«نساء من الصين»: أوجاع المرأة في عالم المادة
في معرض تقديمه كتاب «علي عزت بيجوفيتش»، «الإسلام بين الشرق والغرب»، عرّج المفكر المصري الراحل «عبد الوهاب المسيري» على مسألة انتماء كل من الاشتراكية والرأسمالية للمذهب المادي، حيث يُنظر لمسائل؛ كالروح والأخلاق والضمير والمثل الإنسانية العليا، كهوامش معيقة للتطور الإنساني.
هذا ما تحقق واقعًا في الصين. فحينما تسلم «ماو تسي تونغ» الحكم في الصين، بعد حرب أهلية استمرت لسنوات بين الشيوعيين والوطنيين، لم يكن الصينيون بعد يعرفون أي جحيم ينتظرهم. ستة عقود من محاربة القيم الإنسانية مقابل مكننة الإنسان، واستعباد الشعب، ألحقت أذاها بكافة شرائح المجتمع الصيني، إلا أن الضحية الأولى كانت المرأة الصينية، التي اضطرت لقمع الكثير من طبيعتها العاطفية، امتثالًا لتعاليم قائد الثورة.
«نساء من الصين»، كتاب يقع في 266 صفحة من القطع المتوسط، لمؤلفة الكتاب الصحفية شينران، عن دار الساقي. يسلط الكتاب الضوء على قمع الإنسانية في الصين، في فترة ما سمي بـ «الثورة الثقافية»، من خلال توثيق شهادات الناجين من تلك الحقبة، بالاستماع إلى قصصهم في البرنامج الإذاعي للمؤلفة، «كلمات على نسيم الليل»، وتحويل أبرز الشهادات وأكثرها تأثيرًا إلى مادة مكتوبة.
مصادرة الإنسانية
هكذا كانت المرأة الصينية خلال حقبة صودر فيها كل ما يعنيه أن تكون امرأة، كائنًا ملزمًا بالتكيف، ضمن مجتمع كانت فضائله آخذة بالتآكل. تفككت الروابط الأسرية، وعمل الطلاب في الجامعات كوشاة على معلميهم وأساتذتهم. كانت الثورة الثقافية إذن، ثورة على القيم والأخلاق.
تزامن قمع المثقفين والمتعلمين من أبناء العائلات الرأسمالية، مع إعلاء شأن الفلاحين والقرويين. إثر هذا الوضع الجديد، أُرسل العديد من أساتذة الجامعات والمتعلمين إلى المقصلة أو السجن، أو إلى الحقول ليتعلموا زراعتها، وفُرض على الكثيرين منهم العيش في القرى لعقود طوال، والزواج من القرويين والقرويات «لتطهير دمائهم من رجس الرأسمالية».
لقد اعتُبر أي مظهر من إظهار مشاعر الحب والتراحم منتجًا غربيًا، وبذا فقد فُرضت عقوبات قاسية على كل من يثبت أن بينهما علاقة حب. ليس أن الحب في العلاقة الزوجية كان مباحًا، فكل من ثبت تودده لزوجته أو الحديث معها أثناء الجماع كان يتعرض للعقاب. وهكذا، سرعان ما أصبح المجتمع الصيني يمتهن الوشاية وخيانة الثقة.
إرث من التسلط
لم يكن التسلط على المرأة أمرًا جديدًا في المجتمع الصيني، فقد كان متوارثًا، تستطيع الاستدلال عليه من الأمثال الشعبية التي تتناول مكانة المرأة ضمنه، كالقول الكونفوشي: «أن تكون المرأة عديمة الموهبة، فتلك فضيلة»، أو كحقيقة أن بعضهن كبرن دون أن يتمكنَّ من الخروج من بيوتهن على الإطلاق إلا صوب بيوت أزواجهن أو القبر.
أو حقيقة أنه في بعض القرى النائية، كان يتم اقتسام الزوجة الواحدة بين عدد من الرجال، أو أن المرأة كانت تمنع من التملك وحقها في الإرث. وجاءت حقبة ماو تسي تتويجًا لثقافة لها جذورها الضاربة في ازدراء المرأة وقمعها. صودر حق النساء في الحب، والتزين، أو العزف على آلات موسيقية، أو ارتداء ثياب أنيقة.
لم يكن الاضطهاد حكرًا على النساء، فبحجة إعادة التأهيل وتحت عنوان «الإصلاح»، كانت تتم اغتصابات جماعية لأطفال اتُهم ذووهم بعدم الإخلاص التام للثورة، والبعض الآخر تكيف وحسب مع الظلم. كان يقضي بعض الأطفال عشرات السنين محتجَزين في مراكز قيل إنها لإعادة تأهيلهم، فقدت العديد من النساء عقولهن، وانتحر البعض منهن.
مقتطفات
لا يستعرض الكتاب وحسب عنف الرجل ضد المرأة، وإنما أيضًا عنف المرأة ضد المرأة، وقمع الرجال لمشاعرهم وأحاسيسهم. ربما طمعًا في سيرة مهنية جعلتها قصة حب على المحك، مثلما كان في فصل «فتاة جامعية»، حيث يترك رجل حبيبته التي قدمت له كل شيء وساعدته في توسيع أعماله، لصالح زواج متهالك لا عاطفة فيه ولا أبناء:
وعنف السلطة ضد المرأة كما في فصل «المرأة التي دبرت الثورة زواجها»، حيث تُسأل امرأة شابة في أوج الثورة الثقافية إن كانت سترضى بأن تبذل للثورة أغلى ما تملك، فتوافق لتجد أن السلطات زوّجتها دون علم منها بضابط كبير في الجيش، وتعيش معه حياة العبودية بعدما كانت محط أنظار الرجال لحسنها وثقافتها العالية:
امتثالًا لأوامر ماو تسي، انفصلت عائلات بأكملها وتشظت بحجة إعادة إعمار الصين والكدّ في شرقها وغربها، وأدى هذا بالتبعية إلى تزوّج العديد من الرجال نساء أخريات، بعد انقطاع اتصالهم عن زوجاتهم الأُوَل، اللواتي تُركن لتربية الأبناء بمفردهن.
ولأن الشيوعية الماوية تمنح مراتب عليا للفلاحين عوض العمال في المدن، بخلاف الحال في الشيوعية اللينينية الستالينية، فقد تزوج العديد من الجنود السابقين، الذين كانوا فلاحين فيما مضى، وسيصبحون ضباطًا وجنرالات لاحقًا، بنساء أعلى منهم ذكاء وثقافة. كانت العديدات منهن، تُستخدمن للمظاهر الاجتماعية وحسب، أُخذ أبناؤهن منهن إلى حضانات ومدارس خاصة بأبناء الجيش، وعليه فقد عاشت أولئك النسوة حرمان مشاعر الأمومة، أو مشاعر العاطفة الزوجية.
ليس فقط لأنّ أزواجهن كانوا ضباطًا أجلافًا، وإنما بسبب إحساس هؤلاء القرويين بالدونية أمام نسائهن المتعلمات. لم تطل هذه القسوة الزوجات الجديدات وحسب، بل إن الزوجات الأُوَل (القرويات) تعرضن لتملص أزواجهن السابقين منهن، والتنكر لحقوقهن.
الصحفية شينران نفسها عانت القمع في طفولتها، وتروي تحت فصل «الطفولة التي لا أستطيع نسيانها» مأساتها الشخصية؛ كونها ولدت لعائلة رأسمالية. تتحدث عن مراكز الاعتقال التي سميت مراكز إصلاح، وعن الحياة في ظل التنكيل اليومي:
نساء من الصين، ص200
يمكن للقارئ على مدى التقليب في الصفحات، أن يلحظ النمو العاطفي المطرد للكاتبة، ففي البداية لم تكن شينران سوى صحفية مغمورة، لا تعرف الكثير عن النساء الصينيات، لكنها مع التوغل في حكاياهن، تكتسب نضجًا عاطفيًا، يجعلها امرأة ذات تأثير في بلادها، ولها نفوذ وإن كان محدودًا.
خاتمة
لا تنبع أهمية هذا الكتاب من باب كونه يسلط الضوء على جوانب لم نطلع عليها من قبل، وإنما من كونه أيضًا يشحذ التعاطف الإنساني، لا مع المرأة الصينية وحسب، وإنما مع مجتمع عاش أسوأ فتراته تحت سلطة قمعية تدخلت في أدق تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد.
لقد قضت الثورة الثقافية على 45 مليون صيني، فيما عايش عشرات الملايين الآخرين منهم موتًا من نوع آخر. عاشت أجيال برمّتها مع احتقار الذات، والتماهي مع المتسلط، والوشاية، والجشع، وانعدام الثقة بأقرب الناس إليهم. مع قلة الخبرة في الحب، والحياة الزوجية، في ظل غياب معانٍ كالتفاهم والمحبة والامتنان والاحترام المتبادل.
لا أستبعد إن كانت قدرات الصين الإنتاجية اليوم، واستعباد الشعب في مصانع الشركات الكبرى، يُعزيان لثقافة الشيوعية الماوية التي أعادت برمجة الصيني وصيّرته آلة إنتاجية. في الحالتين، فإن الرأسمالية والشيوعية قد استعبدتا الصينيين، كل بطريقتها الخاصة. في رأيي، حين يعيش الشعب محرومًا من الدين وقيمه لعقود، فإن أي أيديولوجية مادية جديدة لن تحدث هذا الفارق المهم في الجانب القيمي.