ويليام فريدكن: رحيل الثوري الأخير طارد الأرواح الشريرة
يقول المخرج (براين دي بالما) مخاطباً المخرج (نواه بومباك): أنت تحاول صنع أفلام خارج نظام الاستوديو، أما نحن في السبعينيات أردنا الاستيلاء على الاستوديوهات، ما يتحدث عنه دي بالما هو (هووليود الجديدة).
في ذلك الوقت من السبعينيات صعد جيل ثوري أراد صنع أفلام شخصية، تأثر بكارثة فيتنام ومقتل كيندي وخليج الخنازير، كان الجميع يريد أن يصرخ، مخرجون مثل فرانسس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي وبراين دي بالما ومخرجنا اليوم (ويليام فريدكن).
وليام بيتر بلاتي
في بداية السبعينيات عندما كتب الروائي (وليم بيتر بلاتي) روايته الرائعة «طارد الأرواح الشريرة» تم شراء حقوق تحويل النص لمادة مصورة من قبل استوديو (وارنر برزر)، تم عرض الرواية على أسماء كبيرة في الإخراج في هوليوود، كان الاستوديو يريد (ستانلي كيوبريك) الذي رفض لأنه غير مهتم إلا بالسيناريوهات التي يطورها هو، ثم عرضت على (ارثر بن) الذي رفض أيضاً لأنه كان يريد أن يتجنب أي عمل آخر يحتوي على مشاهد عنف بخاصة بعد تجربته في فيلم «بوني أند كلايد»، ثم عرضت على المخرج مايك نيكولز الذي رفض أيضاً لكن لسبب هيكلي، (نيكولز) كان يرى أنه من المستحيل أن نجد طفلة في الثانية عشرة من عمرها تستطيع لعب هذا الدور، رغم كل هذا الرفض كان المؤلف (بلاتي) سعيداً، لأنه لم يكن يريد كل هذا، فقط كان هناك اسم واحد في عقله هو ويليام فريدكن، لماذا؟
لأن طبقاً لكلام بلاتي فإن فريدكن هو المخرج الوحيد الذي لم يكذب عليه، الحقيقة أن فريدكن لا يكذب أبداً، حتى وهو يصنع أفلاماً خيالية يضع الحقيقة على الشاشة.
عودة أربع سنوات للخلف
ويليام فريدكن يجلس مع إدوارد بلاك المخرج المعروف يقرأ سيناريو لفيلم اسمه بيتر جن يريد بلاك أن يقوم فريدكن بإخراجه، ويطلب رأيه في السيناريو.
فريدكن ينظر له ويقول: إدوارد… هذا سيناريو مريع، حتى أشنع أعدائك لن يكتب لك سيناريو بهذه الرداءة.
بلاك ينفعل ويقول: ما مدى معرفتك بالصناعة من الأساس أنت مجرد مخرج صغير مع بعض المشاريع التسجيلية.
يغادر فريدكن ولكنه يجد شخصاً يجري خلفه، هذا الشخص هو وليام بيتر بلاتي، يجذبه من قميصه ويقول:
مستر فريدكن أريد أن أشكرك.
لم يفهم فريدكن: على ماذا؟
بلاتي: على أمانتك…
أنا كاتب السيناريو الذي انتهيت من قراءته للتو، للأمانة أنا أيضاً أجده مريعاً.
ثم هز رأسه في أسف وتركه ومشى.
أربع سنوات للأمام
وليم فريدكن يقوم بعمل جولة في معظم الولايات الأمريكية خلال حملة الدعاية لفيلمه «الوصلة الفرنسية»، عندما يتسلم طرداً من البريد يحتوي على مسودة رواية تدعى «طارد الأرواح الشريرة» لمؤلف يدعى وليم بيتر بلاتي، يتذكر فريدكن الاسم بصعوبة ثم يتذكر موقفه معه، يفتح المسودة ويبدأ في القراءة، يتصل بالفندق ليلغي موعده على الغداء ويستمر لخمس ساعات متواصلة إلى أن ينهيها، يجد رقم التلفون على المظروف فيلتقط السماعة ويقول: مستر بلاتي… هذا إنجاز كبير.
بلاتي: هل تريد إخراج هذه الرواية؟
فريدكن: أنا… هل أنت متأكد؟
بلاتي: بالطبع
فريدكن: والاستوديو؟
بلاتي: دع الاستوديو لي
فريدكن: بالطبع أريد إخراج هذا الشيء.
في ما بعد سيصدر فيلم «الوصلة الفرنسية – The French Connection» ويحقق نجاحاً مذهلاً ويحصد فريدكن أوسكره الأول بعد أن كان في منافسة مستحيلة مع ستانلي كيوبريك، ويحصد الفيلم جائزة أفضل فيلم ليقول الاستوديو إلى بلاتي: الآن نحن نريد فريدكن أكثر منك.
عودة لاثني عشر عاماً للخلف
كان فريدكن في العشرين من عمره يعمل كمخرج لبرامج تلفزيونية، عندما قال له صديق إن فيلم «المواطن كين» يعرض في دار عرض مجاورة، فذهب ليرى الفيلم للمرة الأولى، ما حدث بعد ذلك أنه شاهد الفيلم أربعة عروض متتالية في نفس اليوم، دخل السينما ظهراً وخرج فجراً، قال في نفسه إنه لم ير شيئاً كهذا من قبل في حياته، في هذه اللحظة أدرك أن السينما كلغة من الممكن أن تكون كشفاً، اختراع.
أشياء لا بد أن تعرفها عن الويليام فريدكن
فريدكن يعشق فيلم «Z» للمخرج كوستا جرافيس وهو ما سيتأثر به طوال مسيرته، ما أذهله هو القدرة التي طبع بها المخرج فيلمه بحيث جعل أي شخص يرى الفيلم يصدق أنه حقيقي وأن هؤلاء ليسوا ممثلين بل أشخاصاً حقيقين، ما أذهله هو تنفيذ فيلم روائي كأنه تسجيلي، كل هذا ترك عنده انطباعاً حاداً بأن على الشاشة لا نخلق وهماً بل نطبع الخام بالحقيقة.
وليم فريدكن لا يقوم بإعادة اللقطة أبداً –إلا على حد قوله إذا حدث خطأ من الإضاءة أو الكاميرا ذاتها أو نفذ الخام داخلها- لأن الحياة بالنسبة إليه لا يوجد بها لقطة ثانية، لا يقوم بعمل بروفات، لأنه لا يفهم كيف سيأخذ الممثل إحساس الشخصية وهو في غرفة مكيفة، هو يلقي بالممثلين في الجحيم، يلقي بالممثل في اللوكيشن الحقيقي وملابس وإكسسوارات الشخصية فتظهر الشخصية من العدم.
السر في الأداء الحقيقي هو الكاستنج الدقيق (اختيار الممثلين المناسبين للدور). لا يصور في الاستوديوهات، بل دائماً في الأماكن الحقيقية.
البعض يسأل لماذا ما زالت مشاهد مطاردات السيارات في أفلامه- «الوصلة الفرنسية» و«لتعيش وتموت في لوس أنجلوس» ومشهد العبور الإعجازي في «المشعوذ» – هي الأفضل في التاريخ إلى الآن؟
الإجابة: لأنها حقيقية
يتذكر فريدكن هذه المشاهد بعد ذلك ويقول: إنني كنت محظوظاً للغاية أنه لم يتم إصابة أو موت أي شخص في هذه المشاهد.
نحن أمام شخص يتعامل مع الخام بطريقة دينية، إنه يجعله مقدساً وفريداً.
وهذا هو المخرج الذي كان يريده وليم بيتر بلاتي.
كان يريد مخرجاً لا يتعامل مع الرواية كأنها فيلم رعب، بل كان يريد شخصاً يتعامل مع الحادثة كأنها حقيقية والحقيقة أنها فعلاً حادثة حقيقية.
عودة إلى وليم بيتر بلاتي
يقول بلاتي: إنه أخذ يفكر في هذه القصة لأكثر من ثلاثة عشر عاماً إلى أن كتبها.
القصة الحقيقية كانت تتكلم عن ولد في الثالثة عشرة من عمره تم الاستحواذ الشيطاني عليه لكنه استبدل الفتى بفتاة في الرواية، فهي حادثة من ثلاث حوادث كانت الكنيسة الكاثوليكية كانت قد صنفتهم بأنهم «استحواذ شيطاني» ولم تجد لها حلاً وانتهت مأساوياً.
فمهنة «طارد الأرواح الشريرة» هي مهنة حقيقية، شخص تبعثه الكنيسة في حالات الشك في المس الشيطاني.
يقول وليم فريدكن: لم أكن أعلم بوجود هذه المهنة، لكن وجدت مذكرات هذا الشخص مع مذكرات الدكتور الذي كان مسؤولاً على الحالة، وحتى مذكرات الممرضات، لقد كنت مخرجاً محظوظاً بالمادة التي بين يديه.
يقول: في المذكرات بدت كل الحوادث حقيقية، لم يشك أحد فيهم بحقيقة ما يحدث وهذا ما أذهلني، ما تفسير كل هذا؟
للأمانة لا أعلم، هل أؤمن بهذه الأشياء، أيضاً لا أعلم
لهذا كنت أقول إن هذا الفيلم هو عن «لغز الإيمان» -(Mystery of faith).
هل الشيطان بابلي؟
في بداية فيلم The Exorcist، نرى تتابع مشاهد ملغز حدث في العراق، عبارة عن تنقيب أثري للحضارة البابلية، ثم نصطدم بتمثال شنيع يمثل كائناً أسطورياً في الميثولوجي البابلي بازوزو وهو إله الرياح والشياطين، التمثال يتكون من شخص له ذراعان تنتهيان بمخالب، له جناحان خلفيان، قضيب ينتهي بفم ثعبان، رجول ماعز وذيل عقرب، ثم يحدث المشهد الأيقوني، يقف القسيس (ماكس فون سايدو) أمام هذا البازوزو الذي سيصير مصدر الاستحواذ في روايات «طارد الأرواح الشريرة»، ولكن خلال الفيلم نفهم كيف تعامل وليام فريدكن بطريقة أكثر نضجٍ معه، ما جاء في الفيلم أنه رمز للشر ولكنه استعارة عن كل ما هو شرير وغامض وغير متحكم به، لكنه أبداً لم يكن شخصاً فاعلاً كشخص، ولكنه مصدر لقوة مجهولة، قديمة ضاربة في التاريخ.
في التحول التوراتي للعراق، ضربت أسطورة الشيطان أرضها مرة أخرى، فهناك أسطورة شعبية دارجة هناك عن إبليس عندما تم طرده من الملكوت لأنه رفض السجود لآدم نزل إلى أرض العراق، البعض هناك يمكنه تحديد قبره بدقة أيضاً.
ذلك شيء حسه فريدكن وهو داخل أرض العراق وأظهره بقوة.
فريدكن وفرانسيس فورد كوبولا
عندما توفي وليم فريدكن في السابع من أغسطس2023، نشر فرانسيس فورد كوبولا منشوراً يقول فيه: رحل المخرج الوحيد الذي أعرفه في العالم الذي كان سبب دخوله السينما هو إنقاذ حياة شخص …وقد نجح.
ما هذه الحكاية؟
الحقيقة أن فرانسيس يتكلم عن أول أفلام «وليام فريدكن» وهو الفيلم التسجيلي «الشعب ضد بول كرامب».
جاءته فكرة هذا العمل عندما قابل قسيساً خلال حفل خيري فسأله في أي كنيسة تعمل رد عليه وقال: لا أعمل في كنيسة بل في عنبر الإعدام في سجن محلي.
وجد وليام فريدكن هذه المهنة مثيرة للغاية فجاء إلى باله أن يسأله: هل سبق أن قابلت متهماً وشككت للحظه أنه بريء ولا يستحق الإعدام؟
فأجابه القس: هذا غريب، لأنه يحدث الآن، هناك متهم يدعى بول كرامب، وأنا أصدقه في كل شيء الحقيقة، لكنه على وشك أن يتم إعدامه ولا أستطيع أن أفعل شيئاً
هذا ما حدث، الباقي تاريخ، ذهب له الثوري الأخير وصور فيلماً عنه، كان سبباً في شحن رأي عام متعاطف مع بول كرامب، وتمت إعادة تقييم قضيته وتم إنقاذ حياته بسبب هذا الفيلم.
إذا كنت مازلت تسأل من هو «وليم فريدكن» فأعتقد أن هذه الحادثة كفيلة بشرح نوايا هذا الرجل تجاه هذا الفن.
يقول وليم فريدكن بعد صنعه هذا الفيلم: الآن أدركت أهمية السينما، إنها ممكن أن تنقذ حياة.