المرأة في عيون (خان)
يعد (محمد خان) -وبجانب كونه أحد رواد مدرسة الواقعية في السينما المصرية منذ سبيعينيات القرن الماضي- واحدا من أهم المخرجين الذين قدموا المرأة في أفلامهم بمنظور أشد اختلافا مما عهدناه قبلا في السينما.
برغم أنه لا يقدم أبدا شخصيات خارقة أو خيالية، وإنما نساء وفتيات عاديات تماما من النوعية التي يمكن أن يقابلها محمد خان في الشارع، أو في الجامعة،أو المحطة، أو النادي!
لكننا ندرك منذ اللحظة الأولى أن الأمر ليس بهذه البساطة..!
فإنه حتى عندما يقدم تنوعا غير مسبوق في شخصيات أفلامه مثقفة كانت أو بسيطة ساذجة، غنية أو فقيرة، زوجة أو عزباء، عاشقة أو زاهدة في الحب ! إلا أن صفة أصيلة تجمع بين هؤلاء جميعا وهي (التميز)…
دائما بنات أفكار (خان) –إذ إنه كتب 12 قصة من أصل 21 فيلما قام بإخراجه- أو حتى بنات (عدسته) متميزات.. متفردات.. مغردات بعيدا عن السرب!!
دائما ما تأسرنا شخصياتهن على بساطتها، ويجعلننا نحلق معهن في عالمهن الخاص المليء بالسحر والأحلام، وكثيرا ما تلهمنا رؤيتهن المختلفة للحياة والمستقبل والناس.
لذا؛ سنغوص الآن -بحرية- داخل أبرز الشخصيات النسائية التي قدمها لنا (خان) طوال مشواره الفني المليء بالإبداع.
موعد على العشاء-1981
بالرغم من كونه أحد أوائل أعماله، فإنه قد ترك به بصمة لن تمحى بسهولة من تاريخ السينما عموما، ومن ذاكرة كل من شاهدوه، خصوصا على مر السنين وتعاطفوا مع شخصياته المتناولة بدقة وعناية .
(نوال) -سعاد حسني – المرأة الحالمة، والمذعورة في الوقت نفسه من مصير غامض تشعر به ولا تراه.!
والتي برع (خان) منذ الدقيقة الأولى في الفيلم أن يصور لنا شعورها تجاه زوجها دون أي كلام خلال نظرات عينيها فقط، والتي تعكس قلقا وتجهما غير مبررين لعروس في ليلة زفافها!
وبرع أيضا أن يقوي لدينا ذلك الانطباع أكثر وأكثر مع بدايات الفيلم خلال نفورها منه وإهماله الواضح لها!
في خلال دقائق نجح أن ينقل لنا حالة الغربة التي تعيشها (نوال) داخل عش الزوجية السعيد في ظاهره، والخاوي في باطنه.
ثم ينتقل بسلاسة ليغوص أكثر داخل روحها الشفافة المرهفة خلال مشاهد تضم تفاصيل قد يظنها المشاهد لأول وهلة غير مهمة، لكنها ضرورية لاكتمال الصورة في الأذهان، مثل المشهد الذي صور فيه لهفتها للحصول على لوحة في مزاد علني ثم بكاءها كالأطفال عندما عجزت عن ذلك.
ولأنها -كما سنعرف لاحقا- قد رأت نفسها خلال تلك اللوحة (كما الطفلة بداخلها) مقبلة على طريق مجهول لا تعرف له نهاية!
وأيضا نظرة الخوف بعينيها عند رؤيتها لامرأة على وشك السقوط من شرفة عالية وهي تصرخ طالبة النجدة بلا جدوى، وزيارتها لكوابيسها بعد ذلك.. الأمر الذي يشي بما تشعر به (نوال) على الدوام من أرق وهلع وعدم استقرار.
وعجزها عن الإنجاب رغم عدم وجود ما يمنع بشهادة الأطباء، وشعورها بالاختناق وسط الناس، وميلها للبكاء والعزلة، كل ذلك مكننا أن نتصور بسهولة طبيعة حياتها ومشاعرها القلقة كاملة دون نقصان.
لكنها ترفض الواقع وتطلب الطلاق مدفوعة لذلك بحبها للحياة، وتمسكها بالحلم، وأملها في واقع أفضل برغم رفض كل من حولها بلا استثناء حتى والدتها نفسها!
وبرغم محاولاته المستميتة لإعادتها إليه مجددا –لا حبا فيها وإنما رغبة في إخضاعها لسيطرته- يفشل في كل مرة، ومع ذلك يظل يحاول!
بل تزداد محاولاته ضراوة عندما يجدها قد وقعت في الحب ربما لأول مرة في حياتها عندما تقابل (شكري) -أحمد زكي- الفنان الحالم بدوره، وأنها –أخيرا- قد ذاقت السعادة التي لم تعرفها معه طوال سنوات، كالعصفور في يديه يحاول الطيران بعيدا بينما يصر هو على إدخاله القفص مرة أخرى.
لكننا ندرك -بفضل براعة (خان) في التصوير وتوجيه الأداء والإسقاطات العديدة في أول الفيلم- أن طريق (نوال) الحلو والمر في آن واحد قد بدأت تتبين ملامحه، وأن خوفها الدائم كان له ما يبرره في مشهد ختامي أكثر من رائع.
نجح (خان) في هذا الفيلم أن يصور قوة المرأة في أشد حالات ضعفها واحتياجها، كما يسلط الضوء على نموذج لزوجة -وغيرها كثيرات- تعاني التعاسة والوحدة في صمت، حتى إذا ثارت على ذلك؛ هاجمها المجتمع الذي لا يمكنه أن يرى من الزواج سوى قشرته الخارجية فقط!!
أحلام هند وكاميليا -1988
يتطرق (خان) في هذا الفيلم إلى طبقة مختلفة تماما قلما تناولها أحد قبله بهذا العمق، وهي طبقة (الخادمات)، فنجده يصحبنا في رحلة شائقة طوال ساعتين لنتعرف على (هند) و(كاميليا).. الخادمتان البسيطتان اللتان جمعتهما الظروف المتشابهة، والمعاناة اليومية الواحدة للحصول على (لقمة العيش)، فربطتهما بصداقة متينة أساسها الود والعطف والرغبة المشتركة في حياة أخرى بعيدة عن هذا الدور الذي لعبتاه طويلا لحد السأم.
وبالرغم من قربهما لبعضهما، فإنهما مختلفتان تماما!
(هند) -عايدة رياض- أقرب للسذاجة والتسليم بالأمر الواقع، وطموحها الوحيد هو الزواج الذي سيجعلها (ست بيت) كما خلقت لتكون-على حد اعتقادها- بعد تجربتها الأولى والتي انتهت للأسف بموت زوجها، واستغلال خالها لها من بعده للحصول على مبلغ ضئيل مطلع كل شهر جراء خدمتها في المنازل!
وتتحقق رغبتها فعلا فتقابل السائق (عيد) -أحمد زكي- والذي نعرف أنه (نصاب) بينما لا تعرف هي بعد وتحبه، لكنه يحاول استغلالها بدوره فينتهي به الأمر بعد أحداث كثيرة وتغيرات مثيرة بأن يحبها ويتزوجها!
أما (كاميليا) -نجلاء فتحي- فهي مثلها قد جربت حظها في الزواج مرة، إلا أنها فشلت فكرهته وهامت بالحرية عشقا.
وبالرغم من حياتها الصعبة مع أخيها وزوجته وأولاده، وإعالتها -شبه الكلية- لهم، فإنها لم تتوقف عن الحلم، ولطالما تاقت نفسها للخلاص دون الحاجة لذلك العمل الشاق، ولا لتحكم أخيها السافر في كل أمورها وإجبارها على الزواج مجددا حتى وهي كارهة !
رحلتهما الحقيقية -كما رسمها (خان)- بدأت بعدما هربت (كاميليا) من زوجها البخيل الذي تمقته، مع (هند) التي تهرب من المنزل الذي تعيش وتعمل به نتيجة لظروف وملابسات معينة، ليشكلا معا فريقا قويا صقلته الهموم والتجارب القاسية لا يرغب سوى في العيش بحرية، والعمل بشرف بعيدا عن أي أحكام مسبقة أو تحكمات ظالمة.
مجددا ينجح (خان) في تقديم نموذج للمرأة القوية بمفهوم مختلف، المشبعة بحب الحياة والشجاعة في مواجهة الظروف، والصمود في وجه العقبات بابتسامة متفائلة وروح منطلقة.
فنجدهما –رغم حاجتهما للمال- حريصتين على الاستمتاع بوقتهما فتدخلان السينما، وتذهبان إلى الملاهي طمعا في تجربة كل جديد، وتحقيق ولو حلم بسيط من قائمة أحلامهما الطويلة.
وحتي في مشهد النهاية –بعد إخفاقات وإحباطات متكررة- نجدهما يهرعان جريا بأقدام حافية على شاطئ الأسكندرية الأثير –الذي كان أحد أحلامهما أيضا- يرددان في لهفة اسم (أحلام) مرة بعد مرة، وكأنهما لا يبحثان فقط عن طفلة (هند) التائهة، وإنما ليعلنا لنفسيهما والعالم أجمع أنهما أبدا لن تتنازلا عن أحلامهما ما دام فيهما نفس يتردد، وصوت يدوي.
في شقة مصر الجديدة-2007
أخيرا -وليس آخرا – مع ذروة إبداع (خان) السينمائي، والفيلم الذي ترشح مبدئيا لسباق الأوسكار لعام 2008.
موعدنا مع (نجوي) -غادة عادل- أو (نوجة) كما كانت تلقب.
الفتاة الصعيدية ومعلمة الموسيقى البريئة التي اعتادت أن تحلم بالحب منذ كانت لا تزال طالبة في مدرسة الراهبات بالمنيا، وقد كانت معلمتها الأقرب إلى قلبها -مس (تهاني)– تحكي لهن عن الحب المثالي كما يجب أن يكون، وعن فتى الأحلام الذي ينتظر كل واحدة منهن في مرحلة ما من حياتها، حيث يصبح عندها للانتظار معنى.
ولأن (نجوى) حالمة بطبعها؛ رافقتها تلك الكلمات العذبة والأحلام المشرقة طوال حياتها حتى بلغت السادسة والعشرين ولما تتزوج بعد.. الأمر الأشبه بمغامرة في مجتمع الصعيد المتحفظ الصارم الذي لا يفهم أن تظل الفتاة حتى هذه السن دون زواج!
لكنها واجهت ذلك بشجاعة فطرية وإن كانت لا تفهم بعد كيف يمكن للفتاة أن تتزوج بأول شخص (مناسب) يطرق بابها! هكذا دون حب أو لهفة كما كان يحلو لها أن تتصور!
ويطرق ذلك الشخص بابها فتعود لحيرتها مجددا، لكنها تقرر أن تقابل (مس تهاني) بعد طول غياب، ورسائل لا يرد عليها أبدا علها تجد عندها الإجابات أو تستمد منها القوة لمواصلة كفاحها للدفاع عن مبادئها وأحلامها الخاصة.
فتستغل فرصة وجودها في القاهرة مع فريق مدرستها، وتبدأ رحلتها للبحث عن (تهاني) بعدما اختفت فجأة دون أن تخبر أحدا بوجهتها تاركة شقتها بكل ما فيها من بيانو وصور وذكريات ليسكنها بعدها (يحيي) -خالد أبو النجا-موظف البورصة العازب.
وستقابل (نجوي) (يحيي) أثناء رحلتها لتفاجأ بنفسها قد وجدت الحب الذي حلمت به أولا! فبرغم الأيام القليلة التي قضياها معا؛ فإن كل ما خاضته معه خلالها قد رسخ داخل قلبها –الخاوي على عروشه من المغامرات العاطفية- ذلك الشعور الذي انتظرته طويلا ولم تيأس منه أبدا.
الفيلم المهدي إلى (ليلي مراد) في أوله امتنانا للرومانسية الحالمة التي تركتها خلفها لكل الأجيال، والذي ظللته أغنية (قلبي دليلي ) الأيقونية كخلفية موسيقية طوال أحداثه، يعد سيمفونية سينيمائية ساحرة عزف فيها (خان) على أوتار قلوبنا جميعا جاعلا إيانا نحب (نجوى) ونتعاطف معها ونحسدها في الوقت ذاته!
جعلنا نستمد من تفاؤلها، وقوتها الناعمة، وخجلها العذب، وتمسكها بالحب الكثير والكثير مما سيظل معنا طوال حياتنا.
أما التصوير الحالم والتفاصيل الصغيرة التي اعتاد أن يكمل بها الصورة، فقد نقلانا –كالعادة- من حالة الحلم إلى الانبهار التام ليحصد جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان دمشق السيمائي، والخنجر الفضي في مهرجان مسقط 2008، ويحصد مع ذلك قلوب عاشقة ستظل تحلم بالفيلم طويلا.
لكن مسيرته الطويلة المثمرة للأسف قد انتهت بوفاته في يوليو 2016 بعد أن قدم للسينما المصرية عموما وللمرأة خصوصا الكثير من الفن والرقي بإخلاص، جدير بالذكر أن آخر إبداعاته كان فيلمي (فتاة المصنع-2014) و (قبل زحمة الصيف-2015 ).