الرابحون من الحرب: الخليج «الجديد» يسفر عن وجهه
في الأيام الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، تجلى توتر مكتوم بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والسعودية والإمارات وباقي دول الخليج من جهة أخرى. بينما سارعت دول العالم لإدانة روسيا، وقفت السعودية والإمارات، وباقي الدول الخليجية، على الحياد. قطر والكويت امتنعا عن إدانة موسكو صراحة، واكتفيتا بإدانة العنف عامة. أما السعودية والإمارات والبحرين فلم يصدر منهم شيء. ومجلس التعاون الخليجي اكتفى بدعم الجهود الهادفة لحل الأزمة الأوكرانية.
كان الحياد الخليجي مفاجأة للحلفاء الغربيين، إذ يرتبط الخليج بعلاقات معقدة ومتشابكة مع الجانب الأمريكي. لكن الخليج بحياده المبدئي قرر الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع كافة الأطراف، بخاصة وأن الخليج يتوجس من الإدارة الأمريكية تحت حكم بايدن، ويشك في التزام الولايات المتحدة بأمنه وحمايته.
بالطبع أتت صدمة الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان لتعيد تشكيل الصورة الذهنية عن الولايات المتحدة الأمريكية. خصوصًا بعد أن فشلت القواعد الأمريكية من توفير حماية للسعودية والإمارات، ومنشآتهما النفطية، من هجمات الحوثي وجماعته. فوصلت صواريخه إلى أبو ظبي، وإلى أرامكو السعودية. دون أن تتصرف الولايات المتحدة بجديّة كافية.
تلك التراكمات من الخذلان الأمريكي والغربي علمّت الخليج ألا يضع كل البيض في سلة واحدة. ولا بأس من تشبيك العلاقات مع أقطاب متعددة يمكن أن يكون لها التفوق في عالم جديد متعدد الأقطاب. دون طبعًا أن تتخلى دول الخليج عن التحالف التاريخي والاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية. لعبة خطرة يمارسها الخليج، ولم تسمح الأزمة له بمزيد من الضبابية والحياد، فكان لا بد من إظهار المواقف سريعًا لأن أسواق الطاقة تترقب.
التوتر يتحول لغضب
تخلت الإمارات عن حيادها سريعًا وامتنعت عن التصويت لإدانة العملية العسكرية الروسية في مجلس الأمن. كذلك رفضت السعودية طلبات متكررة من القيادات الأوروبية بضخ المزيد من النفط لخفض أسعار الوقود عالميًا. بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، وقرارات الدول الأوروبية بهجر النفط الروسي.
التوتر المكتوم تحول لغضب مُعلن بعد ستة أشهر من بداية الحرب. فقد قررت منظمة الدول المنتجة للنفط، أوبك، ومنظمة الدول المتعاونة معها، أوبك بلس، خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا. حالة من الهلع أصابت السياسة الأمريكية لحظة سماع القرار. فالقرار له تداعيات سياسية واقتصادية سلبية على الولايات المتحدة وحلفائها والدول المستهلكة للنفط جميعًا.
رغم أن القرار جاء من المنظمة بالكامل فإن الجزء الأكبر من تنفيذه يقع في قبضة الإمارات والسعودية. فهم سيخفضون إنتاجهم بنسبة أكبر، وبالتالي سيحصلون على نسبة أكبر من زيادة السعر العالمي. ما يجعل من الضروري طرح سؤال عن الخليج والأزمة الأوكرانية. فلا يبدو أن الخليج قد اكتوى بنار الحرب، بل من الواضح أنه استفاد منها أكثر مما فعلت أي دولة أخرى.
فقد تحسنت المؤشرات الاقتصادية لدول الخليج. خصوصًا أن دول الخليج باتت في قلب الأضواء العالمية. بعد فرض العقوبات على روسيا التي تتحكم في 40% من النفط العالمي. وأصبح العالم يخطب ود السعودية والإمارات. بدايةً من إرسال واشنطن لمنسق البيت الأبيض لشئون الشرق الأوسط للسعودية والإمارات. وانتهاء بزيارة الرئيس الأمريكي نفسه، جو بايدن، للخليج طلبًا لمزيد من الإنتاج قبل انتخابات التجديد النصفي المرتقبة.
مكسب قريب أم خسارة بعيدة؟
لكن تحاول دول الخليج الحفاظ على سقف 100 دولار للبرميل، هو أقصى حد تراه آمنًا لسعر البرميل في السوق العالمي. فالسعودية تخشى أن يكون لارتفاع النفط تأثير سلبي عليها. لأنه إذا استمرت الأسعار في الارتفاع، واستمر الحظر الغربي للنفط الروسي، فإن الحل الأمثل سيكون البحث عن مصادر بديلة للطاقة. ما يعني إزاحة النفط بالكامل عن واجهة الاقتصاد العالمي، وهو ما لا تريده دول الخليج.
ليس لأن خسارة النفط يعني خسارة ثروة طائلة فقط، بل لأن دول الخليج تعلم أنها في قلب الأزمة وسوف يطالها التأثير عاجلًا أو آجلًا. الأرجح أنه سيكون آجلًا للغاية. بالتأكيد ستدفع دول الخليج نصيبها من فاتورة التضخم المتزايد في الأسواق العالمية كونها دول مستوردة لمعظم احتياجاتها. لكن فارق السعر سيظل دائمًا لصالح الخليج المُصدر للنفط.
قضية الأمن الغذائي التي تمثل كابوسًا لمعظم دول العالم حاليًا، خصوصًا الدول العربية التي تستورد غالبية احتياجاتها من روسيا أو أوكرانيا، تمثل تهديدًا للخليج أيضًا. لكنه تهديد قليل نسبيًا. بسبب انخفاض الكثافة السكانية لدول الخليج، وبسبب إمكاناتها المادية القادرة على توفير تلك الاحتياجات.
كما أن الإمارات تخشى على السياحة فيها. فرغم قيود كورونا زار الإمارات أكثر من نصف مليون سائح روسي عام 2021. وقبل الحرب الروسية الأوكرانية كانت التقديرات تشير إلى أن حجم السياحة الروسية في الإمارات سيتجاوز مليار دولار أمريكي. خصوصًا أن السياح الروس يميلون للإنفاق أكثر من نظرائهم الأوروبيين، ويمكثون لفترات أطول.
تلك الحسابات التي تبدو بعيدة المدى قليلًا، قد يعوضها الربح القريب الذي ستحصل عليه دول الخليج عبر مفاوضات محتملة مع الشركاء الغربيين. فيمكن للجانب الخليجي طلب حزمة من الأسلحة من العسكرية التي مُنعت عنهم سابقًا. أو يطلبون مزيدًا من الأضواء الخضراء في ما يتعلق بحرب الإمارات في اليمن. أو في تدخل الدول الخليجية في الشئون الداخلية لغالبية الدول العربية. أو في ما يتعلق بالتدقيق الغربي المستمر بخصوص ملفات حقوق الإنسان.
لذلك لا يمكن الجزم أن دعم الخليج لروسيا هو دعم نهائي ومطلق. ربما لا يعدو الأمر كونه مناورة خليجية لابتزاز الولايات المتحدة والحصول منها على بعض الامتيازات التي تعنّت الإدارات الأمريكية في منحها لهم في أوقات الرخاء.
الخليج يستقل بقراره
بجانب حسابات الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، فإن الخليج قد أبلغ الولايات المتحدة رسالته بقوة. كما صاغها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الخليج محبط من السياسات الأمريكية. أضاف أنتوني أيضًا أن السعودية والإمارات طالما سارتا على نفس الإيقاع الذي تسير به الولايات المتحدة.
لكن كشفت الحرب الروسية الأوكرانية أنهما باتا ينتهجان نهجًا أكثر استقلالية. ويركنان إلى خصوم الولايات المتحدة مثل موسكو وبكين. ليس ركونًا سياسيًا فحسب، بل عسكريًا كذلك. فقد وقعت المملكة مذكرة تفاهم مع شركة روزبورن إكسبورت الروسية لتصدير الأسلحة والمنتجات العسكرية التابعة لروسيا. وبموجب تلك الاتفاقية تقوم الشركة الروسية بنقل تقنيّات صناعة أنظمة صاروخية متطورة ومضادة للدبابات. كما زار بوتين المملكة عام 2019 وتناقش مع ولي العهد لتصدير منظومة «أس-400» الروسية للدفاع الجوي. كذلك وقعت روسيا عقدًا مع أرامكو السعودية لشراء 30% من أسهم شركة نوفومت الروسية لمعدات النفط.
ليس ذلك بالأمر المفاجئ. فالدولتان تعتقدان أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة تنفصل يومًا بعد الآخر عن الشرق الأوسط. وعبروا عن استيائهم من الولايات المتحدة والتحالفات الغربية في أكثر من مناسبة. بينما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من القلائل الذين احتضنوا ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بعد اتهامه بالضلوع في جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي عام 2018.
ويرى المحللون الأمريكيون أن السعودية جعلت إدارة بايدن ترضخ لذلك. فقد مرّ إعدام قرابة 81 سعوديًا مؤخرًا دون أي إدانة أمريكية تُذكر. كما بدأ بايدن يعترف بسلطة ولي العهد باعتباره الحاكم الفعلي للمملكة، بعد أن كان بايدن مصرًا على عدم الحديث معه بحجة أن الرئيس لا يُكلم إلا نظراءه.
تلك المكاسب الاقتصادية والسياسية التي ربحها الخليج من الأزمة تجعله الفائز الأكبر من تلك الحرب. ربما يمكن القول إنه الفائز الوحيد في حرب يخسر فيها الجميع. وأن سياسة عدم الانحياز الظاهري قد نجحت في تجنيب الخليج خسائر أكبر. واستطاعت دول الخليج بناء علاقات أكثر متانة مع الجانب الروسي. واكتسبت جرأة واستقلالية في اتخاذ قراراتها بعيدًا عن الجانب الأمريكي.