سياسات حجب المرأة من الشاه إلى الجمهورية الإسلامية
قبل بضعة أيام، قرّر النظام الإيراني إلغاء عقوبة السجن المقررة على النساء غير الملتزمات بـ «الشادور»، وهو غطاء للرأس والجسم عرفه المجتمع منذ زمن بعيد، وأصبح مفروضًا بقوة القانون بعد الثورة الإسلامية في عام 1979 ليصير رمزًا للوجه الأيديولجي للدولة الجديدة التي أعقبت سقوط النظام الملكي.
فغير الملتزمات بالشادور أو الحجاب الصارم لن يذهبْن إلى السجن كما كان مفروضًا بالقانون، ولكنهنّ عوضًا عن ذلك سيجبرْن على الخضوع لدورس دينية إلزامية. لم يحظ القرار برضا بعض النسويات بالتأكيد، إلا أن تلك الخطوة تعتبر إرثًا لنجاح الحراك النسوي ضد الحجاب الإلزامي بكل أشكاله في إيران.
الثورة الإيرانية: المرأة من دمية غربية إلى فاطمة الزهراء
استطاع آية الله الخميني أن يسيطر على المشهد الإيراني عام 1979، حيث أصبح قائدًا للثورة الإسلامية التي أطاحت بالنظام الملكي الفاسد آنذاك، وأسّست «جمهورية إيران الإسلامية». وقد عُرف عن الخميني تشجيعه المرأة على المشاركة في التظاهرات المختلفة، مما أشعر الإيرانيات أن لوجودهنّ في المشهد السياسي معنى بعيدًا عن النموذج الذي حاول النظام الملكي أن يحصرهنّ فيه، حيث عمد إلى إبعادهنّ عن الشأن السياسي والتعامل معهن كـ «دمية غربية» كما يصف المفكر علي شريعتي (1983: 78)، حيث يتم تقييم المرأة بأنوثتها الطاغية، والتعامل معها بغرض الإشباع الجنسي.
خرجت النساء إلى الشوارع مرتديات الحجاب بشكل رمزي واختياري كنوع من التحدي، ولتأييد الثورة الإسلامية ضد الشاه، فكانت الثورة بمثابة الأمل لنيل الحرية، إلا أنّ نظام الخميني سرعان ما سعى إلى إعادة حصر المرأة في أدوارها السابقة البعيدة عن السياسة وتجاهل حقوقها المختلفة، متخذًا في إطار ذلك قرارًا بفرض «الشادور» أو الحجاب الصارم بالقانون للمحافظة على خصوصية إيران الحضارية، ورفضًا للنماذج الغربية السائدة.
وخلال الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) قدّم النظام الشادور في خطابه كرمز لشرف الرجل الإيراني، وربطه بالجهاد ضد أعداء البلاد داخليًا، ليصبح الشادور للنظام أحد أهم راياته التي سعى جاهدًا لفرضها والحفاظ عليها (ميرزاي وصادقي 2006). كما عملت السلطة على الترويج لتلك السياسات من خلال تصدير صورة الأم فاطمة ابنة الرسول رمزًا للأم الملتزمة، بدلًا من صورة ابنتها المقاتلة زينب رمزًا للمرأة التي خرجت في الشوارع بالثورة الإسلامية (صادقي 2008).
إلّا أن جيل الشباب الذي نشأ بعد الثورة كان من الصعب عليه أن يخضع لسياسات الدولة تلك، وعبّر عن وجه آخر سوى الوجه الإسلامي الذي تمنته وتوقّعته السلطة الدينية بممارستها الهادفة للتحكم في شكل وأفكار تلك الأجيال (كورزمان 2005)، بل هو نموذج يختلف عن الأجيال السابقة، ويقع أسيرًا لانغلاق المساحات العامة وهيمنة السياسات النيوليبرالية.
مجتمع ما بعد الحرب: النيوليبرالية تغزو الشوارع
اختلف شكل حيوات الأجيال الشابة، الخاصة منها والعامة، عن جيل ما قبل الثورة، مما عكس فجوة بين الجيلين في المجتمع الإيراني، بما في ذلك من يرتدين الشادور، حيث ترفض هذه الأجيال النموذج الذي سعت السلطة الدينية الحاكمة إلى خلقه، وابتكرت أشكالًا سياسية واجتماعية وثقافية أخرى لتعبر عن نفسها من خلالها.
ظهرت الملابس الملونة الحديثة في إيران مع حكم أكبر رفسنجاني(1989-1977) بديلًا عن الشادور، حيث طرأت بعض التغيرات على المجتمع الإيراني في عهده نتيجة سياساته الجديدة المتمركزة حول تبديل معاني وشعارات الثورة بأشكال استهلاكية غزت الشوارع. هذا إلى جانب المسلسلات اليابانية العاطفية على التلفاز الرسمي، وترويج هاشمي، في أحد خطبه، للزواج المؤقت بين غير المقتدرين ماديًا كوسيلة لسد احتياجات الشباب الجنسية، مما عكس التفاوت الطبقي الذي ظهر في المجتمع آنذاك (هيري 1993).
كانت النيوليبرالية عنوان المرحلة بعد الحرب، مما مكّن النساء من ممارسة بعض الأشكال التحررية التي لم يعارضها النظام بشكل فعلي. كما سيطرت الفردية على أنماط الحياة الشبابية بعد فشل وعود الثورة وحالة الإحباط التي غزت المجتمع، فتُركت السياسة لحالها وبدأ الشباب الاهتمام بحيواتهم الاجتماعية الخاصة.
تأثر الحراك النسوي بالسياق السياسي والاجتماعي للدولة، حيث كانت المقاومة متمركزة على المقاومة الفردية بأشكالها المختلفة، فانتشر حينها نموذج حديث من الشادور، كما التحقت النساء في فترة الإصلاح (1997-2005) بالجامعات بشكل فاق لأول مرة أعداد الرجال الملتحقين بالنظام الجامعي، مما أغضب حكومة أحمدي نجاد الذي سعى لتحديد النساء الملتحقات بالجامعات في نسبة لا تتعدى الـ 40% (صادقي 2008).
المكياج والشعر: سُبل للمقاومة
جعلت سياسات النظام الديني في إيران الشباب يتجه إلى التعبير عن الذات في المساحات الخاصة، حيث سيطرت الدولة بشعاراتها الدينية وشرطة الأخلاق على المساحات العامة، مما أدى إلى خلق نموذج حديث من المرأة الإيرانية ممزق بين الشعارات الدينية في المساحات العامة والسيطرة الذكورية في المساحات الخاصة، فكلما حاولت التحرر أصبحت تابعًا لرغبات الرجل المسيطر على المساحات الخاصة (صادقي 2008).
وفي الحقيقة، فإن الأبحاث المختلفة المنصبّة على قضية الحجاب بإيران توضح أن تعامل الشابات الإيرانيات مع مسألة الحجاب هو تعامل مع مسألة شخصية واجتماعية وليست سياسية، إلا أن رفض إجباره يعدّ شكلًا من أشكال المقاومة والمعارضة للسلطة الحاكمة (صادقي 2008)، كما تعاقب السلطات الحاكمة كل من يخالف هذا القرار أو الشكل المفروض للشادور بالسجن لعدة سنوات.
وتعتبر النساء المرتديات للشادور في إيران أن زيهن اختيار شخصي مبني على خياراتهم الدينية والمجتمعية أيضًا، فهو برأيهن حماية لهن من التحرش الجنسي في الشوارع، وهو ما كانت تروّج له السلطة باستمرار في خطابها. كذلك فهو يجعل نظرة المجتمع لهن أفضل. أي أن الحجاب لم يعد يعبر عن أي انتماء أيديولوجي للسلطة الحاكمة كما كان قبل الثورة (صادقي 2008).
وعلى صعيد آخر، انتشرت الملابس ذات الطابع الحديث، والشعر المصفف بطرق غير تقليدية، وارتداء المكياج، كسُبل للمقاومة الفردية، وكنتيجة للمناخ السياسي المنغلق الذي أدى إلى انطواء الشباب نحو حياتهم الاجتماعية الخاصة، ومحاولة دمج ما هو تقليدي بما هو حديث لتكون الحياة أقل وطأة، لتصبح احتفالات عاشوراء في طهران، كمثال، غير قاصرة على الرجال كما كان من قبل،حيث استطاعت المرأة بشكلها الحديث أن تكون جزءًا من المساحات العامة.
في النهاية، حصرت تلك الحالة الحراكَ النسويَ المنصبّ تجاه التخلص من جبرية الحجاب من أزمات، في قضايا الجسد والتحرر على الطريقة الغربية، وهو النموذج ذاته الذي خلقته الفترة الملكية؛ أي أن الملكية والجمهورية الإسلامية اتّفقا على أن يجعلا من المرأة «دمية غربية».
الإنترنت طرفًا في المعادلة
تحتوي إيران على أكثر من 60 ألف مدونة فارسية و43 مليون مستخدم، وبالرغم من سياسات الحجب التي يتبعها النظام الحاكم، إلّا أن الإنترنت بقي يشكّل مساحة بديلة عن الإعلام الرسمي الواقع تحت هيمنة السلطة من جهة، والهيمنة الذكورية من جهة إلى أخرى، حيث تتناقل المرأة من خلاله الأخبار التي تخصّها وتخوض النقاشات الحيوية، كما أنه أكثر المساحات ديمقراطية هناك، حيث لا يفرّق بين صوت الرجل والمرأة.
أصبح الإنترنت وسيلة لتجمع النسويات وغير النسويات للمطالبة بحقوقهنّ المسلوبة، وإعادة تعريف هويتهنّ بشكل منفصل عن سيطرة السلطة الدينية أو التقاليد المجتمعية، مما أعطاهنّ الفرصة لتشكيل وعي مشترك عن قضاياهنّ ومطالبهنّ.
كما كان لمواقع التواصل الاجتماعي دور في الحراك النسوي الإيراني، ومن أشهر تلك الأنشطة النسوية عليه صفحة «My Stealthy Freedom» التي أنشأتها الصحفية الإيرانية ماسيه ألينجاد. وتسعى الصفحة إلى توثيق رفض الإيرانيات للحجاب المفروض من السلطة من خلال مشاركة حكايات الإيرانيات المختلفة وفيديوهات خاصة بهن أثناء خلعهن الحجاب أو الرقص في شوارع إيران المختلفة، لتحدي سيطرة السلطة على المساحات العامة. فكانت الصفحة قادرة على خلق تأثير داخلي وخارجي من خلال تدشين الحملات المختلفة ونشر قصص النساء بمختلف اللغات، مما أكسبها انتشارًا واسعًا ومساندة عالمية باستخدامها للتكتيكات الإلكترونية المختلفة إلى جانب التحرك في الشوارع.
للإيرانيات باع طويل في الحراك النسوي، سواء من خلال المجتمع الافتراضي القائم من خلال الإنترنت، أو من خلال المقاومة الفردية المتأثرة بطبيعة المجتمع والتحولات التي طرأت عليه نتيجة فشل وعود السلطة الإسلامية وسيطرة النظام على المساحات العامة، أو من خلال تحركات نسائية في الشارع ومظاهرات شعبية، واستطاعت المرأة الإيرانية من خلال كل ذلك أن تعبر عن رفض المجتمع لسياسات النظام التعسفية، ونالت أخيرًا حقًا من حقوقها في رفض ارتداء الشادور.