة طيبة أو اسمًا رنانًا قبل المعترك المشهود.

قبل البطولة عام 98، لم يكن أحد ليطالب «زيزو» بتحقيق أي إنجاز يُذكر، بالأحرى الأكثرية كانت لا تعلم مدى قدرات ذلك الشاب أصلًا، وهو عكس الوضع تمامًا في حالة بوجبا. قبل سنوات كان ذلك الفتى الأسمر هو أغلى لاعب في العالم. استمر ذلك لمدة ليست بالقصيرة، وبجانب كون ذلك شرف كبير لكنه عامل ضغط أكبر. الجماهير تطالبك بأضعاف ما يمكنك تقديمه سواء مع الأندية التي تلعب لها، أو حتى في أكثر لقاءاتك تألقًا مع منتخب بلادك.

علينا أن نعترف بوجود انطباع عند الجماهير يجعلهم يطلبون من بوجبا أكثر مهما فعل. عليهم أن يدركوا قيمته كلاعب وأن يشعروا كم هم ونحن محظوظون أنه يلعب لمنتخب بلادنا.
«كيليان مبابي» مدافعًا عن زميله «بوجبا» ضد نقد الجماهير.

بالتالي في حالة تساوي الإنجازين كألقاب، فإنه لا يمكن أبدًا أن يتساوى الطرفان في كم الضغوطات المبنية على التوقعات التي كانت موضوعة على كاهل كل منهما ولا حتى على كاهل فريقهما. «بول» ورفاقه وضعوا تحت بند «القوام الأقوى في البطولة»، حتى قبل صافرة البداية، بالتالي سمح ذلك للمحللين والمطلعين بوضع الفروض والانتقادات حول الأداء الفرنسي بالرغم من كونهم حاملي اللقب.بالتالي، وحتى بميل الكفة جدًا لصالح زيدان ظاهريًا بسبب تأثير لقب 98 سياسيًا واجتماعيًا ورياضيًا، لكننا حتى اللحظة لا نعرف بعد ما يمكن أن يغيره لقب 2018 في مستقبل هذا البلد المتقلب.