وودي آلن: بورتريه رجل قلق
في رواية «كائن لا تحتمل خفته» يتدخل «ميلان كونديرا» في السرد مُحطمًا حاجز الإيهام، ليُخبرنا في جملة اعتراضية أن البطل «توماس» لم تلده امرأة إنما ولد من جملة:
«حياة واحدة لا تكفي أبدًا»
جاذبية كونديرا كروائي تنبع من تلك المُقاطعة المُستفزة لشخصياته، يتدخل ليُخبرك أن بطله لو تم اختزاله لجوهر بسيط سيكون تلك الجملة، رجل يؤمن بعدم عدالة الظرف الإنساني، علينا أن نحيا الحياة عشرات المرات ننتقل من المرة للأخرى ونحن مُحملون بخبراتنا السابقة لنصل ربما في التكرار الألف لإحاطة كاملة عن الحياة تجعلنا نختار بشكل أفضل.
يُعادل فظاظة كونديرا الروائية، المخرج النيويوركي «وودي آلن» الذي يكسر في كثير من أفلامه حاجز الإيهام مُتجهًا للكاميرا مُباشرةً، مُقاطعًا مسار الحكاية ليخبر المشاهدين عما يجول بعقله. يشابه وودي آلن «كونديرا» في أسلوبه لكنه يشابه «توماس» بطل الرواية في روحه، لو ولد آلن من جملة ستكون: «مرة واحدة لا تكفي أبدًا».
في لقطة من فيلم Annie Hall يحتدم النقاش بين وودي آلن ورجل يستعين بأطروحات المفكر (مارشال ماكلوهان) ليقيم حجته، فيقوم وودي باستدعاء ماكلوهان ذاته ليدخل الكادر ببساطة ويخبر الرجل أنه أحمق وأنه لا يفهم شيء من أعماله، يلتفت وودي للكاميرا مبتسمًا وهاتفًا: «لو كانت فقط الحياة بتلك السهولة».
في أفلام وودي آلن يُمكنك استدعاء فيلسوفك المُفضل حتى يؤيدك في نقاش، يُمكنك أن تعود من الموت لتخبرنا كيف كان؟ يمكنك تحويل النوستالجيا خاصتك لرحلة عبر الأزمنة، يُمكنك أن تؤلف مسرحية خيالية تستعيد حبيبتك في نهايتها بعدما فارقتك في الحقيقة.
لمسة الفانتازيا والمُمكن في أفلام آلن نابعة من مفارقة أن الحياة تُعاش مرة واحدة، ومرة لا تكفي أبدًا.
سجين في قطار
في stardust memories، يقدم المشهد الافتتاحي رجل عالق في قطار، حوله ركاب شاخصة أبصارهم في الفراغ، يتملكه الفزع، لا تُفزعه قتامة المشهد وصوت القطار الهادر، قدر ما يُفزعه لا مبالاة الركاب واستسلامهم الذي يزيد المشهد إرعابًا مع استغرابهم المُستهجن لفزعه، المشهد في حرفيته هو مُحاكاة افتتاحية فيلم ½ 8 تُحفة «فيلليني» بينما روح المشهد هي مفتاح لفهم سينما وودي آلن كاملة.
يقدم وودي شخصيته الرئيسية في كل أفلامه، رجل عصابي يتهمه الآخرون دومًا بأنه شديد التعقيد، شديد الخوف، يملك وسواس مرضي تجاه الموت، شديد التردد، شديد الجبن، مفرط التحليل لما حوله ولمن حوله.
الوجه الآخر لهذه الصفات هو رجل يملك قلقًا وجوديًا تجاه تجربة العيش كاملة، رجل ساخط على غياب الإله واليقين وغياب الكتالوج الذي يُمكن أن يرشده للسعادة، يجاور هذا القلق أريحية تثير الغيظ فيمن حوله، يظل البطل في أفلامه عصابي وقلِق، بينما الجميع هادئين حوله، منزعجين من تململه، بينما هو يجاهد ليريهم قتامة المشهد ويخبرهم أن القطار أو مجاز تجربة العيش كاملة متجه لموت لا نفهمه وما بعد الموت لا نعرفه، علينا الخروج من القطار أو حتى الدق على النوافذ بقبضتنا عسى أن يسمعنا أحد لكن أحدًا لا يحرك ساكنًا وهذا ما يثير رعبه. هم جاهلون مثله بإجابات أسئلة الوجود لكن الأمر لا يفزعهم البتة.
يصعب قراءة سينما وودي آلن دون تعيين سمات بعينها تميز أعماله.
الذاتية
منذ البداية قرر «وودي آلن» أن يكتب أفلامه بنفسه وألا يتدخل الإنتاج في عمله، تلك الشروط التي أوفى بها على مدار مسيرته أنتجت أفلامًا شديدة الذاتية ممزوجة بروح صاحبها، برغم تأثره الشديد بمخرجين مثل بيرجمان وفيلليني فإنه نجح في خلق نسيج خاص به، وإن كان السبب ذاته هو ما أدى لاتهام النقاد أنه يكرر نفسه حتى الملل وأن ذاته تطغى على الموضوع وتبتلعه، مثلما يتدخل كونديرا في سرده ليقاطع شخوصه.
قدم وودي آلن شخصية (بوريس) الشاب الروسي المُتفلسف في روسيا القيصرية التي تواجه غزو نابليون في love and death، بينما قدم شخصية (ألفي سنجر) الكوميديان القلِق الذي يحلل قصة حبه فيannie hall ثم قدم دور الكاتب التلفزيوني (إيزاك) العالق في مثلث حب مع صديقه وحبيبته العصابية فيmanhattan، برغم تغير الحبكة في الأفلام الثلاثة فإنه يسهل على المتلقي التعمق بخفة نحو المشترك خلفها وهو ذاتية وودي آلن.
في أفلامه يُحطم حاجز الإيهام مُستعرضًا مأزقه أمام الجمهور، كيف يحارب أو يقتل الفرنسيين وهو بلا يقين؟ كيف انتقى ببراعة موقف واحد يعبر عن كل طفولته في «آني هول»؟ موقف الطفل المُحبط من الوجود عندما أدرك معلومة عابرة أن الكون يتمدد ويومًا ما سينفجر، ما فائدة الواجب المدرسي؟ وما فائدة أي شيء؟
في دراما «مانهاتن» نرى كيف تتحول مشادة رجولية مُحتدمة مع صديقه الذي خانه وأحب حبيبته إلى مشادة فلسفية حول الوجود؟ يقول إيزاك أنه لا يجيد الانفعال إنما يحول كل ما يواجهه لسؤال الوجود بأكمله. وتلك هي سينما وودي آلن.
يمكنك كذلك تأريخ فترات من حياة وودي آلن الحقيقية ببعض حبكات أفلامه، قصة annie hall نابعة من علاقته الحقيقية التي انتهت بالانفصال مع الممثلة «ديانا كيتون» بينما stardust memories يجسد مأزقًا حقيقيًا لمخرج صاعد لا يريد تقديم أفلام كوميدية، لأنه لا يرى الوجود إلا قاتمًا وهي الأزمة الفعلية التي واجهت آلن بعد نجاح أفلامه الكوميدية الأولى.
السيولة العاطفية
يشبه (ألفي سنجر) طبيعة العلاقة العاطفية لحبيبته آني هول في نهاية الفيلم بتشبيه كوميدي أنها تشبه سمكة القرش، لا بد أن تتحرك باستمرار، لو توقفت تموت.
خارج كل الديباجات الرومانسية التي تصف الشريك كسكن ومُستقر للآخر، تتبدى شخوص وودي آلن في الحكايات كأسماك قرش قلقة لو توقفت عن الحركة تموت.
في hannah and her sisters، تدور القصة الأساسية حول مثلث حب، الزوجة الوفية والصمغ الذي يربط كل شخوص الفيلم (هانا)، وزوجها ( إليوت) رجل في منتصف عمره يقع في حب أخت زوجته الشابة (لي) بينما الأخت الثالثة (هولي) تتعلق في النهاية بطليق هانا الأول (ميكي)، نجد إليوت الزوج الذي لعب شخصيته (مايكل كين) يفقد وقاره في حفل ويعبر عن عاطفته بمراهقة شاب، بينما بنهاية الفيلم نجده رجلًا هادئًا في حفل شبيه بحفل البداية يتأمل (لي) الجميلة ويسأل نفسه كيف نال منه الافتتان لتلك الدرجة؟
نجد مثلث حب شبيه في فيلمه vicky cristina barcelona، أبطاله الصديقتان كريستينا وفيكي، الأولى حالمة رومانسية، تقدم ذاتها للتجربة مهما تضمنت ألمًا والثانية واقعية وقدماها على الأرض، كلتاهما تقع في حب فنان إسباني بوهيمي.
يقدم وودي آلن شخصيته في أغلب أفلامه كرجل مُطلق، مر بقطار من الزيجات الفاشلة، لكنه لا يملك حكمة كافية لتحديد موقفه من الحب، لا ترضيه أرضية العشب التي يقف عليها لأن عشب الضفة الأخرى دومًا أكثر اخضرارًا، لذا كل شخوصه يتحركون في علاقاتهم نحو رغبة في استكشاف المُمكن، الاحتمال البعيد، حتى لو قلب حياتهم رأسًا على عقب، تخاطر فيك بتدمير حياتها المستقرة، زيجتها التي تنتظرها بأمريكا من أجل مغامرة مع فنان بوهيمي يستثير جزءًا من شخصيتها لا تعرفه، يخاطر الزوج الوقور إليوت بتدمير منزل هادئ وزوجة متفانية وأطفال يحبونه لأجل تجربة جامحة مع شابة أكثر عنفوانًا، لا تسعى الشخصيات في أفلام آلن نحو مُستقر إنما المعنى كامن في الحركة، في استكشاف شره لكل الممكنات، لذا لا تتأمل شخصية واحدة ما بين اليدين إنما القلب مُعلق دومًا بالضفة الأخرى التي يٌمكن أن تكشف للشخصية الكثير عن نفسها.
خلف مثلث الحب الذي يعشق حصار الشخصيات فيه لتصادم بعدها مثل كرات البلياردو يكمن عُصاب آلن الأثير في اختبار الممكنات كافة قبل تعريف سعادته، يُعبر بمشهد كوميدي من فيلم love and death عن رؤيته للحب كدائرة معاناة لا مفر منها، بينما العزوف عن الدخول فيها هو معاناة موازية.
أزمة منتصف العمر
الشابة (لي) في فيلم هانا وأخواتها كانت مرتبطة برجل في منتصف العمر، مثقف، منعزل، كانت هي بوابته على الحياة، رغم انعدام التوازن التام في العلاقة، يقدم آلن الأزمة ذاتها في كوميديا whatever works بطولة (لاري ديفيد) الذي يرتبط بشكل عبثي بفتاة في سن ابنته، وعندما يحضر أبواها لإنقاذها يسقطون في دوامة علاقات أكثر سيولة وفانتازيا من العلاقة التي سقطت فيها ابنتهم، بينما يتأرجح المثقف إيزاك في فيلم manhattan مثل بندول قلق بين عاطفته نحو (ماري) التي تقاربه في السن وحبه لتراسي الفتاة ذات الثمانية عشرة ربيعًا.
تيمة العجوز المحب للصغيرة، هي مثال متطرف على السيولة العاطفية في كل علاقات وودي آلن، ورغبة شخوصه في استكشاف الحياة بكل جوانبها حتى في علاقات مدمرة.
في روايته يقول كونديرا إن سعادة بطله (توماس) ممكنة فقط لو كانت نظرية «العود الأبدي» صحيحة، لو أمكنه العودة لحياته مرة تلو الأخرى دون أن ينسى خبراته السابقة، عندها يمكنه أن يتصرف بشكل صحيح، تتحرك الشخصيات في عوالم آلن في قلق بلا طمانينة لاختبار كل شيء في حياة قصيرة وحكاية أقصر.
يهودي نيويوركي
يصف المفكر (عبد الوهاب المسيري) وودي آلن كمثال جيد على حالة الاغتراب اليهودي، وودي آلن يقدم نفسه دومًا كيهودي ذي ملامح إثنية فاضحة نابعة من جدوده اليديش، يهودي عاجز عن الاندماج في مجتمع الواسب الأبيض الأمريكي وعاجز عن الوفاء ليهوديته.
كثيرًا ما يستعرض آلن اغترابه الثقافي باعتباره تنويعًا كوميديًا عن اغترابه الوجودي ككل في عالم بلا يقين، في مشهد بديع من annie hall يقابل عائلة آني فيتحول في نظرهم لحاخام يهودي، كل حركاته تدل على كونه غريبًا لا يشبههم، بينما يتحدث لصديقه في بارانويا عن كون أحدهم دس في حديثه عبارة دالة على يهوديته.
لا تنبع تلك البارانويا من اعتزاز شديد بهويته قدر ما هي تعبير كوميدى عن الاغتراب المتجذر في ثقافته قدر ما هو متجذر في شعوره، في hannah and her sisters يحاول ميكي الذي يملك وسواسًا مرضيًا تجاه الموت البحث عن يقين في الكاثوليكية والهندوسية بينما أهله يخبرونه ببساطة أن يبقى يهوديًا وحسب لأن في عقيدتهم عندما تموت ينتهي الأمر.
الجزء الثاني من هوية سينما وودي آلن هو نيويورك!
تحكي المقدمة البديعة لفيلم manhattan عن كاتب يتغزل في مدينة نيويورك، فتارة يصفها بالشاعرية، وتارة يصفها بالقسوة، ثم يختتم عبارته بقول بسيط: «نيويورك مدينته وستظل دومًا مدينته».
في سينما آلن، تبدو نيويورك نقيض العالم، العالم موحش، مخيف، غير متوقع، بينما نيويورك يعرف أزقتها ودروبها الخفية ككف يده.
في مشهد من «هانا وأخواتها» يخرج «ميكي» مرتعدًا من عيادة الطبيب الذي أخبره أن حالته تدعو للقلق، لا يجد ما يقوله لنفسه، سوى أنه سيكون بخير:
«أنت في نيويورك، في مدينتك، لا يمكن أن يحدث لك شيء»
لا يحمل آلن عشقًا غير قابل للمساءلة لنيويورك، فهي كما وصفها قاسية وتجسد الانحطاط الكامل للثقافة المعاصرة، لكن لا يخفى حضور كتابته في المدن الأخرى مثل فيلم vicky cristina barcelona و midnight in paris كحضور سائح في بلد لا يعرفه، يعبر بافتتان عن جمال وعذوبة الثقافة الأوروبية الأكثر رسوخًا واهتمامًا بالإنسان من ثقافة أمريكا وزحام مانهاتن وقذارة الشوارع في بروكلين، منتصف الليل في باريس قد تجد أديبًا تحت كل حجر وموسيقى خلف كل شجرة وكاتب في كل مقهى، بينما الحب في إسبانيا أكثر خفة.
يرتحل وودي آلن في المدن الأخرى بعيون سائح لا تخلو من افتتان مُبالغ بينما ثقل قلبه في نيويورك.
النوستالجيا
سينما آلن غير معنية بالمستقبل إنما شديدة الافتتان بالماضي، تلك الرؤية التي صنع منها واحد من أجمل أفلامه، عن معضلة شاب يحن لباريس العشرينيات حيث هيمنجواي وفيتزجرالد ودالي، يتعلق بفتاة في الحقبة ذاتها لكنه يجدها تحن للقرن ال 19، وعندما تذهب هناك تجد رموز الحقبة يحنون للماضي الذي يسبقهم وهكذا دواليك.
النوستالجيا لدى آلن هي إنكار ألم اللحظة الراهنة، الماضي فكرة يصعب نقضها أو إثباتها لأنها حدثت وانتهت، لذا يمكننا صنع زمن ذهبي نشعر بالحنين له بشدة لننجو من ثقل اللحظة الراهنة وسؤال المستقبل، المستقبل في سينما آلن هو الموت الذي ينتظر بمنجله، وكرجل بنى السينما خاصته على تشتيت انتباهه عن النهاية، الماضى هو اتجاه مثالي للبعد عن الموت.
الإبداع كروتين للعيش
يعد «وودي آلن» من أغزر صناع السينما إنتاجًا، فقد قدم أكثر من ستين فيلمًا وترشح للأوسكار24 مرة، نال منها أربع جوائز، يؤكد دومًا أنه لا يعبأ بآراء النقاد أو بمن يطالبونه بالتوقف، لأن صناعة الأفلام لا تنبع من الرغبة في تحقيق مجد شخصي، إنما هي آلية نفسية لمعايشة قلقه الوجودي، عبر عنها بفكاهة بسيطة أن أفلامه هي الطريقة الوحيدة التي يجيد بها تشتيت نفسه عن سؤال الموت وعن حقيقة أنه يومًا ما سينفجر الكون وستزول كل إبداعات موزارت وشكسبير، يخبرنا في مؤتمر صحفي وهو عجوز اشتعل رأسه شيبًا بما أخبرنا به الطفل في فيلم آني هول أن الكون سينتهي فما الجدوى من أداء الواجب المدرسي؟
في «هانا وأخواتها» يُقدم الإجابة نفسها عندما يحاول «ميكي» الانتحار بدلًا من انتظار الموت البطيء، لكنه يفشل ويدخل السينما وتسحره الشاشة ولمدة لحظات قليلة ينسى مشكلته، يتمسك آلن بتلك اللحظات القصيرة والحكاية التالية والسيناريو القادم ويطرح أسئلة يعلم جيدًا أنه لا إجابة لها.
يمكننا أن نحب سينما وودي آلن أو نكرهها لكن لا بد أن نعترف أنه رجل أعاد تدوير قلقه ومشكلته الأساسية بشكل مثمر جعله أحد رموز السينما العالمية كمًا وكيفًا.