عجائب نقوش النقود في الدول الإسلامية
عرف سكان الجزيرة العربية المسكوكات أو النقود، بفضل الرحلات التجارية، وقاموا بسك المسكوكات الخاصة بهم، وكانت على شكل المسكوكات الإغريقية في البداية، ويظهر ذلك بوضوح في العملات التي ضربتها مملكة الأنباط في الجزيرة العربية، كما تداولوا بينهم العملات البيزنطية والساسانية، التي كانت تصلهم بفضل رحلتي الشتاء والصيف.
وقد استمر تداول النقود البيزنطية بجوار النقود الفارسية في عهد الرسول في عمليات البيع والشراء، كما أقر أن تُستعمل في دفع الزكاة، ولم يشهد هذا النظام النقدي أي تغير، إلا في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما أجرى بعض الإصلاحات في الدراهم الفارسية، وضبطها على وزن 3 جرامات، وهو الوزن الذي أقره الرسول لدفع الزكاة.
أما في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان فضُرِبَ أول درهم عربي، وكان على الطراز الفارسي / الساساني، وحُفرت عليه كلمات عربية هي «باسم الله، وباسم الله ربي»، ولقد استمر العمل بهذه الدراهم في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
ظل هذا النظام النقدي مستقرًّا على ما هو عليه بعد ذلك مع نشأة الدولة الأموية، بعدما ضرب الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان دراهم عربية ساسانية على نهج ابن عفان وابن أبي طالب، مع الحفاظ على النقود بمختلف فئاتها من دنانير ودراهم وفلوس (جمع فلس) كما هي من حيث الشكل والمضمون والوزن، حتى جاء عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، لتشهد النقود أول تغيير حقيقي في دولة الإسلام.
المسكوكات العربية
في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65-86هـ) بدأ تعريب النقود المستخدمة، للخروج من دائرة سيطرة النقود الفارسية والبيزنطية في الدولة الإسلامية، مما يحقق لها كيانًا مستقلًّا سياسيًّا واقتصاديًّا وعقائديًّا.
ومرت عملية تعريب النقود (72-77هـ) في عهد الخليفة الأموي ابن مروان بمرحلتين، الأولى (72-74هـ)؛ سُكَّت النقود الذهبية – الدنانير – تقليدًا لدينار الإمبراطور البيزنطي هرقل، وصدر منه نموذجان، أحدهما يحمل كتابة عربية بالخط الكوفي نصهما: «باسم الله، لا إله إلا الله وحده، محمد رسول الله».
أما النقود الفضية – الدراهم – فسُكَّت على نمط الدراهم العربية الساسانية، وصدر منها عدة نماذج، وحمل بعضها على هامشها كتابة عربية، أما النقود النحاسية أو البرونزية – الفلوس – فسُكَّت عليها صور الأباطرة البيزنطيين.
أما الثانية (74-77هـ) فشهدت حذف الصور الأجنبية عن النقود الإسلامية، ووضعت صورة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على الدينار، وهو واقف بملابسه العربية، تعلو رأسه كوفية، ويضع يده على مقبض سيفه، وحول الصورة كتابة بالخط الكوفي البسيط نصها: «باسم الله، لا إلا الله وحده، محمد رسول الله»، والسيف في الصورة كان دليلًا على الإمامة والجهاد، وأيضًا سُكَّت الدراهم وهي تحمل صورة ابن مروان، وكذلك الفلوس.
لكن مع نهاية عام 77هـ دخلت النقود الإسلامية إلى المرحلة الثالثة من التطوير، وظهرت نقود إسلامية عربية خالصة، حيث خلت من التأثيرات الأجنبية، خاصة الصور، وامتازت بالكتابة العربية الإسلامية، والاقتباسات القرآنية، على الدنانير والدراهم والفلوس.
النقود خير رسول
تُعد النقود بما تحمله من زخارف ونقوش، أفضل وسيلة دعائية وترويجية، لا يمكن الاستغناء عنها، وذلك لسرعة انتشارها وتداولها بين الناس بمختلف طبقاتها، فهي خير رسول لأي حاكم، يستطيع من خلالها نقل ونشر أفكاره السياسية والدينية، وخير معبر عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لدولة هذا الحاكم، وهذا ما يمكن مشاهدته في الدولة العباسية والأيوبية والمغولية، وغيرها من الدول الإسلامية.
فالنقود قديمًا كانت أشبه بوسائل الإعلام في العصر الحديث، للتعريف بالحاكم، ونظامه السياسي، وأفكاره، ومدى قوة ونفوذ كل حاكم.
أبو جعفر المنصور والفلوس
شهدت الخلافة العباسية في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور (136-158هـ) استخدام صورته الشخصية على الفلوس في سنة 137هـ، وهي الفئة النقدية الأقل في تلك الفترة، لما لها من سرعة انتشار وسهولة في التداول والاستخدام بين فئات المجتمع المختلفة، لإثبات حكمه وتعريف الناس بأوصافه، خاصة في أقاليم المشرق، مثل خراسان وفارس.
وبأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور ضُربت أربعة طُرُز للفلوس في مدينة شيراز سنة 137هـ، نُقش في ظهرها صورة شخصية تعبر عن ملامح الخليفة.
واستُخدم البرونز في ضرب الطراز الأول، وكُتب على الوجه في المركز: «لا إله إلان الله وحده، لا شريك له»، والهامش: «باسم الله ضرب هذا الفلس بشيراز سنة سبع وثلاثين ومائة»، أما الظهر فنُقش في وسطه صورة شخصية نصفية وجهها بهيئة جانبية للخليفة أبي جعفر المنصور، وهو يتجه ناحية اليمين، وصدره بهيئة أمامية، وكتب حولها: «محمد رسول الله».
وفي تفاصيل الصورة ظهر الوجه طويلًا نسبيًّا، واسع العينين، ذا لحية، وشارب مستقيم، وشعر الرأس مسترسل، وتعلو رأسه عمامة، أما الملابس فهي قميص الزرد الواقي في الحروب.
الطرز الثلاثة الأخرى ضُربت من النحاس في مدينة شيراز سنة 137 هـ، كما أنها اختلفت في شكل العمامة.
العروش والنقود
فيما بعد ضُربت النقود المصورة أو التي تحمل الرسوم الآدمية في كل دولة جديدة ناشئة، بهدف إثبات شرعية الحاكم والدعاية السياسية له؛ لذلك فضل البعض نقش صورة العرش الخاص به على النقود.
والعرش في اللغة هو سرير الملك، كما أنه يرمز إلى السلطة والقوة والحكم، وقد تنافس الملوك في زخرفته وجعلوه منمقًا ومتنوعًا في شكله وثرائه؛ لذلك نجد صورة العرش في المسكوكات الإسلامية تختلف باختلاف العصور الإسلامية.
الدولة الإخشيدية
قبل دخول محمد بن طغج إلى مصر بأمر من الخليفة العباسي الراضي بالله، شهدت مصر عددًا من الفتن والثورات، التي انتهت على يد ابن طغج، فأعاد لها الاستقرار والأمن، لذلك منحه الخليفة لقب «الإخشيد» أي ملك الملوك، ونظرًا لكفاءته في الإدارة، أضاف له الخليفة العباسي المتقي بالله مكة والمدينة كي تكون تحت حكمه.
وعندما أسس محمد بن طغج الإخشيد دولته في مصر (323-343هـ) سك دراهم تذكارية ضربت في سنة 328هـ، نُقش عليها صورته وهو جالس على العرش واضعًا يده على مسنده.
وضربت هذه الدراهم بعد انتصاره على محمد بن رائق وجنوده، الذي أرسله الخليفة الراضي بالله العباسي، لانتزاع ملك مصر من الإخشيد، وهذا ما لم يحدث، وتعبيرًا عن انتصاره قام بضرب هذه الدراهم دليلًا على ثبات ملكه واستقراره، وأيضًا نقش صورة العرش على الدنانير والفلوس.
الدولة الأيوبية
استطاع صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ)، بعد سقوط الدولة الفاطمية، أن يؤسس لكيان جديد مركزه مصر ويضم له الشام وبلاد الحجاز، بهدف القضاء على الوجود الصليبي في الشام، وإعادة نشر المذهب السني في مصر، وكان يلزم لنشر المذهب السني محو كل شيء يدل على المذهب الشيعي، وكان في المقدمة إبطال التعامل بالعملات الفاطمية، التي كانت تحمل أسماء الخلفاء الفاطميين، وصيغ العقيدة الفاطمية.
واستطاع صلاح الدين الأيوبي أن يحرر الساحل البحري للشام من يد الصليبين خلال سنوات قضاها في الحرب معهم، وبعد الانتصارات التي حققها صلاح الدين الأيوبي (567-589هـ) في بلاد الشام قام بضرب درهم نحاسي سنة 586هـ، ونقش عليه صورته وهو جالس القرفصاء على كرسي عرش بسيط، تأكيدًا على سيطرته على مصر وبلاد الشام والأراضي الحجازية.
وعلى نفس الطريق صار الأشرف موسى ابن الملك العادل سيف الدين الأيوبي (578-635هـ)، حاكم مدينة الرها، فبعد أن ضم لملكه مدينة حران والموصل وميافارقين وسنجار أصدر عملة تحمل صورة عرشه، توضيحًا لحدود ملكه.
دولة السلاجقة
في بدايات القرن الخامس الهجري لم تكن الخلافة العباسية باسطة سلطتها على جميع دول العالم الإسلامي، بل كانت مصر والشام تحت سلطة الخلافة الفاطمية، والأندلس إمارة أموية، وفي بلاد ما وراء النهرين كانت الدولة الغزنوية، التي حاربها طغرل بك حتى استقطع منها إقليم خراسان، وأعلن قيام دولة السلاجقة، التي اعترف بها الخليفة العباسي القائم بأمر الله سنة 432هـ، وتوسعت الدولة بمرور الزمن لتشمل بلاد فارس والعراق وأجزاءً من الشام وآسيا الصغرى، بدأت نهاية تلك الدولة بوفاة السلطان ملك شاه سنة 485هـ، حيث بدأت تتمزق دولة السلاجقة إلى أجزاء أصغر فأصغر حتى تلاشت.
وقد أمر السلطان عز الدين قلج أرسلان الثاني من سلاجقة الروم (551-588هـ) بنقش صورة عرشه على فلس نحاسي، ويعود تاريخ ضرب العملة لما بعد معركة ميريوكيفالون، التي انتصر فيها السلاجقة بقيادة عز الدين قلج على الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنينوس، سنة 572هـ.
كما ظهرت صورة العرش على فلس نحاسي للسلطان ركن الدين جهان شاه بن طغرل شاه السلجوقي (622-627هـ)، وذلك لتأكيد مُلكه على إمارة أرزن الروم.
تأسست على يد ظهير الدين محمد بابر (932-937هـ)، واتسعت الدولة لتشمل شبه القارة الهندية وبلاد الأفغان، وانتهت بوفاة السلطان بهادور شاه الثاني، سنة 1274هـ.
أمر الإمبراطور المغولي جهانكير (1014-1037) بنقش صورة العرش على النقود، وظهر وجهه يحيط به قرص الشمس، وذلك لتشجيعه العلوم والآداب والفنون، حيث ازدهرت الحياة الفكرة والثقافية في عهده، كما ازدهرت الحياة الاقتصادية بعد توقيعه معاهدة مع شركة الهند الشرقية الإنجليزية، مما فتح أبواب الهند للتجار الإنجليز.
القصور والنقود
حملت بعض النقود أسماء القصور، ومنها قصر السلام، الذي أنشأه الخليفة العباسي المهدي، سنة 164هـ، وشوهد على الدنانير والدراهم، وقصر الطين، سُجل على درهم عباسي، سنة 295هـ، في عهد الخليفة العباسي المستكفي.
غرائب النقود
لم تتوقف النقوش على الصور الآدمية، بل تم استخدام نقوش لصور الحيوانات، مثل نقش صورة الخيل على فلس عباسي، ضُرب سنة 228هـ في عهد الخليفة العباسي الواثق بالله، وغزلان على فلس ضُرب سنة 217هـ في عهد الخليفة العباسي المعتصم، وأرانب على الدراهم في عهد الخليفة العباسي الراضي بالله (321-329هـ).
ومن غرائب النقود دراهم ضُربت سنة 596هـ في مدينة غزنة، حملت اسم شقيقين اقتسما حكم الدولة الغورية، وهما السلطان الأعظم غياث الدين، والسلطان المعظم معز الدين، وأيضًا شهدت دولة سلاجقة الروم بآسيا الصغرى درهمًا ضرب في مدينة قيصرية سنة 654هـ حمل أسماء أبناء السلطان غياث الدين كيخسرو، وهم: عز الدين كيكاوس، وركن الدين قلج أرسلان وعلاء الدين كيقباد.
كما شهد القرن السابع الهجري أول نقود تحمل اسم ملكة في العالم الإسلامي، كانت باسم الملكة راضية ابنة السلطان شمس الدين ايلتمش (634-637هـ) في دولة الهند، وقد استطاعت أن تحصل على تأييد الأمراء، واتسمت بحسن السياسة والتدبير، ولكن انتهى الأمر بقتلها بعد أن وقعت في غرام عبد حبشي أسود.
أما في مصر فقد ضُرب دينار بالقاهرة سنة 648هـ حمل اسم شجرة الدر، وعليها ألقابها، كما دعا لها العلماء على المنابر قائلين: «واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية صاحبة الملك الصالح».
ومن اللافت أن العبيد كان لهم نصيب في النقود المتداولة، ففي مصر استطاع كافور الإخشيدي، خلال ولاية أبناء الإخشيد أن يصدر دنانير ذهبية في مصر وفلسطين سنة 350هـ عليها أول حرف من اسمه «ك»، قبل أن يصبح حاكم مصر الفعلي، وقد سُكَّت الدنانير سنة 654هـ، في عهد عز الدين أيبك، واضعًا اسمه بجوار اسم الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولكن بعد وفاة الأخير.
أما الظاهر بيبرس، لحل مشكلة اسمه على النقود، فقد لجأ للبحث عن شخص ينتمي للبيت العباسي، عُرف بالخليفة المستنصر بالله، وقد قام الأخير بمنح الظاهر بيبرس تفويضًا بإدارة البلاد حتى يكتسب صفة شرعية أمام الناس، وقد ضرب النقود عليها اسمه واسم الخليفة، سنة 659هـ.
كما لجأ حكام دولة بني بويه إلى وضع أسماء الخلفاء العباسيين على نقودهم لسببين، الأول لمنح النقود صفة شرعية للتداول، والأخير لأنهم معتنقون المذهب الشيعي الإسماعيلي بينما الرعية في دولتهم على المذهب السني.
- النقود الإسلامية، الدكتور عاطف منصور، مكتبة زهراء الشرق، سنة 2008
- مناظر العرش على المسكوكات الإسلامية، الدكتور وائل عبد الرحيم،، سنة 2016
- الصورة الشخصية للخليفة أبي جعفر المنصور، الدكتور محمود أحمد، مجلة المسكوكات الإسلامية، العدد الأول، سنة 2018