منجمون في معاطف علماء
الغد
ذلك البعيد المتدثر بالغموض.
مصدر الخوف الدائم للجميع، والذي خبأه الخالق عنا رحمة بنا.
انشغل الإنسان بالغد منذ بداية الخليقة، وسعى بكل الطرق لاختلاس ولو نظرة إلى كنهه، من هنا لم يخلُ بلاط الممالك القديمة من شخصية هامة، هي المنجم أو«العراف».
واستمرت رواسب عن هذه القناعات حتى العصر الحديث،فيروى عن هتلر أنه كان يؤمن بالمنجمين بشدة.
ومن أشهر المتنبئين على مر التاريخ ميشيل دي نوسترادام (1503-1566)، أو كما تعرفه الكتب بالمرادف اللاتيني لاسمه (نوسترداموس)، بدأت رحلة حياته كطبيب فرنسي غريب الأطوار، يجوب البلدان سعيًا لمواجهة غول شرس اجتاح أوروبا اسمه (الطاعون)، ماتت زوجته وأولاده أنفسهم أمام عينيه إثر الوباء، فانكب على العلوم الماورائية، وقيل أنه أحرق لاحقًا هذه المخطوطات التي تحت يده، بدعوى التخوف من أن تقع في يد آخرين، قد يسيؤون استخدامها.
استدعته الملكة كاثرين في باريس، ودعته لقراءة مستقبل أولادها، فقال لها أنهم جميعًا سيصيرون ملوكًا، وروى أنه أشفق إخبارها بالحقيقة كاملة، حيث أنهم سيصيرون ملوكًا على نفس العرش، إذ سيموتون باكرًا بسلسة من الحوادث المأساوية.
نظم نوستراداموس نبوءاته على شكل أبيات شعرية قصيرة، وجمعها في كتاب أسماه «قرون»، انبرى المعارضون للتشكيك في نبوءات نوستراداموس، وانقسموا ما بين مخمن أنها مجرد تفسير لرموز الكتاب المقدس التي يقال عنها Bible code.
وما بين قائل أن طبيعة النبوءات مبهمة بالأساس، وقابلة لأكثر من تفسير،ومن ثم يلبسها الناس لكل الأحداث الكبرى التي تحدث حولهم، أو كما قيل على لسان أحدهم «إن الغرب يقوم بتفصيل الكلمات على اللحن».
ويستمر خلفاء (نوستراداموس) مثل (إدجار كايس) وغيره، حتى قرر رجال الدين اتخاذ موقف، قرروا التنبؤ – بدورهم – مع فارق أنهم يعلنون صراحة منذ البداية أنها مجرد «تخيلات ممنهجة»، وقد وجدوه مجالًا جيدًا للتعبير عن فكرهم، سواء بغرض التبشير أو التحذير، ففي عام 1723م، طرح القس (صامويل مادن) كتابًا خياليًا أخد شكل رسائل تحذيرية، مصدرها سفراء بريطانيا في المستقبل، بالتحديد في عامي 1997م و1998م، أي حاول المؤلف فيها استباق عصره بحوالي قرن ونصف، فأطلق عليه «ذكريات القرن العشرين»، وطبعًا – بحكم عمله – ركز بالأساس على توقعاته المستقبلية للأحوال السياسية والدينية، ومدى المخاطر التي ستنال الغد إذا سيطر عليه الكاثوليكيين واليسوعيين.
شاركه التقاط الخيط، مواطنه وزميل مهنته (جوزيف جلانفيل)، الأسقف السابق لعصره، الذي وثق توقعاته حول مجتمعات المستقبل، وارتقى إلى هذه التوقعات بناءً على «مقدمات» و«نتائج»، بمعنى أنها امتلكت حد أدنى من المنهجية العلمية، وتكررت مثل تلك الاجتهادات من غيره مرارًا، أقربها من جيرانه الفرنسيين، والذين – كما نعلم – حازوا كلمتهم الباكرة في المجال، بشقيه:
– عبر (نوسترامادوس) كنموذج للاستبصار القائم على التنجيم.
– (لوي سباستيان مرسييه) كمجرب لذاك النوع الآخر القائم على التخيل.
ففي عام 1770م سطر الثاني كتابه «مذكرات العام ألفين وخمسمائة»، حقق شعبية واسعة عبر عنها نفاد الطبعات الأولى سريعًا، بما اعتبره دليلًا على ظمأ المزاج الفرنسي للتفاؤل وقتها، فالكتاب ينحاز لتقديم تخيل رومانسي لباريس في المستقبل، وكيف صارت جنة للعدل والمساواة، بلا عبودية ولا مومسات ولا فقراء!
عاد نبض التغيير إلى الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، هناك أسس (هربرت جورج ويلز) لريادة أدب الخيال العلمي، وبث فيه رؤاه المستقبلية الثاقبة، بعد فترة، وكأنما وجد ذلك غير كافٍ، فقرر الإسفار عن هذه الرؤى بشكل مباشر، وهو ما أثمر في النهاية عن سلسلة مقالات دورية مباشرة عام 1901م، كوَّنت تصور لشكل العالم حتى عام 2000م، وبعد وفاة ويلز، أنشأ خلفاؤه الرابطة البريطانية لأدب الخيال العلمي (BSFA).
قرأت في موقع شبكة ANN الإخبارية، أن نفس الرابطة سارت على درب الريادة، فسبقت عصرها باقتراح وزارة اختصاصها قائم على «استباق العصر»، وزارة للمستقبل.
للأسف، لم تجد هذه الرؤية السديدة تقديرًا لدى الساسة، واعتبروا أصحابها حالمين أكثر من اللازم، فاستمرت المحاولات فردية من قبل مؤلفي الخيال العلمي.
لاحظوا أننا هنا نتحدث عن التخيل العلمي من منظور أوسع، كمنهج وطريقة بحث، وليس فقط أدب وفن، فلو أردنا جذب خيط الشق المنهجي من بدايته، نجد أن عالم الاجتماع (كولم جليفان) هو أول من أكسب المجال عام 1907م استقلالًا لفظيًا، فصاغ لفظة (Miloontologie) كمرادف لـ (علم أحداث المستقبل).
أما عن ميلاد مصطلح «مستقبليات» كأقرب ما يكون فرع علمي مستقل، فيعود إلى الألماني (أوسيب ك فليتشهتايم) عام 1949م، حيث عنون به كتابه «التاريخ وعلم المستقبل»، ثم نعرج إلى الباحث (جاستون برجيه)، فهو أول من استخدم كلمة (استشراف) (Prospective)، وخرج بها من حيز المجهود الفردي، فأنشأ سنة 1957م المركز الدولي للدراسات المستقبلية، والذي صدر عنه دورية هامة أطلقوا عليها (بكراسات الاستشراف)، ثم انتقلت العدوى عبر المحيط، ليجنح الجنرال الأمريكي (هنري هـ أرنولد) إلى «عسكرة» الفكرة، وتأسيس مؤسسة «راند RAND» كاختصار لـD evelopment R esearch AN d.
توفر للرجل حماسة تجاه المبدأ من ناحية، ومن الناحية الأخرى، صلاحيات منصبه كقائد للقوات الجوية، علاوة على علاقته بشركة «دوجلاس» للطائرات، فنشأ البرنامج في بدايته برعاية الأخيرة، بهدف التخطيط بعيد المدى للأسلحة في المستقبل، ثم توسع نشاطها بعد ذلك كمؤسسة غير ربحية، تقدم استشرافات رائدة ساهمت في تطوير برنامج الفضاء الأمريكي، الإنترنت، الحوسبة، الذكاء الصناعي، مكافحة الإرهاب، كما لم يغفلوا القضايا المدنية التي تمس الأمن القومي، مثل العدالة القضائية، التعليم، الصحة.
ثم حدث اللقاء الهام في مطار (لاجوارديا)، عندما التقى (هنري هارولد) بالعالم (تيودور فون كارمان)، صاحب الصولات والجولات في الفيزياء والرياضيات والطيران، ووجه الأول نصيحته إلى الثاني، بأن يغادر إلى العاصمة، ليعمل معهم.
وكم كانت عين (هارولد) صائبة، نظرًا للدور الهام الذي قام به (كارمان) في تقرير (نحو آفاق جديدة) الذي استطلع القدرات الأمريكية التكنولوجية.
اقتنع الباحث المخضرم، فترك عمله المرموق في معهد (نيويورك) التكنولوجي، ليستلم منصبه الجديد كمستشار للتنبؤ التكنولوجي بعيد المدى بالجيش، وهو المنصب الذي تطور ليأخذ شكل مركز بحثي كامل ومستديم.
وبالتوازي مع النشاط الاستشرافي وراء الأسلاك الشائكة للعسكريين، تأسست عام 1966م (جمعية مستقبل العالم) بشيكاغو، وتشتهر بمؤتمرها السنوي الذي يرتاده مستقبليون متخصصون في مختلف المجالات.
كما حقق هذا العلم نجاحات كبرى في الظهير الاجتماعي، فتمكنت كلية «اليس لويد» (قبل ثلاثين عامًا) من التنبؤ بتطور المجتمع الأمريكي، ووضع منذ عقود خريطة للمشاكل الأسرية التي ظهرت هناك الآن.
على نفس الصعيد، استطاعت جامعة «كورنيل» قبل عقدين رسم تصور للمستقبل الاجتماعي والبصمة السياسية للأقليات العرقية في أمريكا، وجاء هذه التصورات دقيقة إلى حد كبير.
من العلامات الفارقة أيضًا، الباحث (ألفين توفلر)، صاحب الشهرة الواسعة لدينا في الوطن العربي، لدرجة أن نطق كلمة “المستقبليات” صارت تذكرنا به مباشرة، ففي عام 1974م ترجمت دار (نهضة مصر) كتابه (صدمة المستقبل)، لينال رواجًا واسعًا لفت الأنظار العربية إلى مؤلفه، فعرفنا أكثر عن اسم (توفلر)، الذي درس على يديه قادة دول مثل الرئيس السوفيتي (جورباتشوف) ورئيس الوزراء الماليزي (مهاتير محمد)، ونظيره الصيني (زهاو زيانغ).
استمر عطاء الباحث الأمريكي، بإصدار عناوين أخرى هامة، بمساندة من زميلة المهنة وشريكة حياته (هايدي توفلر)، أبرزها؛ (المستقبليون)، (تعلم من أجل الغد)، (الموجة الثالثة)، وغيرها.
تحدث المفكر (خالد بكر) عن العنوان الأخير، فيصف أثره الفارق بقولته: