تفرض الحياة علينا أحد خيارين لا ثالث لهما، إمَّا الركض بلا توقف في مضمار سباقها، أو الموت دهسًا تحت أقدام الرأسمالية التي تتحكم في متسابقيها بخيوط كعرائس المسرح. وفي ظل التسارع اللحظي لوتيرة الحياة اليومية وازدياد الأعباء على كاهل البشر، تأخذ فكرة الحنين للماضي في النمو داخل عقول وقلوب البعض.

والماضي يرمز إلى المثالية لدى الكثير منَّا، فالماضي يعني في مخيلة الكثير منا ضغوطات أقل ومسئوليات أقل، حتى لو لم تكن الأمور كذلك، فحتى لحظات الماضي الأليمة نتذكرها بعدما ذابت مرارتها وخفت وطأتها في كأس الأيام، وحتى ولو كان الماضي يحوي الكثير من الألم قد يلجأ البعض إلى الفرار إلى ماضٍ أبعد، إلى عصر ذهبي يرتأى فيه أن كل شيء كان كما يتمنى أن يحياه في الحاضر.

يُعرِّف المؤرخون العصر الذهبي بأنه فترة زمنية تبلغ فيها أمة أو دولة أو حضارة ما أوج تقدمها وقوتها وازدهارها، خاصة في مجالات الفنون والعمارة والآداب والعلوم، وبناءً على ذلك التعريف يقع الكثير منا أثيرًا لفكرة الماضي، فالأدب لم يُكتب سوى من كُتَّاب ذلك العصر، كذلك الفن والعلوم والحب والحياة بأثرها.

تذهب حياتنا سُدى، تمر أعمارنا ونحن نتحسر على الماضي الذي كان، تدور معارك شرسة من معتنقي ذلك الفكر على كل من تُسوِّل له نفسه مقارنة أحدهم في مجال ما يعيش في عصرنا الحالي بآخر في العصر المنصرم، وكأن عجلة الحياة قد توقفت عن الدوران في ذلك العصر، ولم يعد أمامنا سوى البكاء على أطلال الزمن الفائت.

يُطلق البعض أحكامًا مطلقة عن أفضلية كاتب ما أو مطرب أو لاعب، لمجرد أنه تواجد في ذلك العصر الذي يود لو أنه تواجد فيه، العصر الذي يمثل له الحلم. يتبنى هؤلاء وجهة نظر قد تحرمهم من التمتع بما يحاول أبناء الأجيال المتعاقبة تقديمه محاولين مواكبة سرعة الحياة والمتغيرات التي طرأت عليها، وبالتبعية ندخل في ذلك الخلاف الأبدي المسمى بصراع الأجيال.

ولكن ماذا عن أبناء الأجيال الحالية الذين يفرون من دوامة الحياة إلى الماضي؟ هل قست الحياة علينا لهذا الحد؟ هل بالفعل نحن نعيش أحلك عصور الحياة؟ هل لم يعد لدينا سوى الماضي علَّنا نجد فيه ما حلمنا بتواجده في حاضرنا؟

ماذا لو أُتيح لنا حقًا الذهاب في رحلة إلى عصرنا الذهبي؟

يأخذنا «وودي آلن»، المخرج والكاتب الأمريكي، في رحلة عبر الزمن، في رائعته Midnight in Paris، حيث يطرح لنا فلسفته الخاصة في مفهوم العصر الذهبي، ويشرح لنا رؤيته في إشكالية الوقوع في أسر الماضي، يأخذنا العم وودي في رحلة خاصة لعشرينيات القرن الماضي يوميًّا في منتصف الليل بتوقيت باريس صحبة بطل القصة «غيل بندر» وخطيبته «إنيز» وهما على وشك إتمام زواجهما، وقد جاءا إلى باريس لبضعة أيام رفقة والديها في رحلة عمل.

«غيل» كاتب سيناريو يعتقد أن الكتابة الإلزامية مقابل المال تُضعِف جودة المنتج وتصيبه بالهشاشة، كونها تفرض على صاحبها وقتًا محددًا للتسليم وموضوعًا إجباريًّا أحيانًا.

يعكف «غيل» على كتابة أولى أعماله الأدبية وهي رواية تُدعى «متجر الحنين». «غيل» شخص له منظور مختلف نحو الحياة، شخص حالم يود إكمال باقي حياته في باريس، حيثُ المطر والأشجار، يتمنى لو عاد به الزمن إلى عشرينيات القرن الماضي، إلى ذلك العصر الذي يعتبره بمثابة عصره الذهبي، يتمنى لو عاصر كُتَّاب ذلك العصر الذين أثروا الأدب عامة وفكره الشخصي خاصة. في المقابل، «إنيز» شخصية واقعية، لا تؤمن بما يؤمن به صديقها، تنظر إلى كافة أمور حياتها كأنها فرص ستضيع إن لم تنتهزها في وقتها المناسب وتسبق الآخرين إليها.

يضعنا «وودي آلن» هنا أمام رمزين؛ «غيل» يُمثل هؤلاء الناقمين على الحاضر بجل ما فيه من صراعات، الفارين منه إلى الماضي الهادئ حسبما يرتأون، و«إنيز» التي تُمثل نتاج النظام الرأسمالي الذي نعيشه الآن، والذي يُحتم علينا التعامل مع كل مُفردات الحياة على أنها سلع تُباع وتُشترى وتنفد إن لم تُسرع في الحصول عليها.

يجد «غيل» نفسه يوميًّا في تمام الثانية عشرة منتصف الليل في العصر الذي طالما تمنى التواجد فيه، يجد نفسه وجهًا لوجه أمام أدباء وفناني العشرينيات، يخوض أحاديث مباشرة مع «هيمانجوي» و«بيكاسو» وغيرهم ممن تأثر بهم. يتحدث معهم عن الأدب وعن روايته التي يكتبها، وعن رؤيتهم للحياة. يُقابل فتاة فرنسية حالمة هي الأخرى. كل شيء مثالي كما تمنى، فيُغرَم أكثر بهذا العصر.

تمر الأيام وتتعدد زيارات صاحبنا لهذا العصر، يجد نفسه على مقربة من الحياة الخاصة لهؤلاء الأدباء والفنانين، يجد أن بطله الخارق «هيمانجوي» شخصًا قد يصيبه الغرور أحيانًا والغيرة أحيانًا أخرى، وأن رسمة خلابة لـ «بيكاسو» قد تكون رُسمت بدافع الشهوة، حتى الفتاة التي أُعجب بها في هذا العصر، تضجر بزمانها هي الأخرى، تحلم بعصر ذهبي في ماضٍ أبعد تتمنى الحياة فيه، وحتى لما أُتيح لها الذهاب لهذا العصر وجدت مُثلها العليا يحلمون بعصر ذهبي في ماضٍ أبعد وأبعد.

يُبصر «غيل» هنا أن الحياة مكررة منذُ خلقها الله، مُعادة منذُ ملايين السنين، وأن الشيء الوحيد الجديد في هذه الحياة هم الأشخاص أنفسهم. يُعلِّمنا «وودي» أنه علينا أن نواجه الحياة بكل ما تحمله من صعاب.

يُعلِّمنا أنه لا أفضلية مطلقة في الحياة، وأن لكل زمان سمات ومقاييس خاصة ومختلفة عن الماضي وحتى عن المستقبل. يُعلِّمنا ألا نقف مكتوفي الأيدي تجاه سهام الرأسمالية التي تمزق أجسادنا. يُذكِّرنا أن الماضي موجود لنعتبر منه لا لنقع أسرى فيه. يُنبِّهنا إلى أن مُثلنا العليا من العصور الفائتة تركوا ذلك الأثر لأنهم لم يقفوا مُكبلي الأيدي ساخطين على الحياة، بل حوَّلوا ذلك السخط إلى شموع تضيء العالم لمن بعدهم. يُعلِّمنا العم «وودي» أن الفوز ليس نتيجة حتمية للحياة، ولكن المواجهة خيرٌ وأبقى من الضجر، الذي يُذهِب أعمارنا هباءً منثورًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.