مع أبو زيد في كتابه «مفهوم النص»
في كل حضارة هناك سمة بارزة يمكن أن تشكل صفة محورية فيها، وعلى هذا الأساس «ليس من قبيل التبسيط أن نصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة (نص)». وحتى لا يتبادر إلى الأذهان أن المراد هنا هو اختزال عناصر الثقافة الأخرى وجعلها كلها مجرد مستقبلات سلبية لسلطة «النص»، فإن «الذي أنشأ الحضارة، وأقام الثقافة، هو جدل الإنسان مع الواقع من جهة، وحواره مع النص من جهة أخرى». فالنص هنا – إن صح التعبير – ليس اللاعب الوحيد على الساحة، بل إن فاعليته تظهر من خلال عناصر تلك الثقافة نفسها.
ومن البديهي القول إن «للقرآن في حضارتنا دورا ثقافيا لا يمكن تجاهله في تشكيل ملامح هذه الحضارة وفي تحديد طبيعة علومها»، وبما أننا نتكلم عن حضارة محورها النص، «فلا شك أن (التأويل) – وهو الوجه الآخر للنص – يمثل آلية مهمة من آليات الثقافة والحضارة في إنتاج المعرفة»، و«إن النص حين يكون محورا لحضارة أو ثقافة لا بد أن تتعدد تفسيراته وتأويلاته». وهكذا، فقد أصبح «النص» في حضارتنا ميدانا واسعا لمختلف القراءات والتأويلات التي تصل في اختلافها إلى حد التناقض.
«وإذا كانت قوى التغيير والإصلاح في نضالها ضد الفساد الاجتماعي والفكري تحاول بدورها أن تستند إلى التراث، فإنها أيضا تستند إليه بنفس الطريقة، طريقة (التوجيه الأيديولوجي)». ولذلك «فإن الدراسة الأدبية – ومحورها مفهوم (النص)- هي الكفيلة بتحقيق (وعي علمي) نتجاوز به موقف (التوجيه الأيديولوجي) السائد في ثقافتنا وفكرنا».
الوعي العلمي بالنص
هذه هي المنطلقات التي يؤسس عليها الدكتور المرحوم نصر حامد أبو زيد مشروعه في محاولة صياغة «وعي علمي» بـ«النص»، وذلك في كتابه «مفهوم النص». ولنحاول هنا الوقوف على أبرز النقاط التي تناولها الكتاب. ولا شك أن هذا الأمر يتطلب عدة مقالات لا مقالا واحدا.
انطلاقا من كون الواقع يشكل الإطار العام، بتحدياته وحدوده، لكل محاولة في فهم وتأويل النصوص، يذهب أبو زيد إلى أن تحديات الواقع التي تواجهنا اليوم ليست هي ذاتها التي واجهت علماء الأمس، ولذا يقول – وهو مصيب جزئيًا في قوله برأيي: «لم تعد قضيتنا اليوم حماية تراثنا من الضياع وثقافتنا من التشتت […] أصبح موقفنا اليوم الدفاع عن وجودنا ذاته بعد أن أفلح العدو أو كاد في اختراق الصفوف في محاولة نهائية لإعادة تشكيل وعينا».
وإذا كانت النظرة الأصولية الجامدة التي تنادي بتطبيق الشريعة وبأسلمة الحياة ليست خيارا مطروحا أمام الباحث عن حل حقيقي والناقد لما يراه قفزا على الواقع، فإن التجديد في أساسه يقوم على التراث. والحال أن التراث هو «مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناءً على متطلباته […] ليس التراث مجموعة من العقائد النظرية الثابتة والحقائق الدائمة التي لا تتغير، بل هو مجموع تحققات هذه النظريات في ظرف معين، وفي موقف تاريخي محدد، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها، وتكوّن تصوراتها للعالم».
وبلا شك فإن المدقق في هذا الكلام يجده مواجها ومضادا تماما للنظرة الأصولية التي ترى العقائد حقائق ثابتة لا يجوز الخروج عنها، لأن الخروج عنها هو خروج عن الدين المتمثل في هذه العقائد، وإذا كان هذا هو حال التراث، فإن التجديد «إذا لم يستند إلى فهم (علمي) للأصول الموضوعية التي قام التراث على أساسها كفيل بأن يؤدي إلى أشد عناصر التراث تخلفا إلى جانب أنه يساند – دون وعي – أشد القوى سيطرة وهيمنة ورجعية في الواقع الراهن».
تحذير أبو زيد
إن الذي يحذر منه أبو زيد في هذا النص هو القراءة التجديدية التي لا تتعامل مع التراث بحيادية، بل تستدعي منه جانبا معينا، يمثل في الحقيقة توجهها الأيديولوجي والمذهبي. وهذا النوع من التجديد في رأي أبو زيد لا يقل خطورة عن «التقليد».
ولكن إنتاج هذا الوعي «العلمي» ليس بالأمر الهين لأنه «يستلزم من الباحث كثيرا من الجرأة والشجاعة في طرح الأسئلة، ويستلزم منه جرأة أشد وشجاعة أعظم في البحث عن الإجابات الدقيقة لهذه الأسئلة»، وأيضا «على الباحث أن يكون على وعي دائما بأن تراثنا الطويل مليء – بحكم هذا الطول والامتداد التاريخي – بكثير من الإجابات الجاهزة، التي يحتاج تجنبها إلى طاقة هائلة […] وإذا كان من المستحيل علميا وإنسانيا أن يتجنب الباحث كل ما هو مطروح من إجابات في التراث أو في الثقافة، فإن عليه أن يختار من بينها أشدها صدقا واقترابا من الحقيقة».
ولكن هنا، واتساقا مع أبو زيد والنظرة الحداثية، فإن مراد أبو زيد من مفهومي «الصدق» و«الحقيقة» هو ما يعتبره الباحث المتحلي بالحياد بعد قراءته النقدية المتفحصة للتراث «صدقا» و«حقيقة» وليس «الصدق» و«الحقيقة» بمعانيهما المطلقة. حيث إنه – ومرة أخرى تماشيا مع النظرة الحداثية – لكل عصر صدقه وحقيقته اللذان تحددهما العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية غيرها في كل عصر. «من هنا يكون البحث عن (حقيقة) التراث بحثا عن حقائق في ثقافتنا لا بحثا عن حقائق مطلقة».
يذهب أبو زيد في سياق تأكيده مرة أخرى على سلطة النص ومكانته في ثقافتنا إلى أنه «يمكن أن يفسر كل جوانب التراث على أساس أن كل جانب يمكن أن يكون نمطا خاصا من أنماط (تأويل) النص أو تفسيره».
ما هي أهداف أبو زيد في دراسته هذه؟
إنه يعلنها في هدفين:
الأول: إعادة ربط الدراسات القرآنية بمجال الدراسات الأدبية والنقدية. وفي هذا الهدف كما هو ظاهر مزاحمة للسلطة الدينية التي لا تنظر بعين الأمان لكل دراسة للنص تأتي من خارج أسوارها. بل إن أبو زيد يذهب إلى أبعد من هذا، فيقرر «إن دراسة (النص) من حيث كونه نصا لغويا، أي من حيث بنائه وتركيبه ودلالته وعلاقته بالنصوص الأخرى في ثقافة معينة، دراسة لا انتماء لها إلا لمجال (الدراسات الأدبية) في الوعي المعاصر». ولا حاجة هنا للإشارة إلى أن المقصود هو النص القرآني والثقافة العربية.
الثاني: محاولة تحديد مفهوم «موضوعي» للإسلام. وميزة هذه المفهوم المراد تحديده أنه «يتجاوز الطروح الأيديولوجية من القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة في الواقع العربي الإسلامي»، ومن هنا يطرح أبو زيد هذا السؤال: ما هو الإسلام؟
وبرأي أبو زيد أن هذا السؤال «يكتسب مشروعيته من تلك الفوضى الفكرية التي تسيطر على المفاهيم الدينية نتيجة لاختلاف الرؤى والتوجهات في الواقع الثقافي المعاصر من جهة، ونتيجة لتعدد الاجتهادات والتأويلات في التراث من جهة أخرى».
إن إعادة التساؤل حول مفهوم الإسلام – بنظر أبو زيد – لا يهم المسلمين فقط بل (( هو بمثابة التساؤل عن (هويتنا) الحضارية في التاريخ، سواء كنا مسلمين أم كنا مسيحيين، ما دمنا نعيش واقع هذه الثقافة العربية الإسلامية بمكوناتها التاريخية». والتعارض الذي يقيمه البعض بين العروبة والإسلام هو تعارض زائف، «فعلى هؤلاء – إن استطاعوا – أن ينكروا عروبة النصوص الدينية، وعليهم – إن استطاعوا – أن يتجاهلوا الحقائق التاريخية لعروبة حامل الرسالة ومتلقيها الأول، ولعروبة المخاطَبين بالوحي».
ولا نحتاج للتذكير هنا – مرة أخرى – بأن الخطاب الديني الرسمي لا ينكر هذه المسلمات، ولكنه يعتبر العرب حاملين للرسالة الإسلامية والمؤتمنين على تبليغها، فهم في هذا الفهم أشبه بالوعاء الناقل المنفصل عما ينقله!