العجلة تعود للوراء: الانسحاب من سوريا والتفاهم مع أردوغان
جاء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رافعًا شعار «لا شيء بدون مقابل». اعتقد أن سوريا والشرق الأوسط برمته ما هو إلا ساحة لاستنزاف الأمريكيين، فقد كلفتهم المنطقة 7 تريليونات دولار منذ دخلوها في 2001.
ومن ثَمَّ خرج على الجميع يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، معلنًا سحب القوات الأمريكية بالكامل من سوريا. علل ذلك بانتهاء مهمة بلاده في سوريا وهي الحرب على داعش، لينهي بذلك حقبة من التخبط الأمريكي إزاء ما يجري هناك، فمنذ دخلت واشنطن وهي لا تعلم فيما دخلت وعن ماذا تبحث.
تركيا: سر خروج ترامب من سوريا
تعد تركيا إحدى الدول الرئيسية المؤثرة والمتأثرة في الوقت ذاته بما يجري في سوريا. منذ البداية لعبت دورًا كبيرًا في تسليح المعارضة سواء المعتدلة أو المتطرفة، استطاعت اللعب مع الجميع، في البدء كانت أقرب لحلف واشنطن، لكن عقب الانقلاب العسكري الفاشل على الرئيس رجب طيب أردوغان في يوليو/ تموز 2016 تغيرت الأمور، أصبح أردوغان أقرب لحلف روسيا الداعم للنظام السوري إلى جانب إيران، وفي كلتا الحالتين ظل أردوغان محافظًا على علاقاته بجميع الأطراف.
أهم ما يقلق أردوغان في سوريا، قيام دولة كردية تساعد على انفصال أكراد تركيا بمساعدة الدويلة الوليدة إن كُتب لها النجاح. حاول أردوغان إيقاف الأمر، سواء عبر دعم جماعات مسلحة تستهدف الجماعات الكردية أمثال «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) ووحدات حماية الشعب الكردية، إلا أن وكلاءه خذلوه سواء لضعفهم أو نتيجة لقوة الدعم الذي حصل عليه الكرد من واشنطن وحلفائها، حتى أصبحوا يسيطرون على 27% من مساحة سوريا، فيما يسيطر النظام على حوالي 60% من الأراضي، أما المعارضة فلا تستحوذ إلا على نسبة لا تتعدى 10%، وهي في حكم الميتة، بخلاف جيوب أخيرة لداعش لا تتعدى مساحة اننتشارها 3%.
عقب محاولة الانقلاب عليه أدرك أدروغان أنه وجب التلويح بورقة روسيا في وجه واشنطن والاتحاد الأوروبي الضالع في المؤامرة، وبالفعل جاءت النتائج سريعًا في سوريا، ليسلم أردوغان محافظة حلب (قلب المعارضة والثورة) لروسيا وللأسد، تلاها التخلي تدريجيًّا عن المعارضة سياسيًّا وعسكريًّا،مقابل تنفيذه عملية «درع الفرات»، في أغسطس/ آب 2016 وحتى مارس/ آذار 2017، التي أطلقها لطرد الجماعات الكردية من المدن الحدودية، ثم أتبعها لاحقًا بعملية غصن الزيتون في يناير/كانون الثاني 2018 لطرد الأكراد من عفرين، كل هذا كان بضوء أخضر روسي، فمن مصلحة موسكو تقويض هذه الدويلة التي ستكون ذراع واشنطن في تهديد حليفها الأسد وكذلك إيران.
إذن حصل أردوغان مؤقتًا على مرامه في سوريا، لكن بقيت شوكة الأكراد قوية، لم يستطع التقدم أكثر من ذلك. استعان بورقة أخرى، وهي السلاح، مستغلًا رفض الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي منحه منظومة الدفاع الجوي باتريوت منذ سنوات، فاتجه إلى روسيا وطلب منها منظومة إس 400، التي لن تمثل فقط تهديدًا ماليًّا لمبيعات واشنطن من الأسلحة، إنما تهديدًا استراتيجيًّا.
فهذه المنظومة قادرة على اختراق منظومات الناتو الذي تعد تركيا عضوًا فاعلًا فيه وثاني أكبر مموليه، بخلاف خسارة واشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي دولة حيوية عملت منذ عقود وكيلًا لهم، والأسوأ من ذلك أن يحصل خصمهم روسيا على هذا الوكيل مجانًا.
إذن ماذا يرضي أردوغان ليعود إلى حظيرة واشنطن وحلفائها، أو على الأقل لا ينقلب عليهم؟
إنها سوريا التي لطالما أنهكت الجميع، جاء الإعلان سريعًا من قبل ترامب عن انسحاب القوات الأمريكية بالكامل من سوريا، خلال فترة تمتد من 60 يومًا إلى 100 يوم، مقدمًا هدية الكريسماس لأردوغان الذي كشر عن أنيابه وأعلن عن اعتزام بلاده خوض معركة ثالثة في الشمال السوري ضد الجيوب الكردية، الحليفة لواشنطن.
كانت القوات الأمريكية منتشرة في المنطقة الممتدة من «المبروكة» شمال غربي الحسكة إلى «التايهة» جنوب شرق مدينة منبج، أنشأت حوالي 14 قاعدة عسكرية، وهذه المنطقة خاضعة لسيطرة الأكراد. جاء التمركز هنا بحجة مواجهة داعش، إلا أن الأمر لم يكن كذلك تمامًا، فهذه القوات كانت تقدم الدعم العسكري المباشر والتدريب للجماعات الكردية، وكانت دائمًا ما تحميها من ضربات النظام السوري وشركائه، وكذلك منعت تركيا من الاقتراب منها.
الآن بعد إعلان ترامب الانسحاب بات الأكراد مكشوفي الظهر، اعتبروا القرار «طعنة في القلب»، فقد أصبح الطريق سهلًا أمام أردوغان لينقض عليهم، أو سيفعل النظام السوري لاحقًا مهما طال الأمر به أو قصر، وقد سبق هذا القرار بالفعل تحركات عسكرية تركية للحشد ضد الجماعات الكردية بما يعني أن الأمر كان متفقًا عليه، لكن أعلن عنه في الوقت الملائم، ويبدو أن الصفقة تمت منذ إفراج تركيا في أكتوبر/ تشرين أول 2018 عن القس الأمريكي المتهم بالتجسس أندرو برانسون، إرضاءً لغرور ترامب الذي أعطاهم شيئًا لا يقدر بثمن، وهو التخلي عن الأكراد، وهذا المقابل أفضل بكثير من الحصول على رأس خصمه فتح الله جولن المقيم لدى واشنطن وترفض تسليمه.
الصفقة الأخرى التي منحها ترامب أردوغان هي موافقة واشنطن على تسليم أنقرة منظومة باتريوت في اليوم ذاته الذي أعلن فيه ترامب انسحابه من سوريا، الأمر الذي يعني أن العلاقات بين الطرفين قد تعود كما كانت، وصفقة الباتريوت هذه يبدو أن القرار فيها ليس أمريكيًّا خالصًا، إنما هناك تدخل أوروبي، فالاتحاد الأوروبي يعيش حاليًا أسوأ أيامه ودخل في طور التفكك، ولن يقدر على خسارة وكيل مهم كتركيا، خاصة إن ظفر بها عدوهم الروسي فلاديمير بوتين.
إذن قبل أردوغان «عرضًا لا يمكنه رفضه»، وهو إنهاء قيام دولة كردية في سوريا، والاعتراف به حليفًا مهمًا لأمريكا وأوروبا، وذلك عبر منحه منظومة الباتريوت، التي طلبها منذ عام 2013، مقابل 3.5 مليار دولار، ولم يحصل عليها حتى اليوم، ووُعد بها مرارًا وفي كل مرة يخذلونه، فسبق أن تعاقد مع بكين على منظومة منافسة، ليرفض الناتو الأمر خوفًا من اختراق التنين الصيني له،استجاب أردوغان لمخاوفهم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 وألغى الاتفاق الذي بلغت قيمته 3.4 مليار دولار مع الصين، إلا أنهم خدعوه ولم يمنحوه ما أراد ليعود هذه المرة من بوابة موسكو.
إذا حدث وتمت صفقتا الأكراد والباتريوت، فهذا يعني عمليًّا بدء انفكاك أنقرة عن موسكو، فدائمًا ما كانت علاقتهما وقتية وليست استراتيجية، تركيا تعلم أن ما ستحصل عليه من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يفوق ما لدى موسكو، كذلك يعلم الغرب أن تركيا في جانبهم أفضل بكثير من أن تكون خصمهم، كلاهما يحتاج للآخر، ولن يمكن للغرب التفريط في تركيا ما لم يوجد من يقوم بمهامها أو تغير النظام فيها كما حاولوا وفشلوا في 2015.
هل يتراجع ترامب عن قراره؟
اعتراضًا على خروج ترامب من سوريا، قدم وزير دفاعه جيمس ماتيس استقالته، مثلما اعترض الجمهوريون من قبل على قرار أوباما بالانسحاب من العراق، رغم اختلاف الحالتين، في العراق واشنطن هي من احتلتها عام 2003 وأسقطت نظام صدام حسين، معتقدة أنها حققت جزءًا كبيرًا من أهدافها حتى انسحب أوباما عام 2011، تاركًا إياها لإيران والحكومات الموالية لها.
أما سوريا فمنذ أكثر من 7 سنوات فشلت واشنطن – أو لم ترغب منذ البداية – في الإطاحة بنظام بشار وتهيئة من يخلفه. ساعد الارتباك الأمريكي روسيا وإيران كثيرًا في إنفاذ رؤيتهما، وأنقذا النظام بجانب تخلي الجميع عن المعارضة، بالتالي لم يمثل قرار ترامب الخروج من سوريا هزيمة لواشنطن، فهي هزمت منذ فترة أوباما، حينما تحداه بوتين بآلته العسكرية وأحيا النظام، مقابل إدانات ومؤتمرات نظيره الأمريكي!
قرار ترامب جاء رغبة منه في إرضاء تركيا، بخلاف تقليل نفقات الانخراط الأمريكي في مشاريع غير مجدية، فدولة الأكراد إن أقيمت في سوريا فستكون في حكم الميت إكلينيكيًّا، فهي محاطة بالنظام السوري وتركيا، بخلاف جوارها للعراق الرافض هو الآخر لمشروع الدولة الكردية، فنجاحها يعني استقلال إقليم كردستان العراق، بالتالي ستكون أشبه بالدولة الحبيسة المحاصرة من جميع الجهات ومنبوذة وقيامها في هذا التوقيت سيكون مكلفًا جدًّا سياسيًّا وماديًّا، فيما داعموها الغربيون لديهم ما يسوؤهم ويستوجب التراجع في هذا الوقت عن الشرق الأوسط ومشكلاته.
إذن قرار ترامب الانسحاب من سوريا جاء نتيجة لفشل سلفه أوباما بالأساس، فحينما تولى مقاليد البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2017 كانت روسيا رسخت قواعدها وجنودها في سوريا وأحيت نظامه، وأصبح من الصعب الدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو على أراضي سوريا، فواشنطن لم تفعلها لأجل أوكرانيا والاتحاد الأوروبي هل ستقوم بها لأجل مصالح ضيقة بالشرق الأوسط لا تقارن بأمن أوروبا في مواجهة روسيا؟