مع البردوني: قراءة في كتاب «اليمن الجمهوري»
مر على الكتاب ما يربو على العقود الثلاثة، في الفترة ما بين الثورتين، القديمة والجديدة، غير أننا نقرأ في السطور مع البرودني عن أخطاء الأمس التي تكررت اليوم وستتكرر غدًا إن لم نفطن لها ونعالجها.
الكتاب الذي اعتمد على منهج السرد التاريخي للأحداث التي مرت بها اليمن لا يغفل التنويه إلى دروس الحياة التي استقرأها البردوني من وجهة نظره، وسعى من خلال كتابه لأن يلفت أنظارنا إليها؛ وأهمها حقيقة أن الزمن الذي تمر به أي حضارة وأي بلد لا يقاس بعدد السنين وإنما بعدد الإنجازات التي حققتها هذه الأمة أو تلك، أما أن تبقى تراوح أخطاءها لجهل أو لتعامٍ أو لنفاد صبر فإنها تبقى أمة طفلة على صنع التاريخ، بل ويصبح يومها هو أمسها وربما يصبح غدها أيضًا رغم مرور الزمن!
يقع الكتاب في أحد عشر فصلًا، ويناقش عمر الجمهورية اليمنية، الحلم القديم الذي انتفض من أجله الجند والفلاحون والمثقفون على حد سواء، والإرادة التي بذل من أجلها الكثير من الدماء الزكية، والقضية التي رسمت لأجلها أجمل الصور من تغلب على مستحيل كان متمثلًا بمملكة تملك قبضة حديدية، وبصبر استمر أعوامًا وعقودًا، وخطط لإنهاء حكم ظالم من أجل أن يبزغ فجر جديد.
الجمهورية التي لم نصل إليها بعد، مرت بحبكات أشبه بعقد حقيقة في حكايا لم تنتهِ بعد، فبعد أن سقط الإمام الأول سقطت رؤوس أبطال الثورة الأولى، ثم استمر نضال الشعب اليمني، وفي أكثر من محاولة لتنفيذ ثورة أخرى باءت أكثر محاولاتها بالفشل – غالبًا لسوء التخطيط – كما يشير الكاتب.
ثم جاءت لحظة القدر التي رسمت بقية الحكاية كما تمناها الشعب اليمني، وانطلقت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر بعد وفاة الإمام أحمد بأسبوع واحد فقط.
ويلفت أنظارنا المؤلف إلى أسئلة جادة حول التعثرات التي حفت خطوات الثورة منذ ثورتهم الأولى في 48، أو تلك التي صاحبتهم في انقلاب 55، أو حتى تلك التي جاءت بعد 62، ومن خلال خيوط التاريخ التي يجمعها نرى من خلال سطوره أن الخطأ الأكبر الذي واجه الثوار عامة، والمخططين بصفة خاصة هو غياب الرؤية عن ما بعد الثورة، ففي 48 سقطت أول جمهورية خلال ثلاثة أسابيع وحسب!
أما تلك التي نفذها الثلايا ليستبدل الإمام أحمد بالإمام عبد الله الأقل تطرفًا من أخيه لم تستمر سوى عشرة أيام!
وفي 62 لم يستتب الوضع مباشرة فالسلال البطل القومي والفلاح الثائر وقع في براثن الخوف من رفاق الأمس ليقع في شباك النفي بعد خمسة أعوام من حكمه، تلته الجمهورية الثانية كما يسميها الكاتب والتي كانت عبارة عن محاولة لتجاوز أخطاء المرحلة الأولى التي تلت الثورة، وكانت عبارة عن مجلس جمهوري ومجلس شورى بقيادة الجيش وحكم خلال هذه الفترة رجل حكيم وهو القاضي الإرياني الذي اتسمت فترة حكمه بنوع من الهدوء والتنمية؛ ثم بعد سنوات من حكمه قدم استقالته مكرهًا حتى لا تسيل قطرة دم، والخطوة الجيدة التي قام بها من وجهة نظر البردوني هو أنه قلص صلاحية القبيلة أمام الجيش من خلال تقديمه استقالته وحكومته مقترنة باستقالة مجلس الشورى الذي كان بقيادة عبد الله بن حسين الأحمر يومذاك.
تلاه الحمدي الذي اغتيل ولم يكمل أربعة أعوام من فترته بعد، ومنذ هذه المرحلة بدأت الانقلابات الدموية تعصف بقلب الجمهورية اليمنية على عكس المرحلة الأولى من عمرها، تلاه الغشمي الذي لاقى نفس المصير، ثم علي صالح.
أجود ما في الكتاب هو تنبهه لأخطاء الأقدمين التي لا زلنا نكررها اليوم في ثورتنا الحالية، وكأنه يريد أن يقول لنا النتيجة الحتمية مسبقًا، فالأخطاء إن لم نتجاوزها وقعنا في ذات المشكلة.
ومن تلك الأخطاء؛ غياب الرؤية؛ التركيز على المشاكل الصغيرة على حساب الأكثر أهمية، عدم إشراك الشعب في تقرير مصيرهم وتوقف ذلك على ثلة من المثقفين والسياسيين الذين يحتكرون ذلك على أنفسهم، ثم يدخلون الشعب في صراعاتهم الفردية، تشتت القوى وتضاربها فالدولة لا تقوم لها قائمة طالما بقيت شوكة الدولة في أكثر من يد؛ يد القبيلة ويد الدولة!
ويركز المؤلف على وجوب حل مشكلة الأمن التي هي أم المشاكل، ففي استتباب الأمن رسالة على قوة الدولة وسلطتها، كما أنها أهم ركيزة لتحقيق التنمية أيًا كانت.
يأتي الفصل الأول كتمهيد عن أسباب قيام الثورة اليمنية، وأساس البحث عن الجمهورية من البداية؛ ويسرد الكاتب تاريخ دخول المذهب الهديوي إلى اليمن ودور الإمام يحيى في توطيد المذهب الزيدي، أما الفصل الثاني الذي حمل عنوان اتفاق المختلفين واختلاف المتفقين فتحدث عن اختلاف ثقافة الثلاثينيات عن الأربعينيات وكيف أثر على عقلية الثائرين في تلك الفترة، إذ أن الثقافة التي نهلوا منها لم تكن على قدر من الوعي الثوري كما تشير بعض الكتب الحديثة التي لم تدرس تلك الفترة بشكل دقيق.
وتحدث الفصل الثاني عن تفجرات المناطق القبلية التي كانت ترى التغيير إلى أن الإمام كان يخمدها فور اندلاعها، وتحدث هذا الفصل بشكل منصف عن ثورة المقاطرة التي تعد من أهم الثورات في التاريخ اليمني.
يتطرق الشاعر البردوني إلى دور الثقافة في دعم الثورة، وقدرتها على رسم التاريخ إذ كتبت بإنصاف، ويستقرئ الكاتب دور الشعر في نقل المعارك التي خاضها الأئمة ضد الزرانيق والمقاطرة أو القبائل إذ أنها كانت تتسم بنوع من تمجيد القوي على الضعيف.
ويتحدث الفصل الثالث عن مسيرة الأحزاب في اليمن، وكيف بدأت بتنظيمات سرية، وبجهود بسيطة؛ سواء في الشطر الجنوبي الراغب في الانعتاق من الاحتلال البريطاني، أو الشطر الشمالي الرازح تحت وطأة الإمامية المستبدة؛ وينوه الكاتب بشكل منصف إلى دور الإمام يحيى ذي الثقافة الموسوعية إذ أن بفترته ازدهرت العلوم الدينية والأدبية على عكس فترة حكم ابنه أحمد.
ويتحدث الفصل الرابع عن تنظيم الاتحاد اليمني؛ كيف بدأ كجمعية سميت بجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي وسيلة تتناسب مع تلك الفترة، إذ أنها طالبت بإصلاحات بسيطة تحت دعوى الشريعة وإن كانت تبطن انتقاد الإمام على سياسته المنغلقة وقتذاك.
كما يرصد الكاتب التغيير في الوسيلة والخطاب لهذه الجمعية التي تعد أول تنظيم سياسي في عمر اليمن، واستمرت حركة الجمعية التي تحولت فيما بعد إلى الاتحاد اليمني حوالي 34 عامًا ؛ وانتهت عام 74 على يد حركة 13 يونيو، ومثل هذه التجربة الوليدة تستحق التأمل.
ويتحدث عن دور الشرائح المهمة في المجتمع اليمني ويرصد دورها في تأجيج الثورة وقلب موازين المعادلات، حيث شارك الجنود في السقوط المبكر لحكومة 48؛ كما شاركوا في انقلاب 55، وانضموا للثوار والطلاب في 62.
أما فصيل الطلاب فقد تحرك بشكل ملفت بعد أن انتشر الوعي قبل أحداث 62، والجميل في هذا الكتاب أنه لم يغفل دور المرأة اليمنية في صناعة الأحداث على مر التاريخ؛ إذ عدد مجموعة أسماء لأعلام من اليمنيات مثل: الملكة أروى بنت أحمد الصليحي. الشريفة دهماء، فقيهة. صفية بنت المرتضى، فقيهة. فاطمة بنت علي، مصلحة اجتماعية. زينب الشهارية، أديبة وسياسية. نخلة الحياسية. عوقت الجيش التركي مع بعض بنات صنعاء لمدة عشرين يومًا.
كما أنه ذكر دور نساء المقاطرة اللاتي هاجمن حرس الإمام دفاعًا عن بلادهن مع أزواجهن.
يتحدث الفصل السادس باستفاضة عن حركة 48 وأسباب سقوطها مبكرًا بعد قيامها بثلاثة أسابيع وحسب، وذلك لعدم إشراك الشعب فيها استنقاصًا لأهليته من قبل النخبة التي نفذت تلك الحركة.
من ناحية أخرى سوء التخطيط وتقدير الأمور لعبا دورًا أساسيًا في شحة الموارد مبكرًا عن صنعاء مما أدى إلى سقوطها المدوي ما إن جاءها أحمد مستعينًا ببعض القبائل الموالية؛ كما تضارب رأي القيادة في الجنوب والشمال مؤثرا على تنفيذ الخطة المرسومة؛ فلم يكن من المخطط قتل الإمام أحمد وفوجئ بعض الثوار كالزبير ونعمان بذلك الخبر.
ويؤكد البردوني من خلال هذا الفصل على أن الثقافة المتفشية في تلك الفترة كانت ثقافة سلفية تمامًا كون الدين هو المعيار الأساسي لتقلد الوظائف بغض النظر عن الكفاءات، وأن الكتابات التي تناولت تلك الفترة لم تراعي حقيقة شحة الكتب، من ناحية أخرى تأثر مثقفو تلك الفترة بكتب محددة كانت متاحة لهم، أو كتب أخرى اتسمت بالثقافة التقليدية؛ غير أن ما دفعهم للخروج على الحاكم هو رغبتهم في تغيير الواقع.
ويسرد الكاتب في الفصل السابع مجموعة من الحركات الهامة والتي لم تدون ضمن كتب التاريخ كونها صنفت بأنها ثانوية أو ليست على قدر من الأهمية كونها لم تخلق حدثًا مباشرًا؛ لكن هذا لم يمنع البتة أنها شاركت في حدوث شرارات أدت إلى ثورة 62، ومن تلك الحركات حركة ذمار بقيادة عبد الله الديلمي الذي استفاد من سوء اختيار الإمام للعامل في ذمار ليبث سخطه على الإمام بالتملل من عامله في ذمار (علي الهمداني)؛ وكيف أن اليمن فوجئت بتلك الصرخة التي انبعثت من ذمار معقل الشيعة في اليمن.
يتحدث الفصل الثامن عن الازدواجية والثنائية في انقلاب مارس 55، والتي نفذها الإمام عبد الله بالتعاون مع الثلايا وفشل بسبب عدم التنسيق بين مختلف المعسكرات، ويشير الكاتب إلى الازدواجية في العقلية الثورية إذ أنها في مرحلة من المراحل زجت بنفسها في أتون الخصامات العائلية ووقفت مع إمام ضد آخر!
الفصل التاسع يتحدث عن ثورة 62 ويشرح الخطوط التي تدفق منها سبتمبر، ويتحدث عن تطور حركة القوى القبلية والعسكرية في اليمن؛ إذ أنها بدأت خصاماتها فيما بينها؛ ثم اتحدت ضد الأتراك، ثم اتحدث تحت لواء الإمامية، ثم استقلت بنفسها وصارت جزءًا من الشعب وذلك لارتفاع نسبة الوعي بين صفوفها.
الجمهورية الأولى بدأت منذ 62 وحدث فيها صراع بين الملكين والقوات المصرية التي جاءت لتساعد الجمهوريين في اليمن.
الجمهورية الثانية قامت في 67 ولكنها سقطت بسبب الخلافات المتفاقمة بين صفوف الثوار أنفسهم.
الجمهورية الثالثة قامت في 77 وكافحت لتواصل جذوة الثورة اشتعالها، وذلك بعد أحداث 12 يونيو 74، وأشار الكاتب في نهاية هذا الفصل إلى مجموعة من الأخطاء التي وقع فيها الثوار في تلك الفترة لنقرأها ونستفيد منها؛ منها: ركزوا على الإمام ولم يركزوا على الوضع والبديل القادم.
وأكد على أن الثورة يجب أن تسير في خطين متوازيين؛ حرب الحرب؛ أي مقارعة القوى الظلامية؛ وإن تم التركيز على أحدهما وأهمل الآخر لم تنجح الثورة في شيء.
يتحدث الفصل العاشر عن مشاكل اليمن الجمهوري، منها ما هو أخطاء موروثة مثل الاتحاد على هدف واحد وهو إسقاط الغمام، وغياب الرؤية عن البديل الأنسب، والمعايير التي يجب أن تؤخذ في بناء الدولة الجديدة.
كما تحدث عن حقيقة أن الفساد استشرى في عهد الثورة مما قاد إلى تساؤل حول حقيقة أهمية الثورة من عدمها!
كما أكد هذا الفصل على أن تحقيق مرحلة التجاوز هو مسؤولية جماعية لا تقع على عاتق فئة دون أخرى، كما تساءل حول حقيقة استفادة البعثات الدراسية للطلاب اليمنيين في الخارج، وأهمية وجود الخبراء لحل المشاكل الوطنية! وذكر أن البعثات لا قيمة لها إن لم تنبع من احتياجات البلد نفسه؛ أما مشكلة الخبراء ستظل قائمة كونهم يفتقرون إلى الإدارة المحلية، وأكد على أن الاهتمام بقضية الأمن يأتي على رأس مطالب التنمية فلا قيمة لقطاع التنمية في التعليم والصحة طالما بقي عصب الأمن تالفًا!
وحمل هذا الفصل عنوانًا عريضًا؛ الديمقراطية بين الإعلان والممارسة، إذ أنها كانت عنوانًا فضفاضًا يستخدمه الساسة والمثقفون اليمنيون دون أن يتفقوا على معاييره، لهذا فشلت كثير من المحاولات للوصل إليها حتى اللحظة.
الفصل الحادي عشر تكلم باستفاضة عن الوحدة وكيف تمت؛ ثم تحدث عن رؤساء اليمن الجمهوري وسرد بعض سيرتهم ونضالهم الثوري، وأكد الكاتب ضمن سياق هذا الفصل على مفهوم الثائر من حقيقته إلى تحقيقه، فحقيقته لا تكفي وإنما تحتاج إلى معايير ليكون ثائرًا حقيقيًا؛ أبرز تلك المعايير هو أن يقدم مصلحة الوطن على مصلحة أي شيء.
يعد هذا الكتاب ضمن الكتب المهمة التي بإمكانها أن تشكل الوعي المجتمعي اليمني على يقظة لأهدافه ووجوده؛ كما أنه يعمل على خلق سلسلة متصلة من الوعي الثوري الذي بدأ منذ ثورة 62؛ بحيث ينقل خبرة الآباء للأبناء والأحفاد، ويذكرهم بالأخطاء التي وقعوا بها لنتنبه لها لا أن نسقط فيها ثم نلوم التاريخ أنه لم ينقل لنا تلك الأخطاء؛ والعيب هو أننا لم نقرأها بعين العظة والعبرة.