الذئب الذي فينا
إن أبانا لفي ضلال مبين:
بدأ إخوة يوسف اجتماعهم باتهام أبيهم بالضلال لتفضيله وأخيه عليهم باهتمامه ورعايته، وهم عصبة يقومون برعاية القطيع وقضاء الحاجات وتوفير الأقوات لبيت أبيهم، وهم بذلك لا يسعون لفصل أنفسهم عن أخويهم كآخرين مختلفين؛ وإنما يسعون لربط مصيرهم ببعضهم كعصبة (جماعة) تجمعهم المصلحة والمصير المشترك، وما اتهام إخوة يوسف لأبيهم ورميه – وهو نبي – بالضلال إلا تبريراً لشعورهم بالغيرة من أخويهم الأصغرين، وتمهيداً لما سيتخذونه من قرارات بعد ذلك.
وتكونوا من بعده قوماً صالحين:
ثم قرروا إبعاد أخيهم بأي صورة كانت حتى يستعيدوا مكانهم من أبيهم مرة أخرى؛ إما بقتله أو بتركه في أرض بعيدة، ولو اقترح أحد الاخوة مثل هذا الأمر من دون إجماعهم الشعوري الذي بدأوا تبنيه «كعصبة» لأنكروا عليه هذا ونهروه، ولكنهم نفوا عن أنفسهم الإنكار والذنب باجتماعهم هذا في اتخاذ القرار، ثم اتخذوا قرارهم بالتوبة قبل حتى أن يقترفوا ذنبهم الذي اجتمعوا عليه، وثم وليزدادوا طمأنينة يقترح أحدهم تخفيف حكمهم على أخيهم «قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)»، وهو إنما شعر بالذنب فحاول التخفيف عن نفسه بهذا القول المائع الذي لا هو إنكار عليهم ولا مفارقة «لعصبتهم» وإنما هو إقرار ضعيف بأنه لو لم يكن بد من أن نرتكب هذا الفعل فليكن الإبعاد لا القتل!
الذئب:
وأجمع إخوة يوسف أمرهم، طلبوا من أبيهم أن يأخذوا أخاهم يوسف معهم في رحلتهم ليعلب، فرد عليهم أبوهم بحزنه لمفارقته وخوفه من أن يأكله ذئب إذا تركوه وغفلوا عنه، فطمأنوه بأنهم «عصبة» ولا يمكن أن يطال أخاهم أي خطر، ثم استخدموا نفس حجة أبيهم في خوفه من أن يأخذوه كطفل صغير يبرر فعلة أمام أبيه، فقالوا له إن الذئب قد أكله،«وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16)قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17)»وهنا وهم يدركون تهافت كذبتهم بدأوا في تصديقها بتأكيد صدقهم فيما يدعون شاعرين بحالة لا هي بالكذب الصريح أو بالصدق الجلي، حالة من ينكر على نفسه حقيقة الجرم الذي ارتكبه بتغليفه بالكذب على النفس كما برروا قرارهم سابقاً ونفوا عن أنفسهم شعورهم بالذنب بقرار التوبة واتخاذ سبيل الصلاح بعد فعلتهم هذه وثبات الأمور على ما يشتهون.
وتركوا يوسف الطفل فترة من الزمن في غيابة الجب بعد ما افتروا عليه، طفل صغير في قاع مظلم يتطلع إلى الفتحة المضيئة في أعلى البئر، وكأنها تمهيد لظلمة أخرى أطول وافتراء آخر أكبر!
نسوة في المدينة:
ولما راودت امرأة العزيز يوسف واستعصم، وذاع الخبر بين نساء المدينة عن مراودة امرأة العزيز ليوسف، أرادت امرأة العزيز تخليص نفسها من الشعور بالخزي أمام نساء المدينة الأخريات اللاتي يلكن قصتها كنوع من الاستعلاء الأخلاقي الكاذب، «وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ(31)»، فخططت لدعوتهن لزيارتها كي يرين يوسف –عليه السلام- فتأخذهن طلته بجلاله وجماله، ويكون قطع السكين في أيدي هؤلاء النسوة دليلاً مادياً على كذب ادعاء هؤلاء النسوة بالاستعلاء على امرأة العزيز، بل وجلباً للتواطؤ والتعاطف «المجتمعي» على ما تريده من رذيلة وانحطاط.
وهكذا كما اجتمع عليه إخوته من قبل تجتمع عليه نسوة الملأ، فيلقى به هذه المرة وإن عن رغبة منه وتفضيل في غيابة السجن بضع سنين!
فقد سرق أخ له من قبل:
قال إخوة يوسف قولتهم هذه، لما دبر يوسف أمر سرقة أخيه الأصغر ليبقيه معه، وما هذه القولة إلا افتراء آخر سولت لهم أنفسهم إياه بالرغم من كل هذا الزمن الطويل الذي مضى على إلقائهم لأخيهم في الجب، وإنما اختلقوا هذه الكذبة لأنفسهم ومثلها كي يلصقوا يوسف بأخيهم بأسوأ الصفات ليبرروا لأنفسهم كراهيتهم له وفعلتهم به، فالإنسان كما يقول علماء النفس إذا ارتكب إثمًا في حق آخر لا يستطيع أن يصححه أو يمحيه، فإنه يزداد عنفاً وكراهيتاً لذلك المظلوم، كي يبرر لنفسه فعلته ويستطيع أن يتخذ موقفاً أخلاقياً زائفاً تجاه ذلك المظلوم.
في دلالة الذئب في السورة:
أن الذئب في السورة هنا رمز إلى إسقاط العاقبة الأخلاقية لفعل الإنسان على شيء خارجي مختلق فهو يخدع نفسه وضميره قبل أن يخدع غيره، أو إزاحة تأنيب الضمير على الذنب المقترف بمشاركة الآخرين في الذنب أو جلب التعاطف بالاحتيال والخداع، فيظهر الإنسان للآخرين أن ما يرغب فيه ويخفيه هو ما يرغب به الآخرون جميعاً، فيحتال عليهم أو يتواطأ معهم في ارتكاب الفعل المرفوض أخلاقياً «كعصبة» فلا يلقي أحد باللوم على الآخرين، وهو آلية نفسية (Defense Mechanism) فالذئب في حالة إخوة يوسف استخدم كإسقاط لفعلهم المشين والمذنب على فاعل خارجي من أجل تخفيف وطأة ما فعلوه وتبريره لأنفسهم، أما فعل امرأة العزيز بمشاركة نسوة المدينة واتهام إخوة يوسف له بالسرقة بالرغم من مرور زمن طويل يتجاوز عشرين سنة على آخر لقاء لهم فهو ما يسمى بالتصعيد أو التسامي (Sublimation) وهي عملية لتحويل الدوافع النظرية غير المقبولة إلى دوافع مقبولة اجتماعيًا.
وصورة أخرى لهذه الآلية وردت في الآيات الكريمات، هي أن يسعى المرء إلى الحصول على إراحة للضمير بطلب النصح من ناصح في فعل يود اقترافه، فيخدع الناصح بأن يضلله عن نيته الحقيقية بأنه يصارع نفسه في أمر ما فهو يشعر بتأنيب الضمير لمجرد التفكير في هذا الأمر ولكن تدفعه ظروف أقوى منه إلى ذلك، أو أنه صار يتألم بسبب فعل ما أو بسبب شخص ما، فيهون عليه الناصح أمر ما يود الشخص الإقدام عليه بأنه أخف الضررين، فيلتقط الشخص كلام الناصح وتهوينه كما يلتقط الذئب فريسته بين أنيابه، فيفعل ما كان يود فعله منذ البداية ولكن بعد أن أزاحت تلك النصيحة الغافلة وطأة العاقبة الأخلاقية في نفس صاحبها، بالضبط كحال إخوة يوسف لما اقترح أخ لهم إلقاءه في البئر بدلاً من قتله، وكحال امرأة العزيز لما أعلنت عن نيتها أمام نسوة المدينة بعد أن قطعن أيديهن!