داخل جدران الجسد
وردت لفظة (الجولم) في التوراة- الإصحاح 129/16، ومعناها الحرفي؛«ناقص»، أو «عاجز»، أو «أبله»، المقصود به الكتلة الجسمانية التي تمنح الحياة نتيجة وضع كلمات مقدسة أو سحرية فوق رأسها.
وينحصر دوره كخادم أو عون للمهام الشاقة. لو انتبهتم لفيلم «سيد الخواتم»، ستجدونه قد استلهم من الفكرة، وجعل من (الجولم) قوامًا لجيوش (سورون) التي اجتاح بها الأرض الوسطى.
بعد سيد الخواتم بعقود، تحديدًا عام 1996م، عالج «فرانك هربرت» الفكرة بإضافة صبغة «خيال علمي» أوضح، فتغير الاسم من (جولم) إلى «راقصو الوجوه»؛ الرواية ذائعة الصيت. «راقصو الوجوه» يمتلكون نفس ملامحنا البشرية، وصار لهم لاحقًا القدرة على اكتساب ذكرياتنا كذلك، لكن لا إحساس ولا ولاء، تمامًا كالجولم.
بدأوا كمهرجين يستعملهم الأغنياء بغرض التسلية، ثم تطورت قدراتهم؛ مما دفع البعض لاستخدامهم في التجسس والاغتيالات قلة قليلة من المدربين هم من يستطيعون تمييزهم عن البشر الحقيقيين.
مد (ديفيد برين) الخط على استقامته عام 2002م، وقدم رائعته (بشر الأتون Kiln People)، وتحدث فيها عن شركة متقدمة، تصنع نسخا مطابقة من البشر تحمل نفس ذكرياتهم، وتقوم بدلًا منهم بالعمل اليومي، بل ويتم تلوين النسخ بحسب الغرض منها؛ الأخضر -مثلًا- مناسب للعمل المنزلي، والعاجي من أجل المتعة والإشباع الزوجي، أما النسخة البلاتين فتكاد تطابق البشر الحقيقيين، ويستخدمها علية القوم.
هكذا كتبت «ماري شيلي» عام 1817م، على لسان بطل روايتها الأشهر (فيكتور فرانكشتاين)، الذي تحمل الرواية لقبه.
وكما خمنتم، أسوقها كتمهيد لفصل يطأ أرضًا جديدة، أرض العالم المختبئ داخلنا. وعى الإنسان منذ فجر التاريخ على تلك الأوعية التي تحوي روحه، والتي عرفها باسم (الجسد). لقد لاحظ أن تلك الأوعية يأتي لها وقت وتنفد صلاحيتها، فكان أول ما جنح إليه خياله هو إيجاد طريقة لتفادي ذلك، أو بمعنى آخر حلم (الخلود).
تروي الأساطير أن أول باحث عن الخلود في البشرية هو (جلجاميش)، ملك (أوروك) الذي خاض الأهوال في رحلته إلى أبو البشر (أوتو- نبشتم)؛ ليعلم منه سر الحياة الأبدية.
لم يفوت «سويفت» مسألة الخلود بدوره، خلال عمله الأشهر (رحلات جليفر) عام 1726م، من قرأها سيتذكر –بقليل من الجهد-، الخالدين ذوي الوحمة الحمراء، آه، تلك التي تقع فوق حاجبهم الأيسر.
حتى العملاق الفرنسي «بلزاك» ناقش المسألة عام 1822م، بشكل أقرب للخيال العلمي الذي نعرفه، فتخوض روايته (المئويThe Centenarian) في فكرة غريبة، لا أجد اختصارا وافيا لها، أكثر من مما قاله «دانيال شاتلاين» و«جورج سلوسر» عنها في مقال مشترك لهما بمجلة (نيتشر)، خصوصًا عند وضعهما الرواية في كفة المقارنة مع (فرانكشتاين):
أما الفرنسي الآخر «إدمون أباوت» ففكر في المسألة عام 1861م بتقنية مختلفة، وذلك عبر صفحات (الرجل ذو الأذن المكسورة)، والتي تحولت إلى فيلم درامي عام 1934م. هذه المرة يوجد مريض على شفا الموت، فتم تجميد جسده مؤقتًا، وعندما أيقظوه، صار عليه تحمل رحلة الاغتراب، في زمان ومكان مغايرين، ومحاولة البحث عمن تبقى من عائلته.
الخلود، التجميد البشري، الشباب الدائم، تعثرت الأحلام السابقة على التحقق؛ مما جعل الإنسان يغير البوصلة إلى بدائل أكثر منطقية، فبدلًا من محاولة إيقاف موت الخلايا، ماذا عن السعي لتعديلها؟؛ أي باختصار ما يشيع حاليًا تحت مسمى «الهندسة الرواثية».
وكما تعودنا، نجد أن العلماء ليسوا هم أصحاب فى هذا المصطلح، بل استوردوه جاهزًا من العالم الساحر الذي يسبقهم بخطوة (الخيال العلمي).
أعلنت لفظة (هندسة وراثية) عن نفسها -لأول مرة- عبر صفحات (جزيرة التنين)، العمل الصادر عام1951 م، بقلم الأمريكي (جاك ويليامسون)، وإن تأثرت بفلسفة «نيتشه» إلى حد ما، فاستعرضت مستقبلا خياليا تطورت فيه علوم الوراثة؛ مما قسّم الإنسانية لنوعيين؛ بشر جنوا قطوفها فصاروا أقوى وأذكى وأسرع، بينما بقي الآخرون على حالهم.وبين أولئك وهؤلاء، يدور الصراع الوجودي الفاصل.
تنويه:
صحيح أن «ويليامسون» هو مبتكر المصطلح، لكن هذا لا ينفي جهد آخرين، سبقوه بتلميحات في نفس الاتجاه؛ لدينا عام 1896م «هربرت جورج ويلز» في روايته (جزيرة الدكتور مورو)، د. (مورو)، العالم المجنون الذي يحكم الجزيرة، وقام بتجارب لتحويل حيواناتها إلى مسوخ أقرب للبشر.
نصب د. (مورو) نفسه فيما يشبه «الإله»، على حيوانات الجزيرة الذين منحهم صفات شبه عاقلة.
من التجارب السباقة أيضًا؛ العالم الذي صاغه «ألدوس هكسلى» في تحفته الخالدة «عالم جديد شجاع Brave New World»، التي تنبأ فيها بأطفال الأنابيب.
نهل «كونديرا سميث» من نفس النهر، وسطر عام 1950م تحفته القصيرة (Haberman)، التي تطرقت إلى رواد الفضاء المستقبليين، وكيف يتم هندسة أجسادهم، للتغلب على العدو الأول للرحلات الطويلة؛ الألم!
يوجد عمل آخر قرأت عنه في طفولتي، و-من وقتها- ظلت فكرته عالقة في ذهني، عنوانه (رحلة رائعة)، وهو بالفعل يستحق تلك التسمية بجدارة. بدأت الرحلة بمحاولة اغتيال فاشلة، طالت رجلا مهما أمنيًا، وبعد فشل جميع الطرق التقليدية في علاجه، اضطر ستة متخصصين إلى استقلال الغواصة (بروتيوس)؛ ليتم تقليصهم إلى حجم الذرة، ثم حقنهم داخل جسد المريض؛ لينطلقوا في مهمة لعلاجه من الداخل.
يقدم العمل تلميحات مبكرة عن الجراحات الميكرسكوبية. وحاليًا، يحلم العلماء بما هو أبعد، برجل آلي في حجم النانو، يؤدي دورا مشابها لما قامت به (بروتيوس) في القصة.
موعدنا التالي عام 1986م، مع (باب في المحيط) لـ «جون سلونسكي»، وفكرة مبتكرة أخرى عن كوكب (شورا) المثالي/ المسالم/ الذي تحيا فيه إناث مائيات فقط، بلا رجال على الإطلاق. أعلم أن السؤال المنطقي الذي يطرأ: كيف يتناسلون إذن؟،
في الواقع، هذا هو الخيال العلمي الخلوي في الموضوع، يمكن القول إنهن يستخدمن نوعا من التوالد العذري، ثم تبدأ ذورة الأحداث، عندما اصطدم (شورا) مع قوة محاربة خارجية، وبدأ الصدام العسكري.
بعد أن استفضنا في ذكر الإرهاصات الأدبية الخيالية، دعونا نتابع تطور فهمنا «للجسد» على أرض الواقع.
اقترب الكثيرون من محراب الحمض النووى (DNA) فأزاحوا الستار عنه قليلًا، إلا أن أول من مد قدميه بخطوة إلى الداخل، هما «جيمس واطسون» و«فرانسيس كريك» عام 1953م، بأن كشفا عن شكل جزيء الدنا، وتكوينه الحلزوني المزدوج. الطريف، أن كليهما لم يجر تجربة معملية واحدة، بل اعتمدا على تحليل ما توصل إليه الباحثون السابقون، ومن ثم تجميع الصورة المبعثرة؛ مما أثمر عن دخولهما التاريخ من أوسع أبوابه، ونيلهما (نوبل) سويًا عام 1962م، ليرتبطا اسماهما إلى الأبد. وفي ذلك يروي الأول حكاية باسمة أخرى؛ عندما قدم نفسه لأحد العلماء الكبار يلتقيه لأول مرة، فرد الآخر مندهشًا: «كنت أظن أن (واطسون وكريك) هما اسم لشخص واحد!».
يقول متخصص الوراثة الجزيئية د. طارق قابيل، إن الجرام الواحد من الدنا يختزن معلومات بقدر ما يختزنه ألف مليار قرص كومبيوتر.
أما لو حاولنا شرح تركيب الدنا نفسه، نقول ببساطة إنه: يتكون من (جزيء سكر منزوع الأكسجين، مجموعة من الفوسفات، قاعدة نيتروجينية)، ولا يخرج حمض أي كائن حي عن هذه المجموعة من العناصر، سواء كان نملة أو فيلا.
يأخذ شكل شريطين ملفوفين حول بعضهما بشكل لولبي، يمثلان الدفتر الذي سُطر فيه أغلب ملامحنا ومصيرنا.
أي الأمراض حملناها من آبائنا وسنورثها لأبنائنا؟
ما الأشياء التي تصيبنا بالحساسية؟!، ..إلخ.
ونظرًا لأهمية الشريطين، فقد حفظهما الله في داخل حصن حصين، ألا وهو نواة كل خلية من أجسامنا، وبفضل التكنولجيا الحديثة حاليًا، يمكن فصل طرفي هذا اللولب، وقص أو ربط أحدهما من موضع لآخر.
عام 1976م اتسع أفق المجال، لدرجة تأسيس أول شركة متخصصة في الهندسة الوراثية، وأطلق عليها مؤسسوها «هيربرت بوير» و«روبرت سوانسون» اسم شركة (غينيتيك). لم يتأخر الصرح الجديد في إثبات تميزه على أرض الواقع، فأنتج في ظرف عامين أنسولين بشريا مهندسا جينيًا.
أنهى العلماء نسخة أولية من خريطة الجينوم سنة 2001م، ثم وصلوا إلى كلمة (النهاية) في المشروع عام 2007م.
تقول (كاثرين براوين) عن هذه اللحظة التاريخية:
أضيف: أن الثمار المتوقعة من الإنجاز أكثر من أن يمكن حصرها، إذ يشكل ثورة في العديد من المجالات، ما بين استنبات الأدوية، الأعضاء التعويضية، الأغذية والزراعة، وحتى نعي تأثيره في الأخيرة تحديدًا، يكفي القول إن عام 2009م وحده شهد زراعة 11 محصولا مُعدلا وراثيًا، بـ 25 دولة.
فيما بعد تعقد المجال أكثر، وتحول إلى علم قائم بذاته، يسمونه بالتكنولجية التخليقية. صحيح أنه لا يزال يحبو في أيامه الأولى، إلا أنه حقق بعض الإنجازات المذهلة على مستوى الكائنات وحيدة الخلية.
أذكر أنني قرأت عنه ملفًا مفصلًا بتلك الدورية التي رافقتني أعوامًا طويلة بداية شبابي، وأعني مجلة (العلم)، الصادرة عن المركز القومي للبحوث. تطرق الملف إلى تعريف التكنولوجيا التخليقية بأنها تصميم وبناء أجزاء بيولوجية جديدة، أو إعادة تصميم النظم البيولجية القائمة؛ مما سيمكننا من إنتاج وتطوير الحيوانات الأليفة التي نربيها، والنباتات التي نزرعها، حتى أجهزة الكمبيوتر؟
وتقول عنه د.(بام سيلفر) إنه واعد فى ايجاد بعض أشكال الحياة الجديدة، وتعطي مثال: