«أخضر يابس»: عن جدران الروح التي لم تعد تحتمل
عندما نقترب من الذروة الافتراضية للفيلم – حيث لا يوجد حبكة يمكن اعتبار نهايتها هي الذروة بالمفهوم الكلاسيكي – تفشل محاولات «إيمان» لدق مسمار في جدران البيت أعلى النوافذ لكي تعلق الستائر الجديدة التي اشترتها، وذلك في محاولة لإعداد الشقة كي تظهر بشكل لائق في عيون أهل عريس أختها الصغرى، حيث يتلخص زمن الفيلم في الأيام القليلة قبل هذه الزيارة.
هذا الفشل في فعل سلس وتقليدي مع اللقطات القريبة التي يقدمها لنا المخرج للثقوب المترهلة في الجدار القديم يجعلنا متأهبين لفشل الزيارة التي لا نراها – والتي ربما حدثت وربما لم تحدث أبدًا – بل يجعل من إقدام إيمان على هتك عذريتها بإصبعها بعد أن يبلغها الطبيب أن أيام خصوبتها قد ولت رغم عمر الشباب الذي لا تزال فيه، هذا الفشل في دق المسمار مضاف إليه عملية الهتك بالإصبع – الذي يشبه مسمارًا في تلك اللقطة – يجعلنا أمام إحالة مكتنزة الدلالة تربط ما بين جسد إيمان الذي فقد خصوبته، وبين الجدران المتهالكة للبيت من ناحية، وبين المسمار الذي تفشل إيمان في دقه بالجدران، وبين يأسها من أن يجتاز رحمها ذات يوم (مسمار رجل) من ناحية أخرى، فتقرر في النهاية أن تدق مسمارًا أخيرًا في نعش جسدها الذي تيبس قبل الأوان.
هذه الإحالة وتلك الدلالات المكثفة والمزدحمة والمتداخلة إلى حد التشوش في بعض الأحيان، هي جوهر اللغة السينمائية التي يدرب المخرج الشاب «محمد حماد» نفسه عليها عبر تجربته الطويلة الأولى «أخضر يابس» والذي عرض ضمن فعاليات مسابقة الأفلام الطويلة لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الأولى (20-26 فبراير) في سياق تنافسي براق ضم اثني عشر فيلمًا من عشر دول.
حمولة الأسئلة
يبدأ حماد فيلمه بسؤال درامي قصير المدى وماكر؛ قصير المدى لأن إجابته تكاد ترى بالعين المجردة حتى قبل الإجابة عنه في النهاية، وماكر لأنه يقودنا إلى السؤال الأكبر الذي يجب علينا أن نحمله معنا خارج الشاشة بعد أن ينتهي الفيلم. يدور هذا السؤال حول إذا ما كانت إيمان – التي نراها تجري فحصًا نسائيًا لدى الطبيب – تعاني من اشتباه في مرض خبيث يرقد في رحمها بعد انقطاع دورتها الشهرية لأكثر من شهرين.
أما المكر الدرامي فهو أننا بعد أن نجتاز رحلة البحث القصيرة عن واحد من أعمامها الثلاثة لكي يستقبل أهل عريس أختها الصغرى – وهي الرحلة التي تبوء بالفشل في كل مرة لسبب اجتماعي وإنساني مختلف – نتوقع أن إيمان لا تعاني من أي مرض عضوي، وإن توقف جسدها عن إفراز خصوبته سببه الحقيقي تلك الروح (اليابسة) التي أصبحت تختنق داخلها كنتيجة طبيعية لحالة الانفصال الإنساني والنفسي والعاطفي التي تعيشها إيمان وسط دائرتها الاجتماعية والمهنية الضيقة، حيث تمثل إيمان نموذجًا لشريحة كاملة من المجتمع الذي تتيبس روحه ببطء وتموت خصوبته بالتدريج، مع غياب عناصر الود والقرب والحميمية والشغف والحلم والتحقق.
إن السؤال الأكبر الذي يحمله معه المتلقي بعد نهاية الفيلم هو؛ لماذا تيبس جسد إيمان في هذه السن المبكرة؟ وهو سؤال لا يبحث عن إجابة طبية أو عضوية بل عن إجابة اجتماعية وشعورية ونفسية بالأساس.
بعد الحكايات
تنسحب الحكاية في فيلم حماد لصالح التفاصيل، تبدو الحكاية في الخارج، خارج الكادر أو خارج الفيلم كله، ربما لأنها مكررة أو أن الفيلم ليس معنيًا بها بقدر ما يعنيه تجلياتها النفسية والشعورية ثقيلة الوطأة، مستحكمة النفوذ على ملامح وحركة الشخصية الرئيسية «إيمان»، وحركة الدائرة الصغيرة التي تتلولب فيها (أختها اللحوحة – عمها المادي الذي يرفض أن يؤدي دورًا طبيعيًا كرجل البيت في غياب أبويها – ابن عمها الآخر الذي نتلمس طرفًا من حكاية حب فاشلة بينهما عبر تفصيلة وضع إيمان للميكاج وهي ذاهبة لزيارتهم وهي المرة الوحيدة التي تقدم فيها على تلوين وجهها بمسحة غير الكآبة التي تعلوه طوال الوقت – زميلها في العمل الذي يبدو أقرب للآلة فكل مشاهده عبارة عن عمل متواصل في محل الحلويات كأنه روبوت).
لا يحكي حماد حكاية هنا، وكأنه يقول لنا هذا ما يحدث بعد الحكايات، ولأن ما بعد الحكاية هو ما يشغله فإن السرد يتخذ من وسائل أخرى غير الأحداث، والعقد، والذرى، أسلوبًا له في الحكي.
هذا فيلم من الصعب أن تحكيه لأحدهم لأنه مخبأ في الصورة، فكيف يمكن أن تحكي العلاقة المتناقضة بين اللقطة الواسعة لشقة إيمان وأختها، والتي تبدو على قدر من التواضع والجفاف والبؤس النسبي ببلاطها العاري من السجاد، ونوافذها التي بلا ستائر، وبين نفس حجم اللقطة تقريبًا التي تصور شقة العم الثري بطاقم الصالون المذهب، والسجاد الأنيق، وبالطبع الستائر البيضاء التي يطيرها الهواء برهافة مصطنعة، بينما يدخن العم سيجارته بعد أن أنهى رفضه القاطع لحضور جلسة استقبال العريس، وصمته الراغب في أن تستأذن إيمان لتنهي حضورًا غير مرغوب فيه.
هذا نوع من الحكي يحتاج إلى وصف تفصيلي لكي يدرك المتلقي كيف عبر المخرج عن العلاقة -أو اللاعلاقة- ما بين العالمين، وبالتدريج تصبح العلاقات منقطعة الصلة – مثل العلاقة مع العم المسافر الذي ليس لديه متسع من الوقت لتأجيل سفره من أجل حضور الزيارة – هي القاعدة التي يؤسس عليها المخرج أسباب اليبوس وخيابة الروح.
مترو، وسلحفاة، وستائر
يفرض تلقي الأفلام التي لا تحتوي على حكايات معلنة على المشاهد، أن يحفز من حساسيته البصرية والشعورية تجاه التفاصيل، فلكل سياق سردي مفاتيحه الخاصة، وإذا لم تكن تلك المفاتيح تكمن في الحكاية فهي بلا شك تكمن في سياق آخر ليس من الصعب العثور عليه، من بين هذه السياقات أن يصبح لدينا على سبيل المثال تكرار لعناصر بصرية ترتبط فيما بينها بالشخصيات وبحركتها الاجتماعية والنفسية داخليًا وخارجيًا، وبالتالي فإن ظهور تلك العناصر أو تكرارها في مشاهد مختلفة وارتباط هذا الظهور «مونتاجيًا» بما قبلها وما بعدها، هو ما يقدم للمشاهد مفاتيح التلقي الخاصة بالفيلم وبالتالي تنفتح أمامه عوالم الأسئلة.
ثمة ثلاثة عناصر بصرية تتكرر بشكل لافت في أخضر يابس، وهي بالمناسبة عناصر تعتبر ابنة شرعية لبيئة شخصيات الفيلم وليست دخيلة عليها أو مقحمة الموضع، وهي عناصر المترو – الأنفاق والسطحي – والسلحفاة التي تربيها إيمان، والستائر التي يتكرر توظيف دلالتها الاجتماعية والنفسية.
وتجدر الإشارة إلى أن الحكم على مثل هذه العناصر بأنها مفاتيح للتلقي يكمن في ارتباط تلك العناصر بزمن الفيلم وإيقاعه الداخلي، بمعنى أننا لا نستطيع أن نتبين مدى تأثير تلك العناصر في عملية الحكي إلا من خلال تكرار ظهور هذه العناصر عبر مواضع زمنية مختلفة وارتباط هذا الظهور في كل مرة بدلالة أو بتأكيد دلالة معينة تنضم إلى مثيلاتها للوصول في النهاية لبنية موحدة هي التي تشكل بدن الفيلم.
أول هذه العناصر هو «مترو الأنفاق»، و«مترو مصر الجديدة»، فإيمان وأختها تقيمان في واحدة من البنايات الملاصقة لشريط المترو، وإيمان تستخدم المترو في الوصول إلى عملها أو قضاء مشاويرها – وهي تفصيلة تخص وضعها الاقتصادي والاجتماعي – وبالتالي فإن المترو ليس دخيلاً على البيئة، وهو أيضًا مع الشعور بعنوسة إيمان وكآبتها ووحدتها، يقدم لنا دلالة (القطر الفائت) وهي دلالة شعبوية معروفة، فإيمان يبدو أن قطارات كثيرة تفوتها، قطار الزواج وقطار الحب وقطار النجاح المهني (فهي تعمل مجرد بائعة في محل حلويات أي وظيفة بلا مستقبل).
ثمة لقطات كثيرة لمترو الأنفاق وهو يمر عبر بيت إيمان ويجتازها في الشارع، يمر بسرعة ملفتة تجعل من بطء مترو مصر الجديدة الذي تركبه إيمان ويبدو قديمًا متهالكًا – مثل حوائط البيت – بطء درامي الغرض منه بيان مدى بؤس الوضع الحياتي والشعوري لتلك الفتاة التي ربما لن تصل إلى نهاية الخط أبدًا.
اللافت أيضًا أن حركة إيمان مرتبطة بمترو مصر الجديدة المتهالك وليس بمترو الأنفاق السريع، لا نراها تركبه أبدًا، هو فقط يمر من أمامها ويجتازها دون أن يلتفت لها، وتنضم إليه بحكم البيئة المكانية كباري عبور المشاة الحديدية التي تجتازها إيمان يوميًا للوصول إلى بيتها، وكأنها محاولتها لعبور أزمة قطار العمر الذي يمضي والحياة التي لا تلتفت إليها، بل إنها حين يضيق بها الحال وتيأس من قدوم أي من أعمامها لحضور جلسة استقبال العريس، تقف فوق أحد الكباري وكأنها تبحث عن حل أو تراودها فكرة الانتحار، أو اليأس من العبور تجاه الجهة الأخرى التي لا تحتوي على حلول، أسئلة كثيرة يكثفها وقوف إيمان فوق الكوبري، لا نسمعها ولكننا نتمثلها بقدر شعورنا بما تعانيه الشخصية من تيبس وخفوت.
العنصر الثاني، هو «السلحفاة» التي تربيها إيمان في شقتها والتي تكاد تكون معادلاً بصريًا وشعريًا لها، وهي عنصر مباشر جدًا في دلالته يكاد يصل إلى حد الفجاجة في نهاية الفيلم عندما تكتشف إيمان أنها لا تعاني من أية أورام وأن انقطاع دورتها هو حالة مرضية استثنائية تصيب الكثير من الفتيات في مثل عمرها، حيث يقطع المخرج اللقطة من عيادة الطبيب إلى لقطة قريبة للسلحفاة –التي هي إيمان نفسها – وقد انقلبت على ظهرها وتحاول أن تعود إلى وضعها الطبيعي ولكنها تفشل رغم كل المحاولات، هنا يبدو عدم قدرة المخرج على الحيلولة دون اجتياز الخط الرفيع بين الشعر والمباشرة، وبين اللغة البصرية كحامل جمالي وبين التشبيه التقليدي ذي الدلالة المستهلكة.
أما العنصر الثالث، فهو «الستائر»، وهو العنصر الذي يبدأ معنا من بداية الفيلم في اللقطات الواسعة للشقة والتي تكشف عدم وجود ستائر على النوافذ ثم حديث الأخت الصغرى عن ضرورة تركيبها كي تبدو الشقة (عليها القيمة)، ثم شراء إيمان للستائر وفشلها في تعليقها –الجدران المتهالكة في مقابل الجسد اليابس فاقد الخصوبة– وجود الستائر بأشكال مختلفة في منزل العم الأناني، والستائر المسدلة في هدوء في بيت العم المريض.
إن توظيف عنصر الستائر – والكلمة مأخوذة من فعل الستر المرتبط في الثقافة الشعبية بتزويج البنات – يصل إلى ذروته في الفيلم عندما تفشل إيمان في تعليقها بينما يصورها المخرج من خارج النافذة التي تكشف الشقة، كأنه يربط ما بين هذا الفشل وبين انكشاف البيت لمن في الخارج، وكأن غياب المشاعر الدافئة والأسرية والحميمية من حياة إيمان يرتبط بفشلها في أن يستر نوافذ بيتها ستائر تحجب التلصص والنظر إلى داخل البيت.
الماء والخضرة ووجه إيمان
يمكن أيضًا إضافة عناصر لم تتكرر كثيرًا، ولكن حضورها البصري كان واضحًا بشكل كبير مثل عنصر النباتات التي تربيها إيمان في الشقة وتحرص على أن ترويها، وهو ما يتوازى مع علاقة إيمان بالماء حيث تتكرر لقطات الوضوء وغسيل الوجه الذي تقوم به إيمان بعد كل فشل تواجهه، وكأنها بهذا الماء الذي تسكبه على وجهها تحاول أن تسقي روحها خشية التيبس والذبول تمامًا كما تسقي نباتاتها.
يبدو وجه إيمان رغم كل الماء الذي ينسكب عليه في لقطات كثيرة مكررة، وجهًا جامدًا وكأنه ذكرى لوجه وليس وجهًا حقيقيًا – قدمت الدور الممثلة الشابة «هبة علي» – حيث لا تضع إيمان أي مساحيق باستثناء المشهد الذي أشرنا له عندما أراد المخرج للشخصية أن تبدي اهتمامًا ما بابن عمها يعكس ويكثف تاريخ العلاقة بينهما، مضاف إليه بالطبع مشهد الدبلة التي تحتفظ بها وسط أشيائها الخاصة والقيمة.
يخلو الفيلم من الابتسام، من الضحك، ومن المنطق الطبيعي في التعامل بين الشخصيات، وهو مأخذ سلبي من الصعب تجاوزه. يقول المخرج الفرنسي «روبير بريسون» إن من أزمات البناء الدرامي والأداء التمثيلي أن الممثلين من غير أن تنقصهم الطبيعة تنقصهم الطبيعية، أي ربما تبدو الشخصيات مرسومة بشكل متقن وبملامح درامية ونفسية متينة لكن الأداء – والمسؤول الأول عنه هو المخرج بالطبع – لا يبدو طبيعيًا أو أن العلاقات بين الشخصيات، والتي تتجلى في أبسط الأفعال كالمصافحة أو النظر أو تبادل الحوار، تبدو تمثيلية أكثر من اللازم، أو كما تجلت في «أخضر يابس» تعلوها مسحة كآبة مفتعلة تتجاوز كآبة السياق الحياتي للشخصيات نفسها.
حتى لو اعتبرنا أن تلك القطيعة مقصودة بين الشخصيات على مستوى النظرات أو الحوار المبتور، حتى مع كل هذا يبدو الأداء التمثيلي مفتقدًا لدرجة من الطبيعية كان من الممكن أن تقلل كثيرًا من الكآبة المفرطة التي كست وجه الفيلم بأكمله وليس وجه إيمان فقط.
مصير أم نبوءة
قبل اللقطة الأخيرة التي نرى فيها إيمان جالسة كعادتها في مترو مصر الجديدة، وكأن رحلتها مع اليأس واليبوس سوف تستمر إلى ما لانهاية، تبدو ذروة الفيلم الأساسية حين نرى في لقطة واسعة حجرتي الأختين يفصلهما جدار واحد، حيث تغلق إيمان النافذة وتظلم الحجرة وتغلق الباب وكأنها استسلمت لمستقبلها الكئيب الذي لن يطأه رجل، بينما أختها الصغرى التي تبدو أكثر إقبالاً على الحياة، تجلس كي تصبغ أصابع أقدامها، لكنها أيضًا بعد دقيقة واحدة تغلق هي الأخرى النافذة وتظلم الحجرة وتغلق الباب، وكأنها سوف تواجه هي الأخرى نفس المصير ذات يوم – خاصة وأننا لم نشاهد الزيارة المنتظرة ولا ندري إن كانت قد حدثت أم لا – ليصبح هذا المشهد أقرب للنبوءة أو تمثل المصير الخاص بالأختين وبالتالي الإزاحة باتجاه شرائح كاملة ممن يعيشون في ظروف شعورية ونفسية وإنسانية مماثلة.
لكن تجدر الإشارة إلى أن المصير الذي اختارته إيمان لنفسها بهتك عذريتها بهذه الصورة الفجة، ورغم تماهيها مع عنصر الفشل في دق المسمار وانقطاع دم الحيض واستبداله بدم العذرية على الإصبع، كل هذا لم يمنع تلك الحالة من التشوش التي صبغت النهاية خاصة مع تساؤل المتلقي عن الجدوى أو السبب المنطقي أو الطبيعي لما أقدمت عليه إيمان!
فهل هي تعاقب جسدها الذي توقف بحكم تيبس الروح عن أن يكون مصدرًا للخصوبة؟ أم أن المخرج أفلت منه أسلوب السرد فتحول بالفيلم من التعبير بالدلالة، إلى الرمز المباشر والفج في صياغته لرد فعل إيمان على انقطاع طمثها؟ ففي النهاية ليس الفيلم عن تيبس الجسد، ولكن عن تيبس الروح، وبالتالي لا معنى من عقاب الجسد بهذا الشكل وبتلك الصورة الفجة طالما أن الروح هي المحور الأساسي، بينما الجسد مجرد إحالة مادية لما تعانيه الروح من ذبول.