صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين: لأن الموهوبين دائمًا غرباء
كلمات الشاعر المصري «سيد حجاب» في واحدة من أجمل أغاني مسلسل «الأصدقاء»، تلك الكلمات التي ظلت تدور في ذهني طوال قراءة رواية «صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين»، للكاتب النمساوي «تومارس برنهارد» (1931-1989)، ترجمة «سمير جريس»، والصادرة عن داريّ ممدوح عدوان وسرد.
هذا الكتاب الذي يحكي فيه برنهارد عن جزء من سيرته الذاتية والصداقة التي جمعته بـ «باول» ابن شقيق الفيلسوف النمساوي «ليدفيغ فيتغنشتاين»، يُمكن أن يُصنَّف كـ «رواية»، ويمكن أن يُصنَّف كـ «سيرة»، والأفضل ألا يُصنَّف على الإطلاق، هو فقط حكاية صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين.
و«ليدفيغ فيتغنشتاين» هو واحد من أكثر الفلاسفة تأثيرًا في فهم الفلسفة ومشكلاتها، ولد في فيينا عام 1889 لعائلة شديدة الثراء والنفوذ وهو أصغر أبناء العائلة. بعد وفاة أبيه ورث ثروة عظيمة، وهي الثروة التي خلّفها وراءه وأخذ يترحل إلى أكثر من بلد. وقد نشر كتابه الأول «رسالة منطقية فلسفية» عام 1921، وفيه ناقش علاقة المشكلات الفلسفية باللغة، حيث رأى أن أساس مشكلات الفلسفة تتعلق باللغة وتعاملنا معها، فالكلمة الواحدة لا تُولِّد نفس الصورة في أذهان المستمعين أو القرّاء، وبالتالي يختلف فهم كل منهم لنفس الكلمة، ومن هنا تتولد مشكلات التواصل.
في مصحة الأمراض العقلية
الكتاب يتخذ من ليدفيغ فيتنغشتاين نقطة الانطلاق فقط، فمحور الحديث هنا هو ابن شقيقه باول، الذي توطدت صداقته بالكاتب عام 1967، عندما كان الكاتب يُعالَج في مصحة لأمراض الرئة وكان باول (ابن شقيق فيتغنشتاين) على بُعد 200 متر منه في مصحة الأمراض العقلية، وقد كانت بداية معرفتهما في بيت صديقة مشتركة. ويقول برنهارد عن هذا اللقاء إنه علم منذ اللحظات الأولى أن علاقةً ما ستجمعه بـ «باول»، وأنه أمام شخص حاد الذكاء بشكل لا يُصدق، خصوصًا عندما يتحدث عن الموسيقى والأوبرا، التي كان مهووساً بها لدرجة غير محتملة.
الكتاب يبدو طريفاً في بدايته خصوصاً مع حس برنهارد الساخر من ذاته ومن الآخرين دوماً، لكنه يتجه نحو التراجيديا سطراً بعد سطر ثم يعود للسخرية مرة أخرى، في لعبة جميلة شديدة التأثير أتقنها برنهارد تماماً.
يحكي في البداية عن «باول» المجنون الذي أضاع ثروة طائلة مثل عمه «ليدفيغ»، أضاعها بتوزيعها على الأصدقاء والفقراء في الشوارع، كان يسير يومياً في الشارع بآلاف الدولارات ويوزعها على المارة ثم يعود لمنزله، ظل يفعل هذا حتى استيقظ أحد الأيام مكتشفاً أنه أفلس تماماً. والآن «باول» في مصحة الأمراض العقلية، يخرج منها ويعاودها كل فترة زمنية، وكما يقول برنهارد كانت تلك الفترات الزمنية التي يقضيها «باول» خارج المصحة تقصر مع مرور الوقت.
يصف برنهارد صديقه «باول» بأنه فيلسوف مثل عمه تماماً، لكنه فيلسوف نشر جنونه ولم ينشر فلسفته، بينما عمه ليدفيغ مجنون نشر فلسفته ولم ينشر جنونه، ويتحدث برنهارد عن «باول» كأنه أسطورة في الذكاء والمعرفة والثقافة، فمثلاً معرفته بالأوبرا تفوق أي موسيقي آخر على الكوكب، فقد زار كل قاعات الأوبرا في العالم، واستمع إلى كل كبار الموسيقيين، وكان قادراً كما يصف على أن يتسبب في إنجاح عرض أوبرا أو إفشاله، لأنه كان دائماً أكثر الجماهير حماسةً، فلو أُعجب بعرض يكون أول المصفقين والمهللين في القاعة، ولو لم يعجبه يشجب ويسب ويحرِّض الجماهير ضد العرض.
الغريب في هذا الأمر أن تلك السلوكيات لم يكن لها علاقة أبداً بجودة عرض الأوبرا من عدمها، بل لها علاقة مباشرة بمزاج «باول» الشخصي وقتها، هذا المزاج العصبي المتغير على نحوٍ طريف وبائس للغاية.
لأن الموهوبين في الأرض دائماً غُرباء
يجلس برنهارد في مصحة أمراض الرئة، ويحاول الوصول إلى «باول» في مصحة الأمراض العقلية لكنه يفشل لأسباب صحية، ثم يُصاب بنوبة هلع بسبب تفكيره في أن «باول» من الممكن أن يحاول الوصول إليه في مصحته، ويبرر هذا الفزع بأن «باول» عندما يقابل شخصاً يحبه يحتضنه بشدة ويلتصق بصدره ويظل يبكي بشكل متواصل غير معقول، وبرنهارد لم يكن يحتمل ذلك منه أبداً.
يصف برنهارد مشكلات «باول» العقلية بأنها نتاج عدم تفريغ العبقرية الكامنة بعقله، فهو يعتقد أن كل العقول العبقرية لابد لها أن تُخرج ما في داخلها حتى لا تنفجر، الأمر الذي جعله يدعو «باول» لتدوين كل أفكاره في نهاية حياته وتسجيل ملاحظاته وفلسفته حول الحياة، وبالفعل استجاب «باول» للفكرة في البداية إلا أن صحته العقلية ومزاجه المتقلب لم يسعفانه لكتابة أكثر من 15 صفحة.
يحكي برنهارد في عذوبة شديدة عن الساعات الطويلة التي كان يقضيها مع «باول» يستمعان سوياً إلى مختلف أنواع الموسيقى، ساعات طوال دون كلمة واحدة إلى أن يقرر أحدهما الانصراف فيودّعه الآخر، تلك الساعات يعتبرها برنهارد أجمل ذكريات صداقته الغريبة بـ «باول»، ويحكي عن ساعات أخرى كانا يقضيانها في أحد الفنادق المعروفة بالنمسا يتفحصان المارّة جميعهم بعناية ويطلقون شتى أنواع التعليقات والنميمة عليهم، ويشيد برنهارد بملاحظات «باول» الذكية على البشر وقدرته اللا متناهية في رصد تفاصيل الآخرين.
برنهارد و«باول» يجتمعان في أشياء كثيرة جداً، ويختلفان في الكثير أيضاً، وهو ما عمَّق صداقتهما إلى أبعد حد، لكن الأمور كعادتها تزداد قتامة مع الوقت، ولأن الموهوبين في الأرض غُرباء دوماً، يحكي برنهارد عن أيام «باول» الأخيرة في حياته، حيث سكن في شقة متواضعة المستوى وقذرة معظم الوقت، صار عجوزاً لدرجة لا تُصدَّق، يمشي بصعوبة كبيرة وذهنه لم يكن في أفضل أحواله، ينفر منه الأصدقاء لأنه لم يعد مصدر الحكايات الأسطورية التي يجمعها من كل بلاد العالم، ولم يعد مصدراً للضحك والفكاهة كما عهدوا، أما عن علاقتهما ذلك الحين فالأمر أكثر حزناً من أن يُحتمل.
وجد برنهارد نفسه لا يستطيع الاقتراب من «باول»، رأى فيه تجسيداً كاملاً للموت الذي يخشاه، يراه في الشارع من بعيد، يظل يراقبه لكنه لا يتحرك إليه، يحاول تجنبه بأقصى ما يستطيع لكنه يعود إليه من حينٍ لآخر مبرراً غيابه بكثيرٍ من الأعذار الواهية.
كان على علمٍ بأن رحيله اقترب لكنه يشعر أن «باول» مات بالفعل، لا يستطيع الاقتراب من شبحِه أكثر، يصعب عليه أن يتحدث مع الميّت الذي كان يملأ الدنيا حماساً وحيوية، ويشعر برنهارد إزاء موقفه من «باول» بتأنيب الضمير. يرتجف وهو يتذكر أنه كان يتجنب صديق عمره عندما يراه، وأنه شبه تخلى عنه تماماً أواخر أيامه.
يقول برنهارد أنه يعلم كم هو شخص سيئ في المطلق، ويعترف أنه ربما لم يعرف صديقاً في حياته أفضل من «باول»، وأنا أظن أن إلهام هذا الكتاب الرئيسي كان نابعاً من شعور برنهارد بالذنب، رُبما شعر أنه لو حكى بصدق عن صديقه فقد يكفِّر عن قسوته في أيامه الأخيرة، وأظن أنه نجح في هذا.
رواية عن الفلسفة أم الصداقة؟
وخشيةً من استعطاف الآخرين، يتحرك برنهارد بسرعة من هذه الحكاية المؤثرة عن أيام «باول» الأخيرة إلى السخرية الذاتية الممزوجة بالغضب، يحكي عن مسرحيته «جماعة الصيد» وتعاقده مع واحدة من أشهر فرق المسرح لتمثيلها، ليتفاجأ يوم العرض أن الممثلين لم يفهموا كلمة واحدة من النص، وتعمّدوا إفشال العرض بتمثيلهم الرديء المُفتعل، وهنا يعود برنهارد لغضبه المعتاد من النمسا ومن الشهرة غير المستحقة للنجوم، من الحياة الأدبية المليئة بالمنافقين والمدعين، الذي عاش حياته كلها يتجنب حتى الاقتراب منهم.
من العسير أن أمنح صفة واحدة لهذا العمل الأدبي، فهو حاد ورقيق في الوقت نفسه، دافئ في أجزاء ومُخيف في أخرى، يحمل جرعات من الغضب كفيلة بتمزيق صفحاته ومع ذلك تشعر أحياناً كثيرة كأن برنهارد لا يحكي حكاية تخصه أو أنه غير متورط تماماً في حكايته الشخصية، تعاطفت كثيراً مع «باول» الغريب المجنون ضحية عاطفته الرهيبة وأسير عبقريته العقلية. حياة «باول» تؤكد أنه كلما كنت أكثر ذكاءً وأرق عاطفةً، كلما ازدادت معاناتك في الحياة. ومع سوداوية الرواية في بعض أجزائها إلا أنها لم تخل أبداً من طرافة وخفة ظل.
وأخيرًا أتساءل عمّا تتحدث عنه هذه الرواية بالتحديد؟ عن برنهارد أم «باول» أم الفلسفة أم الصداقة؟ وأظن أنها تتحدث عن هذا كله.
فقد اتخذ برنهارد من «باول» مرآة له، واعتبر نفسه مرآة لـ «باول»، كل منهما جزء من الآخر لا يكتمل بدونِه، حياة كل منهما ازدادت ثراءً بوجود الآخر، صداقة شديدة العُمق متعددة الطبقات، وكم كنت أتمنى أن أعرف ماذا كان يمكن أن يقول «باول» عن برنهارد وعن صداقتهما.
تعود كلمات سيد حجاب لتدور في رأسي ثانية دون توقف: